أوسكار 2025: Anora.. شرائح من الواقعية مغلفة بالسكر

time reading iconدقائق القراءة - 8
الممثلة الأميركية ميكي ماديسون تحضر مؤتمراً صحفياً لفيلم Anora في الدورة 77 لمهرجان كان السينمائي، في مدينة كان، فرنسا، 22 مايو 2024. - AFP
الممثلة الأميركية ميكي ماديسون تحضر مؤتمراً صحفياً لفيلم Anora في الدورة 77 لمهرجان كان السينمائي، في مدينة كان، فرنسا، 22 مايو 2024. - AFP
القاهرة -عصام زكريا*

منذ عرضه في مهرجان كان 2024، حيث انتزع السعفة الذهبية، يجول Anora ويصول في المهرجانات ودور العرض منتزعاً الجوائز وإعجاب الناس والإيرادات.. وغالباً ستتوج هذه المسيرة بحصول الفيلم على نصيب الأسد في جوائز الأوسكار.

من الناحية النقدية البحتة لا يمكن أن نضع Anora ضمن كلاسيكيات الفن السابع التي خلدتها السعفات الذهبية وجوائز الأوسكار (بالرغم من أن الأولى تعاني أحياناً من ذوق لجان التحكيم محدودة العدد، فيما تعاني الثانية من مشكلات التصويت بالجملة الذي كثيراً ما يؤدي إلى استبعاد الأعمال المختلفة عن الذوق السائد).

في الأول والآخر هو عمل خفيف، لذيذ مثل قطعة من الحلوى، مؤثر كالاستماع إلى أغنية مرحة، ولكنه ليس بالتأكيد سيمفونية، ولكن لديه أسباب ومقومات نجاحه اللافت.

بساطة الإتقان

Anora فيلم بسيط كما الماء، متقن الصنع كما لو أنه دون صانع، على عكس The Brutalist مثلا التي تظهر يد صانعه الثقيلة في كل مشهد ولقطة.

وAnora فيلم مسلِ كما ينبغي أن تكون التسلية، لن تجد فيه لقطة مزعجة أو مشهد شديد الوطأة على النفس، عاطفي أحياناً، وثاقب العقل أحياناً، ومضحك في كل الأحيان.

هو الوصفة المثالية لقضاء ساعتين وعشرين دقيقة من البهجة، تنسى فيها هموم العالم، ولكن سر Anora يكمن في أن هذه التسلية ليست نتاج عقل فارغ أو رجعي أو لئيم، كما نجد في كثير من الأفلام "التجارية" الشعبية، وإنما تشعر أن وراءه صانع فاهم في السياسة ومحب للناس.

وليس ذلك بالغريب على شون بيكر، مؤلف ومخرج ومؤلف ومنتج الفيلم، الذي طالما قدم أعمالاً تحمل الرؤية نفسها للعالم، والمتعة الفنية ذاتها، بدرجات وتنويعات مختلفة.

مكافأة الاستقلال

يحمل الفيلم روح صاحبه المكافحة، والذي يحتفل هذا العام بمرور ربع قرن على أول فيلم طويل قام بصنعه، خارج مصانع هوليوود، واحتفاظه طوال تلك السنوات باستقلاله المادي والفني، رغم كل الصعوبات والمعوقات التي تواجه الفنانين المستقلين.

وجزء من نجاح الفيلم يعود إلى تاريخ شون بيكر وأعماله السابقة، حين نمد الخطوط معاً، لترسم صورة لهذه الأعمال التي تضم 8 أفلام من بينها Take Out عام 2004، الذي يتتبع حياة مهاجر صيني في أميركا، وTangerine عام 2015، الذي يرصد حياة متحولة جنسياً تعمل في البغاء، و The Florida project عام 2017، الذي يتتبع حياة جماعة من الفقراء والمهمشين في أحد الأحياء السكنية "الشعبية"، وRed Rocket عام 2021 الذي يرصد حياة بطل أفلام إباحية يعاني الفقر والتشرد، ويمكن أن نرى Anora ضمن سياق أكبر وأشمل.

بطلة الفيلم "أنورا"، أو "آني"، كما تحب أن يناديها الناس، بأداء مايكي ماديسون الممتلئ بالطاقة والجاذبية، تعمل راقصة تعرٍ في أحد الملاهي الإباحية، وتكمل اهتمام بيكر بهذه الفئة من "المهمشين"، المنبوذين أخلاقياً وطبقياً، والمحرومين غالباً من الحماية الاجتماعية من تأمين صحي ومعاش، ويعانون من التنمر والاستعلاء. 

الفكرة في Anora أن بيكر يأخذ الشخصية ليضعها داخل ميلودراما عاطفية نمطية مستمدة من رواية "غادة الكاميليا"، أو "كاميل" التي كتبها الفرنسي ألكسندر دوماس الابن في منتصف القرن التاسع عشر، وتحولت منذ ذلك الحين إلى مئات المسرحيات والأفلام في الغرب والشرق، وقد تم اقتباسها عشرات المرات في المسرح والسينما المصريين بأداء كبرى النجمات، من روزاليوسف وليلى مراد إلى سعاد حسني، وقدمتها السينما الأميركية أيضا في عشرات الأعمال بأداء عشرات النجمات، من جريتا جاربو حتى جوليا روبرتس.

