
قبل 4 أعوام، وخلال الموسم الرمضاني 2021، أجرى كاتب هذه السطور حواراً مع المخرج تامر محسن تلمسنا فيه ملامح شغفه بمسألة الصدام بين العوالم المختلفة، منذ أن قدّم أولى تجاربه مع الراحل الكبير وحيد حامد في مسلسل "بدون ذكر أسماء" عام 2013، ثم فيلم "قط وفأر" عام 2015، ثم بعد أن بدأ يعمل بقلمه كتابة وتأليفاً كما في مسلسله الأشهر "هذا المساء" عام 2017، حيث تتجلى في كل تجربة فكرة الصدام العنيف بين عالمين مختلفين، ويكاد يكونا متنافرين.
وأخذت المسألة خطوة أوسع في مسلسل "لعبة نيوتن" عام 2021، حيث بدأ مشروعه الدرامي بدائرة صدام العوالم من خلال أشخاص، ثم تطور إلى طبقات اجتماعية، ثم على مستوى الحضارات، كما رأينا في مشهد المحاكمة التي تُلقي فيها شخصية "هنا" منى زكي، مرافعتها حول الاختلاف ما بين تصورها عن علاقتها بابنها في مصر، وعلاقتها به في أميركا، كدليل على اتساع مساحة الصدامية وطموحها بالنسبة لمحسن كبيئة نفسية وشعرية تنمو فيها حكاياته عن البشر والعلاقات.
هذا الموسم يقدم محسن تجربته الجديدة "قلبي ومفتاحه" مع الكاتبة نفسها التي قدّم معها "لعبة نيوتن" قبل 4 أعوام مها الوزير، دون أن يبتعد عن غواية الصدام بين العوالم المتنافرة، وتيمة الخروج من البيئة الآمنة إلى "دنيا" مختلفة بصورة جذرية، وهو الخروج الذي يحرك خياله وهمومه الإبداعية.
نماذج بشرية
في تجاربه السابقة، شاهدنا الشاب الخجول المنطوي الكرتوني، وهو يدخل عالم وزير الداخلية المستبد لكي يستعيد جثمان أمه الخادمة التي توفت في فرح بنت الوزير "قط وفأر".
وشاهدنا الزوج رجل الأعمال الناجح المتزوج من امرأة أرستقراطية شامخة الأصل والملامح، وهو يقع في حب صاحبة المسمط التي تحول له منزلها المتواضع إلى حرملك مفتقد قبل أن تعلن له أن نتيجة دخوله عالمها الصغير هي ثمرة تتشكل في أحشائها الجافة منذ زيجتها الأولى البائسة، "هذا المساء".
وهناك بالطبع الزوجة المصرية التي أرادت أن تمنح ابنها القادم مستقبل أكثر نضارة حسب نظرتها الضيقة، فتسافر إلى أميركا، كي تمنحه الجنسية، فتسلبها إياه القوانين المغايرة لعالم آخر لا يشبه الزاوية المحدودة التي جاءت منها، كما في "لعبة نيوتن".
بالمناسبة يبدو "محمد عزت" بطل -أو لا بطل- "قلبي ومفتاحه" هو الوجه الذكوري لشخصية "هنا" في "لعبة نيوتن"، هناك قدراً من التشابه بين "هنا" في بداية تجربتها في أميركا بهذا القدر من البراءة والطيبة -حتى لزوجها "مؤنس" عن بعد- وبين الطيبة والنقاء والخفوت الشخصي الذي يتسم به "عزت"، والذي لا نراه تقريباً يرفض طلباً لأحد خلال أكثر من نصف الحلقات، بما فيهم الطلبات المتطرفة كعرض الزواج من الزبونة الجميلة الخشنة، ثم طلب الطلاق في الليلة نفسها، ثم الزواج ثم الطلاق -في لعبة "قط وفأر" يبدو لـ"ميار" اليد العليا فيها- أو حتى على مستوى انصياعه لرغبة خاله "الشناوي" أن يعمل مع "أسعد" الشرير الرائع، وإقناع "أسعد" له أن يمضي على نفسه شيك بمليون جنيه ضماناً وسيطرة.
يبدو "عزت" وكأنه تم تحويل "هنا" إلى رجل ومد خط الاستجابة على استقامته، مما أدى إلى دخوله لعالم "أسعد" و"ميار" أو لنقل إلى أحراش شارع "اللبيني" في محافظة الجيزة، كما تصورها كاميرا الدرون في لقطة متكررة تبدأ من أعلى الأفق المفتوح نزولاً إلى أسفل وسط العمارات والمنطقة الشعبية، والتي تختلف بشكلٍ كبير عن الحي العتيق الأصيل، رمز عالمه الدافئ المغلق، الذي يعيش فيه "عزت" مع والدته.
