
كثيرة هي الأفلام والمسلسلات التليفزيونية السعودية (والخليجية)، التي تعود في الزمن لترصد تفاصيل الحياة والأفكار والصراعات الاجتماعية والنفسية التي شكلت المجتمع السعودي، والخليجي عموماً، وصولاً إلى مفترق طرق الحاضر.
مع الفوارق، تنتمي بعض هذه الأعمال، من ناحية، إلى ما يطلق عليه "أساطير التأسيس"، حين نقارنها بقصص وأفلام "الويسترن" الأمريكية مثلاً، ومن ناحية ثانية إلى ما يمكن أن نطلق عليه "المحاسبة التاريخية"، حين نقارنها بأفلام "الحرب الأهلية" اللبنانية.
ما بين تأسيس الدولة الحضرية الحديثة على حساب المجتمع البدوي بتقاليده وتراثه العريق، وبين تقصي الأحداث والمسارات الفكرية والعقائدية والسياسية التي تسبب في صدع وصراع بين الجديد والقديم تدور كثير من هذه الأعمال.
ولكن على كثرتها فإن مسلسل "شارع الأعشى" يتميز بين هذه الأعمال ويختلف، ليس لإنه يتناول قصصاً لم تطرح من قبل، ولكن لإنه يروي القصص القديمة من منظور مختلف، وبنبرة مختلفة: منظور الشخصيات التي غالباً ما كانت ثانوية في أعمال أخرى، وبنبرة رومانتيكية نسوية تغيب عن معظم الأعمال السابقة، وهي نبرة حنون، شجية، ممتلئة بالمرارة والحنين، معاً، نحو ذلك الزمن الضائع.
المسلسل، الذي يعرض ضمن موسم رمضان الحالي على منصة "شاهد"، مقتبس من رواية "غراميات شارع الأعشى"، ذائعة الصيت، للكاتبة بدرية البشر، الصادرة في 2013 عن دار "الساقي"، وهي رواية جميلة، جريئة، تدور منتصف سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، تلك الفترة المفصلية، التي شكلت تاريخ المملكة، والمنطقة بأسرها، لعقود تالية، والتي طالما شغلت بال الأدباء وصناع الأفلام والمسلسلات.
وفيما كانت تركز معظم الأعمال السابقة على رصد الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وغالباً من خلال سير الرجال، كما نجد مثلاً في "العاصوف" بأجزاءه، و"رشاش"، وأحدثها مسلسل "الشميسي" الذي كتبته بدرية البشر أيضاً، ويتناول الصراعات العائلية على الميراث، فإن "شارع الأعشى"، على النقيض، يخلو من هذه الصراعات الدموية، وإن كانت تلوح من بعيد في الخلفية، ويركز على أحوال القلب والحب وحكايات النساء. وبالتحديد كيف ساهمت أنماط الحياة الحديثة في تشكيل وعي النساء بأنفسهن، ومفاهيمهن عن الزواج والحب، وكيف أثر ذلك بدوره على مصائرهن، إيجاباً وسلباً.
التكنولوجيا والحب!
يبدأ "شارع الأعشى" بمشهد مجموعة من الفتيات يتحلقن حول جهاز "كاسيت" فوق سطح منزلهن، يستمعن لأغنية لسعاد حسني من فيلم "صغيرة على الحب" ويغنين ويرقصن، بينما يستمع إليهن ابن الجيران العاشق من الناحية الأخرى للجدار، ثم تدخل سيارة كبيرة حديثة شارع الأعشى تحمل تليفزيوناً ملوناً أتى به "أبو إبراهيم" لأسرته، التي تتحلق حول الجهاز الجديد مبهورة وسعيدة، يتكرر هذا المشهد لاحقاً حين يأتي إليهم بمكيف الهواء، ثم التليفون المنزلي.
يمهد صوت الراوية للحكاية بوصف البيئة التي يعيشون فيها: "كان يومنا يبدأ عندما يشغل أبي الراديو"، تحتل التكنولوجيا الحديثة للسبعينيات مساحة كبيرة من الرواية والمسلسل، فيما بعد يقوم ابنا "وضحى" بافتتاح محل شرائط كاسيت، سيكون هدفا للمتطرفين فيما بعد، هذا الادراك لدور الوسائط التقنية في تشكيل المجتمع والمواطنين ينم عن فهم عميق لدى المؤلفة، ويذكر بمقولات عالم الاجتماع والاعلام الشهير مارشال ماكلوهان في كتابه "الوسيط هو الرسالة"، الذي يقارن فيه بين التليفزيون والمصباح الكهربائي، ويرى أن دخول التليفزيون إلى أي مجتمع، بغض النظر عما يبثه من محتوى (مفيد وتقدمي أو متخلف وتافه) فإن النتيجة واحدة وهي تغير وعي المواطنين ورؤيتهم للعالم وتغير أنماط حياتهم.
