
إذا كانت هوية الإنسان عبارة عن ذاكرة، وكان من الممكن تخزينها على شريحة إلكترونية، وإذا كان الجسد يمكن استنساخه بالمواصفات نفسها، لعمل نسخة مطابقة للمرء، فما الذي يمنع الإنسان من أن يتكرر، بالجسد نفسه والذاكرة نفسها، عقب موته؟
هذه هي الفرضية التي ينبني عليها فيلم Mickey 17، تأليف وإخراج بونج جون هو، الكوري الذي أقام الدنيا منذ 6 سنوات بفيلمه Parasite الذي حصد الأوسكار وعشرات الجوائز الدولية الكبرى.
في Mickey 17، يعود بونج جون هو إلى نوعه الفني المفضل، وهو قصص الخيال العلمي التي تدور في عالم مستقبلي خيالي، لكنه صورة مضخمة ومبالغ فيها للواقع الاقتصادي والسياسي، ولعلاقات السلطة والخضوع على مستوى الأفراد والطبقات، كما فعل من قبل في فيلم ومسلسل Snowpiercer وفيلم Okja.
يستقي Mickey 17 فرضياته من العملين السابقين، من Snowpiercer فكرة اتحاد العلماء والأثرياء للنجاة في حالة دمار كوكب الأرض، باختراع قطار لا يتوقف أبدا يستقله الناجون، وهي الفكرة التي عالجها أيضا في Parasite، ولكن بشكل أكثر واقعية، من خلال الأنفاق المضادة للقنابل النووية التي يبنيها الأثرياء تحسبا لأي حرب محتملة. في "ميكي 17" تتمثل النجاة في الهرب إلى كوكب جليدي اسمه "نيفهايم" تقوم باحتلاله بعثة شركة عملاقة يرأسها رجل أعمال وسياسي يشبه ويتحدث مثل دونالد ترمب!
الفكرة الثانية هي الاستنساخ والكائنات المخلقة بالهندسة الوراثية التي سبق أن عالجها جون هو في فيلم Okja، والتداعيات الأخلاقية والبيئية التي يمكن أن تنتج عن هذه التجارب.
الخيال العلمي في أعمال جون هو، إذن، لا يتعلق بالآلات أو الذكاء الاصطناعي أو حروب الكواكب الأخرى، ولكنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالإنسان والأنظمة الاجتماعية والأخلاقية التي تحكمه، وتحوله إما إلى مستغلٍ أو مستغلَ، إلى وحش أو كائن طفيلي.
سادة وعبيد في الفضاء البعيد
تدور أحداث Mickey 17 في 2050، حيث يستطيع العلماء تحقيق حلم السفر إلى الكواكب، ولكن هذا السفر يقتصر بالطبع على الأثرياء وأصحاب السلطة، والإشكالية دوما، كما في Snowpiercer وParasite، أن هؤلاء السادة يحتاجون إلى عبيد أو أناس يخدمونهم، ما يعني أن الصراع الطبقي لا يمكن حله أو القضاء عليه.
يبدأ Mickey 17 بشركة سفريات الكوكب الجديد تطلب موظفين وعمالاً في مهن مختلفة، ومن بين المتقدمين شابان هاربان من ديون رجال العصابات، يتقدم أحدهما لمهنة قائد سفينة، بينما الثاني، عديم الإمكانيات، بطلنا، ميكي بارنز (بأداء روبرت باتنسون)، يتقدم لمهنة لا يرغب فيها، ولم يتقدم إليها، أحد، وهي مهنة Expandable أي "مُستهلَك"، أو "قابل للتخلص منه"! وإذا كنت تعتقد أنها مهنة "خيالية" لا وجود لها في الواقع، فانتظر قليلا لتتأكد أنها حقيقية وموجودة في العالم بالفعل!
يعمل "ميكي"، حرفيا، كفأر تجارب معملية، يتم إرساله في مهمات على الكوكب الجديد يمكن أن يموت فيها، ثم يعاد طباعته، أي إعادة إحياءه، بالذاكرة نفسها، والجسد نفسه.
يبدأ الفيلم، على لسان ميكي، في نسخته السابعة عشر، يروي قصته منذ البداية، ولكن عندما يتم إرسال النسخة الـ17 منه لتموت بواسطة حيوانات غريبة "زاحفة"، يعتقد خطأ أنه مات، فيتم عمل النسخة 18 منه، وعندما ينجو من الموت على أيدي سكان الكوكب "الزواحف"، يعود ليكتشف وجود نسخة أخرى منه، الثامنة عشر، لتبدأ الفوضى.
لقد أصدر رئيس البعثة والشركة كينيث مارشال (مارك روفالو) قرارا بأنه في حال وجود مستنسخين يتم قتلهم كلهم.. وهكذا يجد ميكي وميكي نفسيهما مهددين بالموت، قبل أن تدق طبول الحرب بين البشر والزواحف بسبب قيام علماء البعثة بخطف "زحلوف" صغير لإجراء التجارب عليه.