خروج "عزت" أصلاً للعمل كسائق تطبيق نقل، هو في حد ذاته خروج غير آمن من عالمه المحدود إلى الشوارع الواسعة، فهو قضى فترة دراسته في معامل الفيزياء المغلقة تحت وطأة أم متسلطة بحنانها الزائد، ثم تعرض للاحتيال من قبل شريكه السابق، ولم يوافق على أن يقاضيه؛ لأنه يكره الأذى.
شخصية خطيرة
على مستوى البناء، يعتبر "عزت" شخصية خطيرة على أي صراع درامي، لأن أفعاله محدودة وأغلبها هو ردود فعل وليست قرارات، وبالتالي يظل تطور الصراع لمستوى أعلى مرهون بقرارات شخصيات أخرى، على رأسهم بالطبع (أسعد/دياب)، الذي التف حوله جل اهتمام المشاهد ليس فقط لقوة بناء الشخصية ولا لمتانة الأداء.
وتمكن دياب من القبض على كل جمرها المشتعل، ولكن لأن "أسعد" درامياً، ومن بعده "ميار" بالطبع، هما اللاعبان الأساسيان اللذان تعتمد عليهما الدراما لتصعيد الصدام وخلق شحنات التوتر، بينما تأتي استجابة "عزت" كشخصية منقادة -درامياً- هي المكمل، لكي تعود الذروة مرة أخرى إلى "أسعد" أو "ميار" طوال الحلقات تقريباً.
ربما بسبب وضع شخصية "عزت" الدرامي، اتهم جماهيرياً بأنه شخصية ضعيفة و"غلبان" بالتعبير الشعبي الدارج، صحيح أنه في لحظة ما يواجه "ميار" ويدافع عن نفسه في مشهد السيارة الشهير، وكأنه يشرح موقفه للجمهور، ولكن سر الاتهام تحديداً على المستوى الدرامي سببه كما أشرنا ليس لأنه شخص طيب ونقي "مش عارف ليه حد يكذب أصلاً" على حد تعبيره الراقي عن استغرابه من فعل الكذب الذي يمارسه البشر بشكلٍ مجاني وسهل.
ولكن لأن البناء الدرامي بالأساس سحب من "عزت" منذ البداية العديد من العناصر التي تؤهله، لكن يثقل في ميزان التوحد أو الارتباط به على عكس "أسعد" الذي رغم كل شروره، إلا أن نشاطه الدرامي وتناقضاته الواقعية والملموسة في المجتمع من حولنا، ودأبه كخصم على أن يسير دون هوادة باتجاه تحقيق أهدافه دون انتظار ردود فعل الآخرين -بل هو صاحب الفعل، ورد الفعل كما شاهدنا في الحلقات الأخيرة- وصولاً إلى النهاية نصف الشعرية، نصف البوليسية التي أودت به، والتي لا تليق على مستويات كثيرة بشرير رائع مثله.
سردية العوالم المتصادمة
على ما يبدو أن صُنّاع العمل اختاروا طريق الرهانات الصعبة فيما يتعلق بسردية العوالم المتصادمة، خصوصاً فيما يتعلق بشخصيات "عزت" و"ميار" -التي يظل تاريخها غائماً وغير يقيني- ربما أكثر من "أسعد" الذي سريعاً ما نعرف الكثير عن خلفياته وحياته وحاضره، بينما يبدو كل من "عزت" و"ميار" سابحين في غموض يغلف تاريخهما الذي يتكشف ببطء عبر الحلقات.
الرهان المقصود هنا، هو الرهان على صبر الجمهور لكي يتخذ موقفاً منهم، خصوصاً "عزت"، على مستوى سيكولوجية التلقي لا يستطيع المتفرج أن يكوّن موقفاً واعياً أو غير واعٍ، متوحد أو نافر من أي شخصية في أي عمل قبل أن يتعرف على جانب كبير من تاريخ الشخصية، لكي يطمئن وجدانه إلى أن الموقف الذي تشكل بداخله، هو الموقف الصحيح للانسجام أو تحقيق الإيهام اللازم لكي يقتنع بدوافع الصراع ونتائجه، وصولاً إلى الذروة وتحقق الفرضية.