في "شارع الأعشى" نرى مصابيح الشوارع الكهربائية (التي دخلت البلاد حديثاً) والراديو والتليفزيون والسينما (من خلال التليفزيون)، وكذلك الغسالة الكهربائية ومكيف الهواء والتليفون، ويتبين تأثير هذه الاختراعات كأفضل ما يكون على عائلة "وضحى" القادمة من الصحراء، والذين سرعان ما يتبنون هذه الوسائط ويتغيرون معها.. بالرغم من أن هذه الطفرة الحداثية المفاجئة تحدث أيضاً ارتباكاً لدى الأفراد والمجتمعات، التي لم تتهيأ نفسياً وعقلياً بعد لهذه التغيرات.
يروي "شارع الأعشى" كيف أثرت السينما والأغنية المصريين في تشكيل مفاهيم أجيال عن الحب والحرية والحياة الحديثة، وهو ما يتجسد في الابن "إبراهيم" الذي يدرس في القاهرة وفي الصورة التي تتخيلها "عزيزة" و"عواطف" ورفيقاتهما عن فتى الأحلام المثالي، والتي لا يجدن لها معادلاً في الواقع.
"شارع الأعشى"، بطريقة ما، هو حكاية الصدام بين الحداثة وأنماط الحياة القديمة كما يتجلى في قلوب الفتيات والأولاد!
دوائر من الحزن
الشخصية الرئيسية في "شارع الأعشى" هي "عزيزة"، الابنة الوسطى لأسرة "مستورة" الحال في رياض السبعينات، تتكون من الأب التاجر الطيب "أبو إبراهيم"، والأم "نورا"، وأبناءهما "إبراهيم" و"عواطف" و"عزيزة" و"فواز"، وحول هذه الدائرة تتحلق دوائر من الجيران والمعارف، لكل منهم قصصاً متوازية ومتشابكة، ترسم معاً دائرة المسلسل الكبرى.
تبدأ الدراما بدائرة خارجية تقتحم المجال المتجانس الذي يعيشه سكان شارع الأعشى، تتمثل في امرأة بدوية تدعى "وضحى" (إلهام علي) تظهر في المنطقة فجأة، مع أبناءها الأربعة، هاربين من جوع وهجير الصحراء، وباحثين عن ملاذ آمن بين حوائط شارع الأعشى الباردة التي مستها المدنية ورفاهة العيش وأجهزة التكييف.
وعلى مدار سنوات، نتتبع حياة عائلة "أبي إبراهيم" وعائلة "وضحى" وسكان الحي، من خلال قصص الحب المؤودة في قلوب "عزيزة" وأختها وابنتي "وضحى" وجاراتهن.
تُسرد رواية "غراميات شارع الأعشى" من وجهة نظر الشخص الأول، أي الراوي الذي يشارك في، ويشهد على الأحداث، وهو هنا "عزيزة"، التي تروي المسلسل، بأداء لمى عبد الوهاب، بعض التعليقات الصوتية voice over ما يوجه اهتمام المشاهد إليها باعتبارها الشخصية الرئيسية. ولكن "عزيزة" في الرواية والمسلسل تعطي شخصية "وضحى" اهتماماً خاصاً يجعلها الشخصية المحورية في العمل، ذلك أن اختلافها البين عن كل فتيات ونساء العمل هو ما يظهر هشاشة حياتهن وخواءها النفسي والعملي.
"وضحى" بين الرواية والمسلسل
يبدأ الفصل الثالث من الرواية بظهور "وضحى" وأبناءها كما يلي: "بعد صلاة العصر عاد أبي من المسجد ومعه سيدة غريبة يصحبها أربعة من الأطفال".
في الرواية لا ترى "عزيزة" ما حدث، ولكنها تعيد ما حكاه أبوها عقب عودته من المسجد، في المسلسل نشاهد ما حدث بشكل مباشر، ولكن يسبقه صوت تعليق "عزيزة"، المقتبس من الرواية، والذي يمهد لظهور "وضحى".
الاختلافات كثيرة بين النص الأدبي والمسلسل، لعل أبرزها ما يتعلق بشخصية "وضحى"، في الرواية هي أرملة بدوية في الأربعين وإن كانت تبدو أكبر من عمرها، ضامرة الجسد، تركت سنوات العمل والشقاء أثرها على ملامحها وصحتها، امرأة تلقائية وجريئة، ليس لإنها تتجرأ، ولكن لإن هذه طبيعتها، التي تتحدث مع الرجال دون خجل، ويتحدث معها الرجال، خاصة الكبار منهم، دون حاجز، لإنهم يعلمون أنها قادمة من زمن آخر، أكثر بساطة وطبيعية، لم تكن فيه الحواجز "البورجوازية" بين الجنسين قد نشبت بعد، ابنتا "وضحى" كانتا مشعثتا الشعر، لا يستر رأسهما شئ، ذلك أن الجائعين، كما تقول الراوية "لا يفكرون مثلما يفكر غيرهم بالسمت والوقار".
