فيروز.. واجهة لبنان وصوته في لقاء ماكرون

time reading iconدقائق القراءة - 11
المطربة اللبنانية فيروز - AFP
المطربة اللبنانية فيروز - AFP
بيروت-رنا نجار

ما إن سُرّب خبر اللقاء المرتقب بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والسيدة فيروز، فور وصوله إلى لبنان اليوم الاثنين، في زيارته الثانية منذ انفجار مرفأ بيروت، والتي تتزامن مع مئوية لبنان الكبير، حتى قامت الدنيا ولم تقعد في العالم العربي على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الصالونات وباتت زيارة السياسي للفنانة حديث الساعة. 

وأمام طوفان الأخبار، لم تجد الرئاسة الفرنسية أمامها إلا تأكيد الخبر عبر سفارتها في بيروت؛ فصار موضوع الزيارة كالعطر الجميل الذي فاح في رياح بيروت المطعونة في ظهرها من الفساد، والمفجوعة على تدميرها وموت أكثر من 190 من أبنائها في الانفجار.

وعلمت "الشرق" أن صاحبة "لبيروت" فكّرت ملياً بالأمر وتردّدت وطلبت من الوسيط الذي اتصل بها أن تفكر على مهل بالموضوع. فتساءل لبنانيون كثر وعرب هل ورّطت "سفيرة النجوم" نفسها بقبول الزيارة؟ ماذ سترتدي؟ عمّ سيدور الحديث؟ 

الهوية اللبنانية

لفيروز، التي تمثّل الهوية اللبنانية وذاكرتها الجماعية، كما تمثّل صوت العرب الجميل إلى جانب أم كلثوم وأسمهان ومحمد عبده وغيرهم من عمالقة الفن، محبون وعشاق ومتيّمون من أجيال مختلفة.

جارة القمر، التي غنّت مكّة ودمشق وبغداد وبيروت والقدس وفلسطين والقاهرة، تركت بصمة عمرها أكثر من خمسين عاماً وعبر محطاتها الغنائية ومسرحياتها وأغانيها، رسمت بانوراما للحياة السياسية في لبنان وعرّجت على بعض السياسة والهموم في بعض الدول العربية.

لكنها بقيت بعيدة من دهاليز السياسة في بلدها. فكل الكلام الذي كُتب على صفحات السوشيال ميديا تقريباً ثمّن هذه الزيارة، على اعتبار أن فيروز صامتة منذ زمن ولا تعلّق على أي حدث سياسي، فسألها البعض أن تشكو للرئيس الفرنسي ما فعل السياسيون بلبنان وكيف هدّموا مشروعه الوطني.

هل كان قرارها صائباً بالموافقة على لقاء ماكرون؟ وماذا تمثّل هذه الزيارة؟ خصوصاً أن فيروز كانت بعيدة عن السياسة في مشوارها الفني أو على الأقل هذا ما نعرفه.

زيارة رمزية بامتياز 

شعراء وكتاب كثر كتبوا قصائد في حب فيروز كقيمة. الشاعر والكاتب شوقي بزيع كتب لها قصيدة بعنوان: "صوتها ضمّة برق فوق نيسان"، يقول مطلعها "ليس صوتاً، بل نهار مشمس بين شتاءين، وأنصاف بحيرات، وشلال خواتم، هو ما يجعلنا نبكي على ما لم يضِع بعد، وما يجعل من قطعة موسيقى، أكاليل زهور، وشموعاً ومآتم". 

يعتقد بزيع أن "الخطوة الرائدة التي اتخذها الرئيس الفرنسي ماكرون بطلب اللقاء مع السيدة فيروز في مستهل زيارته الثانية للبنان وفي المئوية الأولى للبنان الكبير، خطوة رمزية بامتياز واستثنائية بامتياز لأنها تنتصر للمعنى اللبناني المناقض تماماً لمعناه السياسي؛ إذ جاءت في ذروة اهتراء الطبقة السياسية، وبلوغ الوضع السياسي حضيضه الكامل الذي عبّر عن نفسه في انفجار بيروت". وهو ما يراه بزيع في تصريحات لـ"الشرق" نقيضاً للحالة القيامية التي تمثلها فيروز، وهي قيامة من نوع آخر، على حد قوله.

ويضيف بزيع: "هذا الحديث يذكرني تماماً بترافق إعلان دولة لبنان الكبير مع إنشاء الرابطة القلمية التي ترأسها جبران خليل جبران قبل مئة عام بالكامل، يعني ترافق قيام لبنان مع شخصية تأسيسيّة مثل جبران خليل جبران، واليوم تترافق الذكرى المئوية، وأراد لها ماكرون أن يُعبر عنها خلال رمزية فيروز".

