Snow White.. عندما تُبطل الصوابية سحر الفن

time reading iconدقائق القراءة - 10
الملصق الدعائي لفيلم Snow White من إنتاج ديزني - facebook/DisneyMENA
الملصق الدعائي لفيلم Snow White من إنتاج ديزني - facebook/DisneyMENA
القاهرة -عصام زكريا*

يبدو أن الحكايات القديمة لم تعد صالحة لعصر الصوابية السياسية واستقطاب مواقع التواصل والتأويل المفرط، لقد ضاع السحر في أعمال تعيد كتابة الأساطير والحواديت الخرافية بحسابات النسوية والأقليات العرقية والجنسية والاختلاف البدني، وبقية المعادلات الرياضية المعقدة، التي يصنع بها كل فيلم ومشهد هذه الأيام.

ولعل أكثر شركة تعاني من هذا الوضع الكارثي هي "ديزني"، التي صنعت مجدها على أفلام الفانتازيا والحكايات الشعبية القديمة، التي لم تعد صالحة الآن لإثارة الدهشة (مع الاعتذار لعنوان قصة الأديب يحي الطاهر عبد الله).

هل نلغي الحواديت؟

إذا رجعت إلى معظم الحكايات الشعبية الخرافية، من "ألف ليلة وليلة" إلى حكايات أندرسون وبيرو والأخوين جريم، وصولاً إلى "سيد الخواتم" و"هاري بوتر"، سوف تجد أشياءً قد تثير حساسيات كل أنواع المهمشين والأقليات، من النساء إلى الملونين إلى قصار القامة.. ومنذ عدة سنوات ارتكب المسئولون عن "ديزني" خطأً قاتلاً أتصور أنه حكم على الشركة وانتاجها بالانهيار، وهو إعادة النظر في حكاياتها القديمة لتقدمها بروح وأفكار العصر.

والمشكلة ليست في المبدأ ذاته، وإنما في أن "روح العصر" هذه لم تتشكل بعد بشكل نهائي، وهي ليست روحاً بل "حالة" من الشقاق والفرقة والأفكار المتطرفة من الجانبين (جانبي النقاش حول أي موضوع!)، والنتيجة أن كل إصدارات "ديزني" خلال السنوات الماضية فشلت أو حققت نجاحات متوسطة مقارنة بالشعبية الهائلة والنجاحات الفلكية التي كانت تحققها أعمالها القديمة.

أحدث وأكبر الضحايا هو فيلم Snow White، الذي طُرح في دور العرض منذ عدة أسابيع بعد ترنح لسنوات في الإنتاج وإعادة التصوير والمونتاج وتغيير مواعيد العرض، إضافة للجدل الذي أثارته بطلتا الفيلم، واحدة بسبب انحيازها للفلسطينيين وكراهيتها لترمب، والثانية بسبب تأييدها للكيان الصهيوني وكونها جندية سابقة في جيشه.

ومنذ الإعلان عن صنع الفيلم، أثار مجرد توظيف ريتشل زيجلر، الكولومبية السمراء، في دور "سنووايت"، أي "البيضاء كالثلج"، حملة هجوم عنصرية على السوشيال ميديا، تضاعفت بعد تصريحات زيجلر قبل عرض الفيلم التي انتقدت فيها القصة الأصلية وقالت أنها "تركز على قصة حب سنوايت مع رجل يلاحقها..غريبة! غريبة!".

زيجلر أشارت في حوار آخر إلى أن الفيلم  الجديد أكثر عصرية، ويركز على "قوة النساء"، أو "النساء في موقع السلطة"، وأنها دخلت إلى شخصية سنوايت كفتاة تحلم بأن تكون قائدة تعرف أنها تستطيع أن تكونها، عوضاً عن أن تحلم بالسعادة الأبدية مع حبيب القلب،" تصريحات أثارت هجوماً إضافياً على مواقع التواصل من قبل المحافظين الرجال الذين يرون أنه ليس من الجيد أن تكون كل شخصيات النساء زعيمات ورئيسات.

نفتح الشباك أم نغلقه؟

البعض، من ناحية ثانية، رأوا أن مجرد اعادة انتاج القصة القديمة خطأ، لإنها "عنصرية"، كما رأى البعض الآخر أن استخدام ممثلين أقزام (أو قصار القامة حسب المسميات الجديدة) خطأ، من هؤلاء النجم قصير القامة بيتر دينكليج (Game of Thrones)، الذي وصف حكاية "ستو وايت" في حوار له بأنها قصة متخلفة حول 7 أقزام يعيشون في بيت كالكهف ولا يكفون عن التشاجر"!