رهان الثنائي تامر محسن ومها الوزير، على هذا الصبر تاركين "أسعد" يصول ويجول بقرارته، و"ميار" تعيد إنتاجها في سياق علاقتها بـ"عزت" الذي سريعاً ما يستجيب لكل ما يُطلب منه، صحيح أن هذه الاستجابة تحقق للصراع فكرة تورط الشخصية في عالم ليس لها ومن الصعب عليها فك شفرته، وهو ما يزيد من تورطه في رمال عالم "اللبيني" المتحركة، ورمال علاقته بميار التي تتحول إلى غرام شديد يحيط بكل حواسه.
صحيح أن هذا ربما يحقق جانباً من الفرضية التي يمكن اعتبارها سؤالاً يبدأ بماذا لو أن شخصاً بريئاً نقياً عفيف اللسان طيب الأخلاق هادئ الطباع مستجيب ومنقاد يدخل أو يهبط -حسب حركة الكاميرا المشار إليها- إلى عالم سفلي ملوث بالكذب والدكتاتورية والتجبر وفرض النفوذ والتحكم الذي يصل إلى حد الشعور بألوهية كاذبة، يكاد "أسعد" في بعض الأحيان أن ينطق بالآية الشهيرة للملك النمرود "أنا أحيي وأميت".
هذا السؤال المفترض لصدام عالمين يأتي عبر بوابة قصة الحب الغريبة بين غريبين، وهو ما يقودنا للحديث عن النوع الذي اختاره الصنّاع من أجل أن يصبغ تأويلات الإجابة، الإثارة الرومانسية المغلفة بخاتم الجريمة "Romantic Thriller Crime"، وهو ما انعكس بشكلٍ كبير من خلال اختيارات عناوين الحلقات من أشهر أسماء الأفلام في السينما المصرية، التي قدمت هذا الخليط من الأنواع، ولكن مع غلبة الرومانسية عليها بما فيها حتى الكوميدي، مثل "إشاعة حب" أو "يوم من عمري"، بالإضافة إلى اختيار عناوين تخص العلاقة الثلاثية الشهيرة الزوج والزوجة والحبيب مثل "طائر على الطريق" و"موعد على العشاء" و"أنا وأنت وساعات السفر" أو العلاقات الثلاثية بشكلٍ عام مثل "السفيرة عزيزة" الزوج والزوجة والأخ الشرير، أو "سلام يا صاحبي" الزوج والزوجة والعاشق المحروم، أو الحبيب والحبيبة والعلاقة المستحيلة كما في "يوم من عمري"، أو الفوارق الطبقية أو الاجتماعية مثل "المتوحشة" أو الحبيب والحبيبة والمجتمع الذي يحول بينهما مثل "الحب فوق هضبة الهرم"، وصولاً إلى أقصى تجليات العلاقة الثلاثية في مستواها النفسي المعقد، كما يأتي عنوان حلقة "زوجتي والكلب"، وهو فيلم يتحدث عن زوج خائن تعذبه خيالات خيانة زوجته مع مساعده الشاب الذي يرسله بخطاب لها، بينما هو منعزل في فنار بعيد، بل يبدو عنوان الحلقة وكأنه على لسان شخصية "أسعد" حين يكتشف العلاقة/ الزيجة بين "أسعد وميار".
اختيارات ذكية تعكس ثقافة سينمائية واعية، وتحية واجبة لمخزون من تاريخ السينما المصرية العريقة، وتأطير لطبيعة النوع الغالب على التجربة ككل، وإن كانت النهاية للأسف انحازت إلى لون الجريمة، وتحولت إلى ذروة بوليسية، وتاهت التفاصيل التي تخص قصة الحب التي تتعرض لاختبار عنيف عبر مؤامرة "أسعد" بتصوير "ميار، وعزت" في غرفة الفندق، ومحاولة بث الشك في قلبها بأن "عزت" هو من ارتكب هذا، وهي أزمة عنيفة كانت تتطلب أكثر من مجرد اقتناع "ميار" المطلق، ودون أن يبدو عليها الشك حتى في أن "أسعد" هو من وراء الفيديو! ومن قبل حتى أن يعلن "عزت" من سجنه أن "ميار" زوجته، وبالتالي ينفي عن نفسه تهمة تصويرها في لحظاتهما الحميمية.