مرة أخرى، وكما في معظم أعماله، يلقي جون هو تلك النظرة الحادة لعالمنا الرأسمالي المعاصر، القائم على العبودية تحت مسميات مختلفة، والذي يتغذى على، ويتسلى بالقتل، مثلما كان يفعل الرومان بالعبيد.
عبر الفيلم نسمع عن سفاح يقتل المشردين، ومرابي يحصل مستحقاته بقتل المديونين بالبطئ بنزع أعضائهم، بجانب العلماء الذين يرسلون ميكي إلى الموت مرة تلو الأخرى.
إن مهنة "المُستهلَك" التي يعمل بها ميكي ليست خيالاً محضا. كان الرومان يخطفون العبيد، ويجعلونهم يتقاتلون ضد بعضهم البعض حتى الموت، لمجرد التسلية. وفي العصر الحديث كان يتم إرسال المجرمين المحكومين في مهمات مميتة خلال الحروب، ولعل آخر استخدام لهذه الفكرة تم في حرائق أميركا الأخيرة.
الأمثلة كثيرة حولنا، ولعل وجودها الغامض هو أحد أسباب نجاح سلسلة أفلام The Expandable التي تجمع أبطال الأكشن السابقين ليشاركوا في بعض المهمات الانتحارية على طريقة المصارعين الرومانيين القدامى.
تعليقات سياسية
كما في أعماله السابقة أيضا يفحص جون هو العلاقة بين الرأسمالية والفاشية، كيف تؤدي الأولى إلى الثانية بالضرورة، وتعززها، كيف يتم التعامل مع المهاجرين والفقراء؟ وكيف يتم قمع الرأي المختلف، ومن خلال أداء مارك روفالو الساخر الذي يقلد فيه الرئيس ترمب، يحمل الفيلم إحالات لا تخفى على أحد عن عالم اليوم.
ولكن الحقيقة أن الفيلم ليس مجرد تعليق على السياسات الحالية لترمب، بقدر ما هو تعليق على النظام بشكل عام، بدليل أن الرواية التي اقتبس منها الفيلم للكاتب إدوارد أشتون صدرت قبل أكثر من 10 سنوات، كما أن الفيلم نفسه تأخر تنفيذه، وكان يفترض أن يعرض العام الماضي قبل الانتخابات الأميركية.
يغلف جون هو فيلمه بحسه الساخر المميز، الذي استخدمه بنجاح فائق في Parasite، ولكنه هنا أغرب مذاقاً، وصادم أو مقزز في بعض الأحيان.. ما يؤدي إلى عكس الهدف منه.
بناء غير متماسك
يبلغ زمن Mickey 17 حوالي ساعتين وربع الساعة، وهو زمن ليس طويلاً نسبياً، ولكن يبدو أطول على الشاشة بسبب بعض البناء غير المتماسك والخلل الإيقاعي في منتصف الفيلم.
هناك خطوط درامية كثيرة كان يمكن الاستغناء عن بعضها مثل أسباب هرب البطل من كوكب الأرض الذي كان يمكن الاستغناء عنها، والخط الجنسي المرتبك بين ميكي ونسخته وصديقته وضابطة الأمن التي تحاول إغواءه، بينما كانت بعض الخطوط تحتاج إلى مزيد من الإشباع، مثل الرسم السيكولوجي للبطل الذي يذهب ويعود من الموت، ومثل حبيبة البطل ناشا (ناوومي آكي) التي كان يمكن رسمها واستغلال شخصيتها بشكل إنساني أعمق مما ظهر على الشاشة، ومثل خط السكان الأصليين للكوكب، وصراعهم ضد الغزاة البشريين المستعمرين.
لقد تكلف الفيلم 180 مليون دولاراً، حسب المعلومات المنشورة، وهو رقم فلكي مقارنة بأعمال المخرج السابقة، قليلة التكلفة، ولكن الفيلم دليل آخر على أن المال وحده لا يكفي لصنع فيلم عظيم، بل أحياناً ما يربك العملية الإبداعية ويشتتها، كما في Mickey 17.. إذ يبدو أن بعض الشخصيات والخطوط والمشاهد وضعت لمغازلة جيوب الجمهور.
وللأسف مني الفيلم الذي بدأ عرضه الشهر الماضي بفشل في شباك التذاكر، وقد ذكرني الفيلم، لأسباب كثيرة، منها موضوعه، وطموحه الفني، وحسه الكوميدي الغريب، وميزانيته الضخمة، وفشله الذريع بأحدث أفلام العملاق فرانسيس فورد كوبولا Megalopolis.
هذان فيلمان يحزن المرء على سقوطهما، ولكن، كما يقول المثل المصري المعروف: ما يقع إلا الشاطر!
* ناقد فني