تصريحات دينكليج دفعت "ديزني" إلى الاعتذار تقريباً مؤكدة أنها ستعالج الأمر بطريقة مختلفة، وأنها تستشير عدداً من المتخصصين في قصار القامة، وتستخدم الكمبيوتر في تخليق الشخصيات، بدلاً من الاعتماد على ممثلين قصار القامة، وهو أمر، بدوره، أثار غضب مجتمعات قصار القامة الذين يريدون مزيداً من الفرص والتمثيل في الأفلام، كما صرح ممثل آخر قصير القامة هو ديلان بوستل! وهو ما يثير السؤال الوجودي المعروف: "نفتح الشباك أم نغلقه؟".

ذكرني هذا الجدل بالفيلم المصري "سنو وايت" للمخرجة تغريد عبد المقصود الذي استبدل بطلة القصة بشخصية من قصار القامة، في تغيير شديد الألمعية للحكاية الأصلية، لولا أن الفيلم نفسه لا يمضي أبعد من الدعاية الصوابية المعتادة لموضوعات المهمشين والمختلفين.

زيجلر.. كبش الفداء

لم تكد مشاحنات ما قبل الإنتاج تهدأ ، حتى تجددت قبيل عرض الفيلم مباشرة بسبب بطلتي الفيلم، زيجلر التي أعلنت بوضوح أنها مناصرة للفلسطينيين في أول مقطع بثته من الفيلم في 12 أغسطس 2024، حيث شكرت متابعيها لوصول المقطع إلى 120 مليون مشاهدة وختمت بقولها: "ولنتذكر دائماً..الحرية لفلسطين"، ووصل عدد مشاهدي البوست إلى أكثر من 9 مليون متابع، لكنه تسبب في صدمة للشركة المنتجة خوفاً على شعبية الفيلم، حيث قام أحد المنتجين بالسفر إلى زيجلر خصيصاً لاقناعها بحذف البوست والتراجع، لكنها رفضت بشجاعة، ولحقته ببوست آخر  أثناء فترة الانتخابات هاجمت فيه دونالد ترامب ومؤيديه بقسوة.

حتى اللحظة الأخيرة كان هناك أصوات في "ديزني" يراهنون تقريباً على مبدأ أنه لا يوجد شئ اسمه دعاية سلبية، ولكن بعد الضربة الموجعة التي مني بها الفيلم في شباك التذاكر، سارعت الشركة بالتخلي عن زيجلر وحولتها لكبش فداء يبرر فشل الفيلم، ربما تكون تصريحات زيجلر قد أدت بالفعل إلى مقاطعة الفيلم من قبل بعض المؤيدين للكيان والمحافظين المتشددين، لكن  الفيلم نفسه لا علاقة له بالتصريحات، وحتى ما قيل عن تغيير شخصية البطلة بواحدة أكثر قوة وعصرية ليس جديداً، وقد سبق فعله في معظم أفلام "ديزني" الجديدة، بداية بـ"سندريلا" درو باريمور منذ أكثر من ربع قرن!

لقد تكلف Snow White ما يقرب من 270 مليون دولاراً، ومن غير المتوقع أن تزيد حصيلة ايراداته من شباك التذاكر عن 200 مليون، وهي كارثة بالنسبة لديزني، لكن السبب لا يعود إلى تصريحات زيجلر أو التغييرات التي حدثت للقصة، وإنما إلى أسباب فنية بالأساس. 

رداءة الكمبيوتر وبلادة جادوت

الفيلم نفسه Snow White متوازن، إذ يقدم البطلة وهي تنقذ الشاب الثائر (ليس أميراً، بل زعيما للمتمردين على الملكة الشريرة، زوجة والد "سنووايت")، ولكن فيما بعد يقوم الشاب بانقاذ سنووايت آخرها عن طريق القبلة السحرية التي تعيدها للحياة.