بالنسبة إلى بزيع "قد تكون فيروز إحدى العلامات القليلة التي ترمز إلى حقيقة لبنان الحقيقي.. لبنان المتنور.. لبنان المنفتح.. لبنان الثقافة.. لبنان الفكرة.. لبنان الرسالة المشروع.. كل ما هو نقيض الطوائف، كل ما هو نقيض ملوك الطوائف، كل ما هو نقيض حالة التدهور التي سيمثلها هؤلاء، كل ما هو نقيض لبنان الطائفي المذهبي القبلي المتخلّف تمثله فيروز".

ويشير بزيع إلى أن "من المهم جداً أن يقول ماكرون ذات يوم أنه أتيحت له فرصة اللقاء بفيروز، للثقافة الحية والحقيقية لأن السياسيين زائرون، أما المبدعون فهم يبقون دائماً". وهنا يتذكر شوقي بزيع مقولة جوزيف برودسكي: "السياسيون لا يمكن أن يرتاحوا للمبدعين أو أن يتعايشوا معهم بشكل إيجابي لأنهم يشعرون في قرارتهم بأنهم يمثلون على الأرض ما هو زائل وعرضي، في حين أن المبدع يمثل ما هو دائم ومستمر".

يعتقد بزيع أن هذا ينطبق على فيروز وسياسيي لبنان، أما ماكرون فيقول إنه "لا شك أنه يخرج الآن من عباءة السياسة لكي يلامس الأبدية من خلال مصافحته لفيروز".

أكثر ديمومة 

ويقول الروائي حسن داوود الحائز جائزة نجيب محفوظ لـ"الشرق" إن زيارة ماكرون "تمثّل رسالة معنوية لإبلاغ اللبنانيين ولمن يهمّه الأمر من بعدهم أن تحكّم السياسة والسياسيين بالبلد ذاك الذي يهيمن على لبنان حالياً ليس هو الشيء الوحيد الباقي منه. هناك قيم أخرى ربما كانت أكثر أساسية وأهمية وديمومة من هؤلاء". ويضيف: "هؤلاء السياسيون الذين يحتلون صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات وأحاديث الناس والصالونات، هم لا يمثّلون لبنان الحقيقة وماكرون يقول لنا من خلال الزيارة أيضاً، إن فرنسا متنبّهة أن هناك قضايا أساسية متجذّرة في الثقافة اللبنانية وأن ما يظهر على السطح لا يمثل بلد فيروز".

أما الناقد الموسيقي فادي العبدلله فيقول إن "زيارة الرئيس الفرنسي لفيروز تقول أكثر عنه مما تقوله عنها".

ويضيف: "لا شك أنها ككل التحركات الرئاسية تتضمن أبعاداً ترتبط بصورة ماكرون التي يصيغها لنفسه عن الاهتمام بالفكر والثقافة، ولها جانب رمزي عن أيقونة فيروز المستمرة في الوجدان اللبناني والمشرقي عموماً علماً على المشروع اللبناني القديم (والذي يمكن القول بلا جدال إنه بات حرفياً مجرد أطلال). غير أن لفيروز أيضاً تاريخاً في السياسة، وقراراً في من تستقبل أو لا".

فيروز في صلب مشروع سياسي

وفي حديث لـ"الشرق"، رأى العبدالله الذي كتب أبحاثاً ومقالات بحثية عن عمالقة الفن في لبنان، أن "علاقة فيروز بالسياسة ليست علاقة منزهة على ما يحسب البعض، فهي وإن لم تغنِّ لأشخاص بعينهم وفضلت (أو فضل عاصي ومنصور لها) المقاربة التجريدية (لبنان، الشام، مكة، مصر، باريس وغيرها من العواصم كصور خارج الزمان) إلا انها كانت دائماً في صلب مشروع سياسي"، لافتاً إلى أن "المشروع الرحباني الفيروزي كان وليد احتضان مؤسسات الدولة الشمعونية (نسبة للرئيس كميل شمعون) ثم الشهابية له، في بحثها عن تكوين هوية تلم شتات الاجتماع اللبناني الحديث والهش والمسرح الرحباني كما بيّن فواز طرابلسي في كتاب قيم مرتبط بعمق ومثابرة بالحياة السياسية في لبنان ستينات وسبعينات القرن الماضي".

ويشير العبدالله إلى أن "كل ما سبق لا يعني حكماً على مشروع سياسي أو فني، لكنه دليل على أن العلاقة بين السياسة والموسيقى أعقد بكثير وأغنى من محاولات تلميع الصور المتبادلة التي يذهب إليها الذهن سريعاً، وأنهما تتبادلان التشكل والتأثير باستمرار".