غادة كاميليا.. مفترسة

تروي "غادة الكاميليا" قصة بغي جميلة تربطها قصة حب بأحد زبائنها، وهو شاب نبيل من عائلة أرستقراطية، يقرر أن يتزوجها، ولكن الحواجز الطبقية والأخلاقية تحول بينهما، وتموت بفعل مرض السل في النهاية.

ولكن على عكس ميلودراما دوماس الكئيبة، يحول شون بيكر مزاج الحكاية (على الأقل حتى مرور منتصف الفيلم) إلى حكاية أطفال شعبية Fairy Tale، تشبه سندريللا (في الفيلم إشارة بالفعل على لسان إحدى زميلات البطلة تشبهها بسندريللا)، الفتاة الفقيرة التي يقع في حبها أمير البلاد، والتي تحولت أيضاً إلى عشرات الأفلام.

لكن بيكر يأخذ رواية دوماس وحكاية سندريللا إلى منطقة "عصرية" تجرد الحكايات القديمة من ميلودراميتها ورومانسيتها الزائدة، وترسم الشخصيات النمطية المعتادة بشكل أكثر واقعية.

مثل غادة الكاميليا يربط الحب بين "أنورا" وشاب صغير فاسد ومدلل يدعى "فانيا زكاروف"، من أصل روسي، وهو ابن لواحد من أكبر أغنياء العالم، الذي صنع ثروته غالباً من النشاطات غير المشروعة عقب سقوط الاتحاد السوفيتي.

يصور الفصل الأول من الفيلم، الذي يمتد لأكثر من 40 دقيقة، نمو العلاقة بين "أنورا" و"فانيا"، راسما، بضربات ريشة سريعة وعابرة، الفجوة الطبقية الهائلة بين رفاهية وسفه "فانيا" وعائلته، وبؤس  العمال والعاملات الفقراء، سواء كانوا بغايا أو خدم أو حراس أو فئة أعلى من الموظفين، وصولاً إلى لحظة ذروة العلاقة، وانتهائها في الوقت نفسه، حين يقرر الاثنان الزواج متغافلين ليس فقط عن شروط العالم من حولهما، ولكن عن حدود وطبيعة كل منهما، فلا هي ضحية فعلاً، ولا الأمير أميراً فعلاً.

إن علاقتهما في الحقيقة مبنية على "الغيبوبة" الناتجة عن المسكرات والمخدرات بأنواعها، وعلى عدم إدراك الواقع، فمجرد أن يعلم "الأمير المراهق" أن أمه وأبيه في طريقهما إلى الولايات المتحدة لإلغاء هذا الزواج "الباطل" وإعادته إلى موطنه يفر هارباً من عروسه، متخلياً عنها بندالة قياسية.

أما هي فبدلاً من أن تنعي حظها تتحول إلى نمرة مفترسة تضرب حرس "فانيا" والقس الذي يرأسهما، وترد صاع الإهانات التي توجهها أم "فانيا" إليها صاعين، ما يكسبها احترام الأب والقس والحراس، ومنهم حارس يقع في حبها منذ النظرة الأولى، ويصبح حبيباً وأميراً محتملاً وأكثر واقعية من الأمير المزيف.

حب وتلقائية

يرسم شون بيكر شخصياته بواقعية محبة، ربما أكثر من اللازم، حتى للشخصيات التي يدينها، ويبين أنهم صنيعة ظروفهم الطبقية الصعبة، باستثناء أم البطل، محدثة النعمة على ما يبدو، المخيفة والمتحكمة في ابنها، وباستثناء إحدى زميلات البطلة التي تعاني من الغيرة، والغيرة مرض كما تذكرها "أنورا".

وهو يدير ممثليه ببراعة استثنائية لكي يستخرج منهم أداءً طبيعياً ارتجالياً، وفي الوقت نفسه كوميدياً، يدفع المشاهد إلى تصديقهم والتعاطف معهم، وهو يبني فيلمه في 3 فصول أرسطية نموذجية، فاصلاً بينهم بلحظات صمت ولقطات عامة مثالية، ومحافظاً على تصاعد الإيقاع دوماً، وصولاً إلى نهايته الهادئة القوية، التقليدية.

ولعل أبرز ما فعله بيكر هو الطريقة التي أعاد بها كتابة "ثيمة" أكل عليها الزمن وشرب، فراح يزيل طبقة السكر المغلفة لحكاية "سندريللا"، وطبقة المثالية الزائدة لرواية "غادة الكاميليا"، كاشفاً عن مرارة وقبح العالم، بالرغم من أنه يعيد طلاء عمله بالسكر والرومانسية في النهاية، محافظا على ما بقي من توقعات جمهور يتكون معظمه من مراهقين حالمين لا يسعون إلى تغيير العالم بقدر ما يسعون إلى قضاء ساعتين من التسلية الممتعة، مع بعض التعليقات، الشبيهة بتعليقات "فيسبوك" و"انستجرام"، على الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة.

ربما يكون شون بيكر على حق، فالعالم لا يستحق التجهم ووجهات النظر الكئيبة (كما يفعل برادي كوربيت في The Brutalist مثلاً)، وربما يحتاج الناس إلى الهمس عوضاً عن الصراخ، وإلى الضحك أكثر من حمل الهموم، وهذا بالضبط سر نجاح Anora وجاذبيته الطاغية.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك