البابا في السينما: من دقة التوثيق إلى جموح الخيال

time reading iconدقائق القراءة - 7
الملصق الدعائي للفيلم البريطاني Conclave للمخرج إدوارد بيرجر - instagram/EdwardBerger
الملصق الدعائي للفيلم البريطاني Conclave للمخرج إدوارد بيرجر - instagram/EdwardBerger
القاهرة -عصام زكريا*

برحيل البابا فرانسيس، يدخل الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية مرحلة جديدة من رحلة تمتد لما يقرب من ألفي عام، مرت خلالها بمعارك وصراعات ودراما من كل الأنوع، لعل أبرز ما فيها هو العلاقة المضطربة بين السلطتين الدينية والسياسية، والصراع بين العلمانية، أي الحكم المدني والثيوقراطية، أي حكم رجال الدين، والشعرة المشدودة دائما بين الحفاظ على التقاليد والاستجابة لدعاوى التجديد.

قصة البابا فرانسيس

جاء البابا فرانسيس إلى مقعد البابوية في 2013، وسط عاصفة مدوية رجت أركان الكنيسة الكاثوليكية، عندما انفجرت فضيحة تستر الفاتيكان لعقود على رجال دين تحرشوا بالأطفال، ما دفع أعلى رتبتين بالكنيسة، وهما البابا بيندكت السادس عشر، والكاردينال خورخي ماريو بيرجوجليو (الذي حصل على أعلى الأصوات بعد بيندكت في انتخابات البابا)، إلى محاولة تقديم استقالتيهما.

ويروي فيلم The Two Popes إخراج فيرناندو ميريليس، 2019، الذي لعب بطولته أنتوني هوبكنز في دور البابا بيندكت، وجوناثان بيرس في دور الكاردينال بيرجوجليو، قصة اللقاء الذي امتد لأيام بين الاثنين، حيث يحاول كل منهما اقناع الآخر بالبقاء في منصبه، حتى استقالة بيندكت في فبراير 2013، وتولي بيرجوجليو منصب البابا، حيث يكتسب اسماً جديداً، وفقا لتقاليد الكنيسة، هو البابا فرانسيس.

The Two Popes ليس أول أو آخر فيلم يعتمد على وقائع حقيقية داخل كواليس الكنيسة الكاثوليكية، أول ما أذكره عن الفاتيكان هو فيلم  The Agony and the Ecstasy الذي شاهدته في برنامج "نادي السينما" بالتليفزيون المصري خلال ثمانينيات القرن الماضي.

الفيلم الذي أخرجه البريطاني كارول ريد، 1965، ولعب بطولته العظيمان تشارلتون هستون وريكس هاريسون، كان يروي قصة حدثت في بداية القرن السادس عشر، عندما عهد البابا يوليوس الثاني (هاريسون) للمصور والنحات الكبير مايكل أنجلو (هستون) بتزيين سقف كنيسة سيستين ببعض الصور الدينية، وعلى مدار 4  سنوات (من 1508 وحتى 1512) ظل مايكل أنجلو مستلقياً على ظهره، يخوض صراعاً مع الألوان عند السقف، وصراعاً ضد رجال الدين المحافظين، المصدومين من صوره العارية لآدم وحواء وتاريخ الأنبياء، وهو صراع سيحسمه البابا المتنور، الذي ضمن لمايكل أنجلو حريته، ولولاه لما كان لأشهر سقف كنيسة في العالم أن يوجد.

الصراع ممتد

صراع مر عليه أكثر من 5 قرون، لكنه يتواصل إلى اليوم، كما نرى في أحدث فيلم عن الفاتيكان والبابوية وصراع القديم والجديد وهو Conclave، الفيلم الذي أخرجه إدوارد بيرجر وشارك في تمثيله راف فينيس وستانلي توتشي وجون ليثجو وإيزابيلا روسلليني، وحصل على 8 ترشيحات لجوائز الأوسكار 2025، فاز منها بأفضل سيناريو.

يبدأ الفيلم في لحظة مماثلة للآن تماماً، حيث يموت البابا ويتعين على كبار الكرادلة أن يعقدوا المجمع الانتخابي لاختيار بابا جديد، ويرسم الفيلم بطريقة تمزج بين التفاصيل الواقعية والخيال صورة للطبائع والصراعات والطقوس التي تحكم عملية اختيار البابا، ليكشف في نهايته عن مفاجأة "عصرية" تفجر الأسئلة العصرية الساخنة حول "الجندر" والانحياز الجنسي والعرقي ومعنى الإيمان، وقيمة التردد بين الشك واليقين!

