
يحيي الجمهور المصري والعربي، اليوم، ذكرى رحيل أحد أهم قامات الدراما العربية عبر تاريخها، مع حلول الذكرى العاشرة لوداع عميد كتّاب الدراما التلفزيونية، الكاتب أسامة أنور عكاشة، والتي تزامنت هذا العام مع انتهاء موسم رمضان الدرامي، لتؤكد ذكراه الفراغ الذي خلّفه رحيله، بعد عقود من الإبداع الذي أسس لنوعيات مختلفة ومتنوعة من الأعمال الدرامية كان عنوانها الوعي بما عكسته من تناول ناضج لمفردات الواقع المصري والعربي، وساهمت في صياغة المجتمع بصرياً وفكرياً على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لتتحول إلى كلاسيكيات وقوالب إبداعية مبتكرة ألهمت أبناء جيله والقادمين من بعده إلى مملكة الكتابة الدرامية.
8 ساعات قراءة يومياً
الفنانة عبير منير زوجة الراحل أسامة أنور عكاشة كشفت لـ"الشرق" أنه "كان يقرأ يومياً ما لا يقل عن 8 ساعات، وهو ما جعله يمتلك مخزوناً ثقافياً ضخماً في مختلف المجالات"، مشيرة إلى أن "كتاباته الدرامية كانت ثرية وفيها الكثير من العمق، فلا يوجد مسلسل قدمه لا يحمل رسالة معيّنة".
وقالت منير: "لو نظرنا إلى مسلسل (ضمير أبلة حكمت)، لوجدنا أنه ناقش قبل 30 عاماً مشكلات التعليم التي نتحدث عنها الآن ، فنحن نعاني حالياً بسبب التعليم ومشكلاته، ولكن أسامة استبق الأزمة وقرأها قبل سنوات عدة، لأنه لم يكن يكتب لمجرد كونه يمارس مهنة يتربح منها، إنما كان مفكراً كما كانت له طقوسه الخاصة".
وأضافت زوجة الراحل: "لاحظته خلال كتابته مسلسل (كناريا وشركاه)، لم يكن يحب أن يكتب إلا في مكتبه بمنطقة سيدي بشر في الإسكندرية، حيث يجلس بمواجهة البحر، ولم يكن يكتب في القاهرة أبداً". وتابعت: "قبل أن يكتب كلمة، كان يتناول القهوة، ويقوم باستخدام الألوان في كتابته، لدرجة أني عندما أشاهد السيناريو قبل الطباعة، كنت أحب جداً أن أراه مع الألوان المختلفة التي يستخدمها في الكتابة".
وكشفت منير: "على الرغم من زواجي بأسامة أنور عكاشة، إلا أنه لم يفرضني على أي عمل فني قدمه، ولكنه قدمني في مسلسل (المصراوية) بشخصية الأميرة التركية (قسمت)، الذي تعاونت فيه مع الفنانين هشام سليم وممدوح عبد العليم، في الجزأين الأول والثاني، وما أسعدني أنه بعد الجزء الأول، قال أسامة إني أضفت إلى الدور وقدمته أفضل مما كان يتوقع، وهي شهادة أسعدتني للغاية، فهو لم يكن مجاملاً في ما يتعلق بالإبداع، كما أنه لم يكن يقدم أي تنازلات، فلا يكتب من أجل فنان نهائياً، لأنه يرسم الشخصية من بدايتها إلى نهايتها بحسب رؤيته وحده، وأي فنان كان يطلب تعديلات على السيناريو كان يستبعده أو يطلب تغييره، وهذا ما حدث مع آثار الحكيم في مسلسل (ليالي الحلمية)، فهو فنان يعرف إمكاناته جيداً، وكل من عمل معه استفاد من خبراته الكبيرة".
عناصر نادرة
وفي سياق سرده لأسباب تميّز الكاتب أسامة أنور عكاشة، قال المخرج محمد فاضل الذي قدم 8 مسلسلات من تأليف الراحل، إن ما ميّز عكاشة "هو بدايته كروائي يكتب القصص قبل دخوله عالم الكتابة الدرامية"، مشيراً إلى أن أول عمل عرض له كان قصة كتب السيناريو والحوار الخاص بها السينارست سليمان فياض، أحد أشهر كتّاب السيناريو في فترة الستينات".