ولكن ربما يكون أسوأ ما تسبب فيه الجدل الذي سبق الفيلم هو ما يتعلق بقصار القامة، إذ دفع الشركة إلى اتخاذ قرار الاعتماد على الكمبيوتر، ما تسبب من ناحية في زيادة تكاليف انتاج الفيلم بشكل لا داعٍ له، كما أن النتيجة الفنية جاءت كارثية، إذ يوجد نشاز واضح في الصورة بين الممثلين الحقيقيين وقصار القامة المصنوعين ببلادة ورداءة. ولعل العنصر الثاني الأكثر رداءة وبلادة هو أداء وغناء جال جادوت في دور الملكة الشريرة.

كيف يفسد السحر؟!

يبقى السؤال مع ذلك حول "السحر" الذي تحتويه الحكايات الخرافية القديمة، وكيف يتبخر في السينما المعاصرة المحكومة بالصوابية والتأويل ضيق الأفق.

شاهدنا ذلك منذ أسابيع مع فيلم Nosferatu الذي اختزل التأويلات والطبقات المتعددة للمعاني والوجوه في رواية برام ستوكر الأصلية "دراكيولا"، إلى مجرد تفسير جنسي مباشر.

Snow White، التي كتبها الأخوان الألمانيان ياكوب وفيلهلم جريم، في كتاب الحكايات الصادر في 1812، تحتوي، مثل معظم حكايات الأطفال والسحر على معانٍ لا حصر لها.

هي، بمعنى من المعاني، حكاية أخرى عن ضرورة ترك بيت الأسرة والبحث عن الاستقلال والتعرف إلى العالم وتكوين العلاقات وصولاً إلى النضج (مرحلة الحيوانات والأقزام والتحديات)، كما نجد في "آليس في بلاد العجائب"، أو "ذات الرداء الأحمر" مثلاً.

وهي أيضاً عن العلاقات المركبة بالأبوين، كما تتجسد في خيال الأطفال، بين الحب والخوف، والاعتماد والرغبة في الانفصال، يمكنك أن تضيف أيضاً المعاني السياسية والفلكلورية وحتى الفيزيولوجية للحكاية، إذ كثيراً ما تتردد فيها صور البلوغ والدورة الشهرية والتغيرات الجسدية وحتى مخاوف ليلة الزواج الأولى!

كل هذه المعاني وغيرها موجودة بقوة في النسخة السينمائية الأولى والأكثر شهرة "سنووايت والأقزام السبعة" التي قام بصنعها العظيم والت ديزني في 1937، وحققت نجاحاً مدوياً، لم يزل تأثيره مستمراً حتى الآن.

تغييرات متوازنة

في النسخة الحديثة التي قام بإخراجها مارك ويب بعض التغييرات المعتادة في معالجة هذه الكلاسيكيات، لعل أهمها هو استبدال الأمير بثائر متمرد يقود المهمشين والفقراء في الغابة، وجعل شخصية سنووايت أكثر قوة وجراة في تحدي المظالم والمطالبة بحقوقها في السلطة، ومن ذلك إلغاء الأغنية القديمة "يوما ما أميري سوف يأتي" واستبدالها بأغنية عن طموحها بتغيير العالم.

أغرب رد على هذا التغيير جاء من رجل الدين المعروف القس جريج لوري الذي هاجم الفيلم على "يوتيوب" من منطلق ديني، حيث رأى أنه يخالف تعاليم الحب والتكفير عن الذنب والتجديد الروحي والبعث من الخطيئة في القصة الأصلية، ويستبدلها بأفكار تمكين المرأة واستقلاليتها، ورأى أن هذا سبب سقوط الفيلم!

التفسير الديني قد يكون أحد الطبقات الموجودة بالحكاية الأصلية، كما ذكرت، ولكن أي اختزال وتعسف في التفسير، كما فعل جريج لوري، يفقد تلك الأساطير الجميلة سحرها وجاذبيتها الخفية.

من التغييرات الأخرى تبرير شر الملكة الأم بأن قوتها كحاكمة مستمد من جماله، ومن ثم فهي تدافع عن سلطتها السياسية التي تتهدد كلما ازدادت سنووايت جمالاً!

تفسير ذكي للغاية من شانه تعزيز القراءة السياسية للعمل، لولا أنه، مثل أشياء كثيرة، يمر مرور الكرام في الفيلم.

Snow White ليس عملا رديئاً مع ذلك، وريتشل زيجلر رائعة في شخصية سنووايت، وهو مسلي وممتع، خاصة للأطفال، غير أن الصوابية والسياسة و"حالة" الانقسام الثقافي الحالية قد ظلموه كثيراً.

* ناقد فني 

تصنيفات

قصص قد تهمك