أثار  Conclave ردود فعل متباينة داخل الفاتيكان، واعتراضات على نهايته وعلى تصوير رجال الدين وكأنهم يتصارعون على المناصب، ولكن يحسب للفيلم  دقته في توثيق أسرار عملية الانتخابات، بداية من العزلة التامة التي تفرض على الناخبين وإتاحة الوقت الكافي لهم حتى لو استغرق الأمر أياماً أو أسابيع، وضرورة حصول الفائز على ثلثي الأصوات على الأقل.

تظل العلاقة المعقدة بين السلطتين السياسية والدينية هي الأكثر حساسية وتوتراً على مر التاريخ، وقد عانى البابا فرانسيس شخصياً من هذا الأمر في شبابه، حين وجد نفسه في صراع بين تأييد السلطة العسكرية الديكتاتورية في بلده الأرجنتين والانحياز للمقاومين للديكتاتورية والفقراء.

وأجمل ما في البابا الراحل هو اعترافه بضعفه خلال هذه الفترة وندمه على هذا الضعف، ومن ثم اتخاذه للمواقف الإنسانية والانحياز لبؤساء الأرض في كل مكان، كما نجد في تأييده للحق الفلسطيني أكثر من أي بابا أو رجل دين غير مسلم.

صفحات سوداء

لكن العلاقة السوداء أو الرمادية التي وصمت الفاتيكان في عهود من تاريخه يمكن أن نجدها في أفلام مثل Amen إخراج كوستا جافراس، 2002، الذي يتناول العلاقة بين الفاتيكان وألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، حين رفض البابا بيوس الثاني عشر اتخاذ موقف ضد إبادة النازيين لليهود وغيرهم من الأقليات، وهو أحد المواقف السياسية الشائنة في تاريخ الفاتيكان.

يمكننا أيضاً أن نجد آثار علاقة الفاتيكان بالمافيا في الجزء الثالث من فيلم The Godfather، إخراج فرانسيس فورد كوبولا، 1990، عندما يقوم مايكل كورليوني (آل باتشينو) بزيارة البابا ومحاولة شراء الفاتيكان، في إشارة لموقف البابا يوحنا الثاني المقاوم للفساد داخل الكنيسة، وموته الغامض الذي ربطه البعض برفضه للتعاون مع المافيا والفاسدين.

هناك العديد من الأفلام الأخرى المهمة التي تتناول العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية على رأسها فيلما  Becket (إخراج بيتر جلينفيل، 1964) الذي يروي جانبا آخر من صراع الملك هنري الثاني ورجل الدين ومستشار المملكة توماس بيكيت، وموقف الفاتيكان من هذا الصراع الذي سيتفاقم لاحقاً، وكذلك فيلم  A Man for All Seasons (إخراج فريد زينمان، 1966) وهو أحد الروائع التي عرضها برنامج "نادي السينما" أيضاً، حول قصة الملك هنري الثامن ومستشار المملكة توماس مور الذي يرفض الانصياع لنزوات الملك، ما يؤدي إلى انفصال الكنيسة الإنجليزية عن الفاتيكان.

في حضرة الخيال

أفلام كثيرة أخرى، بعضها خيالي ، منهاThe Shoes of the Fisherman (إخراج مايكل أندرسون، 1968) الذي يدور حول بابا من أصل أوكراني (يؤدي دوره أنتوني كوين) يحاول التوفيق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وكذلك فيلم  We Have a Pope للإيطالي ناني موريتي (2011) الذي يتناول قصة خيالية حول بابا يتم انتخابه تنتابه حالة تردد وخوف ما يدفع المحيطين به إلى الاستعانة بطبيبة نفسية تهدئ من روعه، ولكنه يهرب ولا يستطيع اتخاذ قراراً حتى اللحظة الأخيرة.

في المجمل بقدر ما تعلمنا وتثقفنا هذه الأفلام، لا بد من الحذر من التعامل مع مضمونها على أنه حقائق مطلقة. هي فقط أعمال فنية تأخذ من الواقع ولكنها ليست الواقع نفسه. 

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك