
بعد فاجعة الانفجار، الذي شهدته العاصمة اللبنانية الأسبوع الماضي، عادت أغنية "من قلبي سلام لبيروت" للفنانة اللبنانية فيروز، لتكون بمثابة صوت أمل ورسالة تتردد على ألسنة محبيها.
ما إن بدأت ملامح ما جرى تتكشف، حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي، بتلك الكلمات الرمزية، التي غنتها فيروز قبل 36 عاماً.
الكثير من الفنانين العرب والأجانب، أعادوا غناء الأغنية بصوتهم، أو صوّروا بعض مقاطعها، أو جعلوها شعاراً لحساباتهم، تضامناً مع بيروت المنكوبة وأهلها.
وعادت الأغنية أيضاً لتصدح في شوارع وصروح ثقافية عربية وأجنبية، من مونتريال الكندية، مروراً بباريس ولندن ومصر والإمارات والكويت والعراق والسعودية.
ذاكرة لبنان
كما الكثير من أغاني فيروز، ترتبط حكاية "من قلبي سلام" بذاكرة اللبنانيين الجماعية مع الحرب الأهلية.
الأغنية كتبها الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب (1944-2014)، مستوحياً صورها من الحرب التي عايشها شخصياً، وعايشتها "جارة القمر" أيضاً.
الحرب الأهلية
أرادت فيروز أغنية ترأب بها الصدع الذي أنتجته الحرب الأهلية، فاختارت قصيدة جوزيف حرب، الذي غنّت له أيضاً عشرات الأغاني الأخرى.
وبعد رحيل زوجها عاصي الرحباني في عام 1986، وتولي ابنها زياد تلحين أغانيها، اختار لها معزوفة عالمية مؤثرة تتلاءم مع الوضع في لبنان، وتتماشى مع روح قصيدة "لبيروت".
اختيار زياد، وقع على "كونشرتو دي آرانخويت" التي ألفها المُلحن الإسباني خواكين رودريغو في عام 1939، عندما فَقَد طفله الأول، والتي تُعتبر واحدة من أجمل المعزوفات في القرن العشرين، وتحكي المقطوعة نبض قلب الطفل الهادئ، وخفقاته الأولى والأخيرة قبل وفاته.
محطة جوهرية
تعتبر أغنية "لبيروت" بمثابة محطة جوهرية في مسيرة فيروز وفي حياة اللبنانيين، إذ سجّلتها عندما كان لبنان مقسّماً وينزف بفعل الاقتتال الطائفي.
هكذا، مثّلت الأغنية عند صدورها صورة بيروت الجريحة، والحزن والأسى على بلد شبه مدمّر، ولكنها حملت أيضاً جرعات أمل إلى اللبنانيين في محنتهم.
لكن صاحبة الصوت الملائكي أبت أن تؤديها على مسرح لبناني حتى نهاية الحرب. لذا، مثّلت الحفلة التي أحيتها في وسط بيروت في عام 1994، عودة لبنان من الموت والتشرذم والتقسيم، عندما صدحت بصوت عال: "من قلبي سلام لبيروت"، لتحول إلى أيقونة السلم وصوت لبنان الجديد.
صورة شاعرية
في قصيدة "لبيروت"، رسم الشاعر جوزيف حرب، صورة شاعرية للعاصمة اللبنانية"، عروس الحريات ومنارة الثقافات" بيروت، واصفاً برومانسية وأسى ملامح المدينة التي تتربع على ساحل البحر المتوسط، ومنازلها وصخرة الروشة، أحد أبرز معالمها، مهدياً إياها سلاماً بصوت فيروز سلاماً، ولأهلها المتعبين من التهجير والتناحر والطائفية والدمار.
في كلماته، ثمّن جوزيف حرب قيمة الشعب بالنسبة إلى المدينة، التي تصبح بحسب وصفه "ميّتة من دون أهلها، بلا طعم ولا رائحة"، لينتقل للقول إن "لبنان يقوم من تحت الردم"، بقوّة مواطنيه وإرادتهم الصلبة، التي عاندت الزلازل والحروب والكوارث.
يقول حرب في مطلع القصيدة: "لبيروت من قلبي سلام لبيروت، وقبل للبحر والبيوت، لصخرة كأنها وجه بحّار قديم، هي من روح الشعب خمر، هي من عَرَقه خبز وياسمين، فكيف صار طعها طعم نار ودخان".
أبيات القصيدة وألحانها، تأسر قلوب سامعيها، وكأن فيروز ترسل سلامها إلى مدينة تحتضر في ظُلمة الليل وظلم الحرب، لتمنحها أملاً، أو تؤّبّنها وهي مدمّرة مدمية، ومفجوعة كما هي اليوم.
وتقول في الأغنية أيضاً: "لبيروت مجدٌ من رمادٍ، لبيروت من دمٍ لولدٍ حُملَ فوق يدها، أطفأت مدينتي قنديلها، أغلقت بابها، أصبحت في السماء وحدها، وحدها وليل".
لكن سفيرة النجوم تأبى أن تموت مدينتها، وتختم أغنيتها بكلمات "أنتِ لي، أنتِ لي آه عانقيني، أنتِ لي رايتي، وحجرُ الغدِ وموج سفرٍ، أزهرت جراح شعبي، أزهرت دمعة الأمهات، أنتِ بيروت لي، أنتِ لي، آه عانقيني".
هكذا، تحوّلت الأغنية بمثابة الأرزة في نوتة الموسيقى اللبنانية، أصبحت نشيداً للأطفال اللبنانيين في مسارحهم ومدارسهم، ودخلت الكتب الموسيقية الأكاديمية، ويحفظها الكبار والصغار.
عتاب خجول
اليوم، ومنذ سنوات خلت، يبدي جمهور فيروز، عتاباً خجولاً، بسبب عدم تفاعل "سفيرة لبنان إلى النجوم" مع ما يحدث في بلدها الذي غنّته على مسارح العالم.
ربما تعبت فيروز من المآسي التي تمر بها بلادها، لكن صوتها لم يتعب من الأمل الذي زرعته في نفس كل من يسمعها.