وكشف فاضل لـ"الشرق" أن "ثقافة أسامة أنور عكاشة السياسية والاجتماعية والتاريخية وتاريخه الطويل في الكتابة الروائية جعلاه يقدم أفضل الأعمال الفنية في تاريخ الدراما، بموهبته التي كانت سبباً في تألقه، وهي عناصر من النادر أن تجتمع في كاتب سيناريو".
وتابع: "كتب الراحل قصص مسلسلاته كما كتب لها السيناريو والحوار، وحتى في الأعمال التي كتبها عن قصص لكتاب عالميين، كان يحصل على مضمون الفكرة ثم يكتب السيناريو والحوار كاملين، على النقيض مما يحدث حالياً، إذ يترجم الكتّاب مسلسلات عالمية وهو شيء مؤسف".
قلم حبر
وأضاف فاضل: "قدّمت مع أسامة أنور عكاشة 8 أعمال درامية، ولم يكن من الممكن أن ندخل التصوير، إلا إذا كان النص مكتملاً حتى آخر مشهد". ولفت إلى أنه "في مسلسل (أبو العلا 90)، المعروف بالجزء الثاني من مسلسل (رحلة أبو العلا البشري)، دخلت التصوير ومعي 24 حلقة، ولكني كنت أعرف أحداث باقي الحلقات حتى الحلقة الأخيرة، إذ كان الراحل يجلس لكتابة الحلقة ولا يتحرك حتى ينتهي منها تماماً، كما اعتاد أن يكتب بقلم الحبر السائل وليس بالحبر الجاف أو الرصاص".
وعن مرونة الراحل ومدى تقبله الحوار في ما يتعلق بكتاباته، قال فاضل: "اتفقنا منذ اللحظة الأولي لعملنا معاً على تطبيق مبدأ الديموقراطية في الحوار، وكان أسامة يتقبل النقاش ويحبه. ومن المواقف التي تؤكد ذلك، أني أقنعته بتغيير الحلقات الأولى من مسلسل (عصفور النار)، بعدما بدأ المسلسل بحريق القرية، وإجراء تحقيق الشرطة مع بطلة العمل (حورية)، ثم تأتي الأحداث كلها (فلاش باك)، وهو ما ناقشته فيه وأكدت له أن الجمهور لن يتقبل (الفلاش باك)، فاقتنع وأعاد كتابة الحلقات، على الرغم من أنه كان قد أنهى كتابة 6 حلقات منه".
وتابع قائلاً: "لهذه الأسباب، لا أعتقد أن الساحة قد تجود بمثله، فهو كان يهتم بتقديم عمل يحمل رسالة، حتى عندما قدم مسلسل (أنا وأنت وبابا في المشمش)، كتب المشاهد كسيناريو، وكتب حواراً غنائياً في المشهد ذاته للممثلين فردوس عبد الحميد ومحمود الجندي وحسن كامي؛ وهو أمر لم يحدث في الدراما التلفزيونية من قبل، أن يغني الممثلون من تأليف الكاتب، إضافة إلى تميزه في مسلسلات الأجزاء مثل (ليالي الحلمية) و(زيزينيا) و(المصراوية)، وهي أعمال لا يمكن لمؤلف عادي أن يقدمها لمجتمعه لأنها تحتاج إلى ثقافة متنوعة وعمق، لذلك عاشت إلى الآن ولا يمل الجمهور من إعادتها".
رؤى مستنيرة
وقال الناقد الفني خالد محمود: "نفتقد دراما أسامة أنور عكاشة، التي كانت تبحر في الشارع المصري وتقدم قضايا المجتمع برؤى مستنيرة. فمنذ رحيله، لم نقدم شخصيات واقعية، تتسم بتوازن نفسي في المعالجات، إذ كان الراحل يناقش قضايا اجتماعية، وفي الوقت ذاته يقدم لمحات سياسية وثقافية تزيد من ثقل العمل وجاذبيته".