حيل ساذجة
مشكلة ذروة العمل أن انحيازها لنوعية الجريمة وتلفيق تهمة القتل عبر حيلة ساذجة، مثل وضع جثمان متعفن في سيارة "عزت" -وهي حيلة فتحت أبواب الجحيم على أسعد نفسه بمنتهى الغباء- المشكلة هي أن الجريمة أيّاً كان توظيفها تظل وضع استثنائي على مستوى المشاعر والانفعالات والتفاصيل، وتستدعي التعاطف مع الشخصية البريئة المتهمة مهما كانت الخصومة العاطفية -كما رأينا ميار وهي تجزم لعزت أنها لا تشك فيه، وأنها تعلم أن أسعد وراء الفيديو- في حين أن اللون الرومانسي يكسب المشاعر والعلاقات عمقاً أكبر، خصوصاً أنه متراكم بصورة وجدانية كبيرة عبر عشرات التفاصيل خلال الحلقات.
بداية من الأغاني، ومشهد الرقصة، والمقابلات الجسدية، وحالة الاحتفاء بالنظرات الرقيقة، ليس فقط بين "عزت وميار" ولكن حتى على مستوى الشخصيات الفرعية، مثل العلاقة الثلاثية الأخرى بين "عم نصر" بائع الطعمية، و"شناوي خال عزت" و"مهجة أم أسعد"، أو العلاقة الثلاثية الأخرى والأقل حضوراً والأكثر خفوتاً وركاكة، وهي علاقة "أخت أسعد"، و"أحمد الذي يعمل عنده"، و"ابنة خالة عزت" التي أرادت أن تنتقم لكرامتها من رفض "عزت" لها.
هناك أيضاً رهاناً آخر، لكنه غير موفق نسبياً بأن يحافظ النص على جاذبيته حتى النهاية عبر الجريمة، وليست عبر الإثارة العاطفية، وهو ما جعل الحلقة الأخيرة أقرب لانتكاسة ما بعد الذروة، لأن الذروة العاطفية تحققت بلم الشمل العاطفي والمادي بين "عزت" و"ميار" بهروبها معه أم القبض على "أسعد" بسبب الجثة المدفونة عنده في المخزن، فهو تحصيل بوليسي حاصل ومتحقق في خيال الجمهور من البداية، ولم يكن هناك ما يستدعي انتظاره أو التفاجئ بحدوثه، بل أن استسلام "أسعد" وجلوسه "بالشراب" في منزله، وكأنه ينتظر الشرطة لتكتشف الجثة، وتقبض عليه بدا غير مفهوم أو مناسب لطبيعة شخصيته! والتي انهارت فجأة أبعادها الراسخة من البداية، وصارت أكثر هشاشة، ليس فقط بسبب السر الذي اكتشفه، والذي أشعل جوفه ناراً، وجعله في الحلقات الأخيرة يكثر من شرب الماء، وهي تفصيلة شعرية رائعة، ولكن بسبب أن الحلقات يجب أن تنتهي بأن ينال الشرير عقابه.
رغم أن هروبه على سبيل المثال وتهديده للعلاقة بين "أسعد وميار" وإصرارهما على أن يبقوا سوياً، رغم ذلك يتناسب أكثر مع طبيعة الشخصية المرسومة من البداية، فنحن نراه محاطاً لأي أزمة مشابهة بالحصول على جنسية أجنبية تتيح له خروج آمن في أي وقت، وهي الجنسية التي لم يستغلها سوى في دخول نادي القمار غير المسموح للمصريين، كذلك طبيعة اللون الذي اختاره الصنّاع لثوب الحلقات كانت تشير إلى أن الذروة المقبلة عاطفية إنسانية أكثر منها بوليسية، ولكنهم اختاروا الحل الأسهل والأكثر طمأنة للجمهور بأن العدالة يمكن أن تتحقق أحياناً -على عكس الواقع- وأن الشرير ربما يأخذ عقابه، ولكن على الشاشة.
تبقى الإشارة إلى أن "قلبي ومفتاحه" سوف يظل، رغم الرهانات الصعبة والهنات السردية، واحداً من أهم الأعمال التي عُرضت خلال النصف الأول من موسم رمضان 2025، وأن التحديات التي خاضها تامر محسن كمخرج تحديداً على مستوى توجيه الممثلين، من سيطرته على مي عز الدين التي اتسمت تجاربها الأخيرة بالهيستريا، واللون الشعبي الفاقع، وتقديمه لدياب في قمة نضجه الأدائي بعد الذروة التي بلغها سابقاً في تجربة "تحت الوصاية" قبل عامين، وإعادة إنتاج لأداء أشرف عبد الباقي الجاد، أو حتى استدعاء محمود عزب في دور ميلودرامي بعيداً عن صورته الذهنية الكوميدية القديمة، كل هذا يعني أن التجربة لا شك سوف تضاف إلى رصيد هذا المخرج صاحب المشروع المتراكم والرؤية المتجددة.
* ناقد فني