رغم الجهد الكبير الذي تبذله إلهام علي في تجسيد الشخصية، لكن شبابها وجمالها بعيدان عن "وضحى" الرواية، كما يجعلان بعض تصرفات "وضحى" في الرواية غير مناسبة للمسلسل، وعلى سبيل المثال تم اختزال الكثير من علاقات "وضحى" برجال الحي وسائق "باص" المدرسة، الذين يعاملونها كأم، ويتقبلون منها مالا يسمح للنساء بعمله، مثل مجالستهم والحديث معهم لساعات، وإلقاء الأشعار والحكايات البدوية عليهم.
كذلك تم اختزال علاقتها بـ"أم خزاع"، كبيرة بائعات السوق، والتي تحولت إلى مرشدتها لعالم التجارة و"البيزنس"، هذه العلاقات الأريحية الأليفة بين "وضحى" ورجال الحي وقدرتها على التجارة والإدارة، هي محور الرواية في الحقيقة، لإنها تعبر عن التناقض الكاشف بين "وضحى" وبقية نساء الحي.
"وضحى" نموذج مختلف، قادم من زمن آخر، أو ربما من المستقبل، قد تستعلي عليها معظم نساء الحي، لكنهن يحسدن استقلاليتها وقوتها وتحررها من القواعد والنواهي والقيود التي تفرض عليهن، وهذه الاستقلالية والقوة تخيف الرجال للوهلة الأولى، لكنهم سرعان ما ينسوا الفوارق الجندرية والاجتماعية ويتعاملون معها كأخت أو أم أو صاحب.
مسحة من السخرية
وعلى العكس من هذه الشخصية التي تثير الحسد والإعجاب، يغلب الضعف على نساء العمل الأخريات، الغارقات في طموحاتهن البورجوازية من ملبس ومأكل ومظاهر رفاهية، واللواتي يعانين من فراغ يحاولن ملئه بقصص حب ليس لها سيقان، غالباً ما تبتر أو يتم وأدها في المهد.
يحمل "شارع الأعشى" مسحة ساخرة خفيفة ومبطنة، فالأعشى يوصف بأنه شاعر الحب الأول في الجاهلية، والأعشى هو من يصاب بالعشى الليلي أو فقدان البصر المؤقت، وهو ما يحدث لـ"عزيزة" في منتصف الطريق، حين تنتقل من قصة حب فاشلة مع "عيسى" بائع السوق إلى قصة جديدة مع الطبيب المصري أحمد (يوسف عمر).
هذه القصص تحمل براءة الزهور والأطفال، ربما باستثناء حكاية الجارة "فلوة"، التي يزوجها أهلها برجل يكبرها بعقود يسئ معاملتها، فتخونه، وتخون صديقتها "عزيز"ة، بالدخول في علاقة مع "عيسى"، ما يتسبب في فضيحة مدوية.
قصص الحب في "شارع الأعشى" معظمها رقيقة، هشة، لا تصمد أمام قسوة الواقع.. لكن الحب الحقيقي هنا يكمن في تضامن هؤلاء الفتيات وصداقتهن وحمايتهن لبعضهن البعض.
في الحلقات الأولى نرى كيف تتدخل ابنة وضحى جازي (أميرة الشريف) لانقاذ عواطف (آلاء سالم)، ولاحقا نرى كيف تدخلت ابنة وضحى الثانية مزنة (مها غزال) لانقاذ الفتاة عطوى (طرفة الشريف) الهاربة من تعذيب أسرتها البدوية، والتي تضطر للتنكر في زي الرجال والسرقة.
ويجيد مخرج العمل، التركي أحمد كاتيكسيز، تصوير علاقة التضامن بين الفتيات بشكل شديد الشاعرية، وعلى العكس يهيم رجال المسلسل كذئاب منفردة، يجترون تناقضاتهم، يتنقلون من رقة الحبيب إلى قسوة الزوج والأخ ورجل القبيلة في غمضة عين، وهم لا يتجمعون معاً إلا للصلاة أو كجنود في جيش التزمت الديني الذي سرعان ما سينقلب إلى إرهاب وعنف.
ولا تقع مؤلفة الرواية أو كاتبة السيناريو منال العويبيل في خطأ التعميم، فعلى النقيض من هؤلاء الرجال يقف "أبو إبراهيم"، الذي يؤديه خالد صقر بحنكة وتواضع ممثل كبير، كنموذج إيجابي للزوج والأب المحب، الخدوم لجيرانه وبيئته، الرافض للتطرف والتشدد المبالغ فيه.
ومن أفضل الشخصيات كتابة وتمثيلاً أيضا شخصية الأم المحافظة، المحبة والحامية لبناتها، التي تؤديها عائشة كاي بتمكن ممثلة محترفة.
وبشكل عام كل شخصيات "شارع الأعشى" مكتوبة جيداً وكل منها يحمل خصوصيته واختلافه، وهو ما يساهم، بجانب اختيار الممثلين، وأداءهم الجيد، والإخراج المتميز، في نيل حب وتعاطف المشاهد مع معظم الشخصيات، وتماهيه مع أفراحهم وأتراحهم!
* ناقد فني