وأضاف محمود: "على الرغم من أن الإبداع لا يتوقف، ولكن مفردات ورؤية أسامة أنور عكاشة نفتقدها في الجيل الحالي الذي يقدم القضايا بشكل سريع. ولذلك، نجد الأعمال الحالية مليئة بالأزمات والأخطاء، وتحديداً عند (جيل الورش) الذي أفقد الأعمال قوتها ومذاقها، لأن كل المؤلفين الموجودين حالياً إيقاعهم سريع جداً، وكلهم أبناء عصرهم، لكن عكاشة ليس له بديل لأنه قدم أعماله بعمق، وثقافته لعبت دوراً كبيراً في إضفاء القوة على هذه الأعمال".
ليس له شبيه
عشرات من الفنانين والنجوم في الوطن العربي تعاملوا مع نصوص عكاشة، وجسدوا من خلالها شخصيات واقعية، باتت خالدة في تاريخ الدراما التلفزيونية. الفنانة عفاف شعيب التي قدمت رائعته "الشهد والدموع" قالت لـ"الشرق" إن "أسامة ليس له شبيه، ورحيله كان خسارة للكتابة الدرامية، لأنه لم يوجد حتى الآن من يشغل الفراغ الذي تركه، وأذكر أن أي ممثل لم يستطع أن يغير جملة في الشخصية التي يعرضها عليه، لأنه كان يقدم سيناريو وحواراً ممتعاً وسهلاً وفيه عمق، كما أن أي موضوع يكتبه كان يقدم من خلاله رؤية مستقبلية جديدة عن قضية اجتماعية وسياسية أو ثقافية".
وأضافت: "تحدث معي قبل وفاته عن رغبته في تقديم جزء ثالث من مسلسل (الشهد والدموع) الذي قدمت فيه البطولة، ولكنه فارق الحياة. أحببت استكمال المشروع لكن حدثت بعض الاعتراضات من أسرته ولم نصل إلى اتفاق نهائي، على الرغم من أن المؤلف كان قد بدأ بالفعل كتابة العمل، علماً أن المسلسل يحتمل أن يتم تطبيقه على أجزاء كثيرة".
مدرسة في الكتابة الدرامية
وقال الفنان خالد زكي الذي تواجد كبطل في العمل ذاته "الشهد والدموع": "عندما يطلبك أسامة أنور عكاشة في عمل، فبالتأكيد سوف تقدم عملاً شديد الخصوصية، يغيّر من مشوارك. أجمل ما في هذا الرجل أنه متمكن جداً من أدواته، فهو مدرسة". وأشار إلى أن المؤلف الشاب الذي يريد أن يتميز، عليه أن يدرس أعمال أسامة أنور عكاشة، وسيشعر أنه حصل على دكتوراه في الكتابة الدرامية".
وتذكر خالد زكي كواليس العمل مع عكاشة وقال: "عندما قرأت سيناريو (الشهد والدموع) اعتذرت لأنني كنت أقدم أدواراً رومانسية، واختاروني لأكون شريراً، فعقدت جلسة مع أسامة أنور عكاشة، وقلت له إن شخصيتي فيها جمل صعبة جداً، وقد لا يتقبلها الناس، فقال سوف تندهش من رد فعل الجمهور بعد عرض العمل". وتابع: "المثير أنني بالفعل فزت بجائزة أفضل ممثل في كل الاستفتاءات بعدها، والجمهور أُعجب بالنقلة الفنية التي حدثت لي في هذا العمل".
رؤية غير تقليدية
الفنانة هالة صدقي التي تعاونت مع الراحل في مسلسلي "أرابيسك" و"زيزنيا"، قالت لـ"الشرق": "عندما أنظر إلى تاريخي وأجد أني تعاملت مع مدرسة أسامة أنور عكاشة، أشعر بأني قدمت أعمالاً لها قيمة وعمق ورؤية غير تقليدية، فقد قدمت معه أجمل أعمالي الدرامية، سواء في الجزء الثاني من "زيزينيا" أو في "أرابيسك"، وكلاهما من الأعمال التي لا يمل الجمهور العربي من مشاهدتها على الإطلاق". وأكدت أن "أسامة أنور عكاشة فنان من الصعب تعويضه، لأنه كان يعمل هو وكتاب جيله بهدف إمتاع الجمهور والارتقاء بوعيه، وليس من أجل الشهرة أو المال كما نشاهد البعض الآن".