خاص
فن

"وين ما ياخدنا الريح".. أسطورة الأنثى الحرة في تونس المعاصرة

time reading iconدقائق القراءة - 7
مشهد من الفيلم التونسي 'وين ما ياخدنا الريح' - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
مشهد من الفيلم التونسي 'وين ما ياخدنا الريح' - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
شنغهاي -عصام زكريا*

تروي الأسطورة أن الملكة الفينيقية عاليسا (التي غالباً ما تنطق آليسا) أسست مدينة "قرط خدشت" (التي أصبحت قرطاج) عام 814 قبل الميلاد، وكانت مهد حضارة بحرية وتجارية عظيمة، وحين تقدم للزواج منها ملك من سكان البلاد الأصليين (الأمازيج) ولم تستطع الرفض خشية أن يقوم بتدمير المدينة، فطلبت مهلة، ثم قامت بحرق قرابين كثيرة على أبواب المدينة قبل أن تلقي بنفسها أيضاً إلى المحرقة.

الأسطورة تربط حضارات إفريقيا بآسيا وأوروبا، وتبرز المكانة الكبيرة التي كانت تحظى بها نساء وآلهات المنطقة، والصراع المتبدي عبر تفاصيل الحكاية بين الثقافة الحضرية الزراعية الأنثوية، والمجتمع البدوي الصحراوي الذكوري والعنيف.

على خطى عاليسا

على خيوط هذه الأسطورة تبني المؤلفة والمخرجة التونسية آمال قلاتي أول أفلامها الطويلة "وين ما ياخدنا الريح"، الذي عرض لأول مرة في مهرجان "صندانس" منذ عدة أشهر، ويشهد عرضه الثاني في مهرجان "شنغهاي" الدولي (من 6 إلى 22 يونيو) ضمن برنامج العمل الأول.

يروي الفيلم قصة فتاة شابة عمرها 19 عاماً اسمها عاليسا، على اسم الملكة القديمة، حرة ومتمردة مثلها، ولا ترغب في ربط حياتها بأي رجل، حتى لو كان جارها وصديق عمرها اللطيف الخجول مهدي.

ورغم أن صداقة الاثنين الحميمة تدفع المحيطين بهما إلى التساؤل عن طبيعة علاقتهما، مرات بدافع تشجيعهما على الارتباط، ومرات من باب الاستنكار.

مهدي الذي تجاوز العشرين بسنوات يبحث عبثاً عن عمل في تونس العاصمة، التي تعاني من ظروفها الاقتصادية والسياسية الصعبة، وهو فنان ورسام موهوب أيضاً لا يجد مجالاً لاظهار موهبته.

أما عاليسا فتعيش مع أمها المكتئبة وأختها الصغيرة بعد وفاة الأب، الذي كان كما يبدو فناناً أيضاً يملك ورشة لصناعة المنحوتات الخشبية، وعلاقته بأليسا متينة تقوم على الاحترام ومنحها الحرية والاستقلالية.

عاليسا لا تستطيع الحياة في جو تونس الخانق وتحلم بالسفر إلى أوروبا، كما أنها "تحلم" حرفياً بأحلام يقظة تعبر من خلالها عن رغبتها في الانطلاق، وعن استيائها من الأوضاع والناس الذين لا تطيق التواجد معهم.

ألفة الرحلة وغرابتها

صداقة عاليسا ومهدي ورغبة كل منهما في تحسين حياته بطريقته، تدفعهما إلى خوض مغامرة ورحلة مشوقة وخطيرة وطريفة من العاصمة شمالاً إلى مدينة جربة جنوباً، وهي رحلة تشكل قوام فيلم "وين ما ياخدنا الريح" وفكرته الرئيسة، التي تربط بين أحدث جيل من النساء التونسيات (والعربيات) وأسلافهن القديمات من ملكات وآلهات.

يعتمد الفيلم بناء "فيلم الطريق" المعروف، وهو بناء محبب يتسم بوضوح فكرة الرحلة التي تخوضها الشخصيات على مستوى السيناريو، كما يوفر مساحات بصرية كبيرة إذ يعتمد على التصوير الخارجي في أماكن طبيعية متنوعة، غالباً، حين يكون الفيلم جيداً، ما تشكل متعة سينمائية بصرية.

وبشكل عام تذكر رحلة عاليسا ومهدي برحلات سينمائية مماثلة من ذهاب الأبطال إلى مكان بعيد، سعياً وراء الفوز في مسابقة ما (هي هنا مسابقة في الرسم يحصل الفائز فيها على فرصة قضاء بضعة أشهر في ألمانيا)، وقد رأيناها في الفيلم الأميركي Little Miss Sunshine (2007) والنسخة المصرية المقتبسة عنه "من أجل زيكو" (2022).

جرأة جذابة

الفيلم جرىء على مستويات عدة: شخصية عاليسا ربما تكون غير مسبوقة في السينما العربية، هي امتداد لشخصية نانا بطلة رواية وفيلم "النظارة السوداء"، ولكن على عكس إحسان عبد القدوس الذي يتعامل مع الشخصية بنظرة محافظة وتقليدية، فإن قلاتي تحب، وتجعلنا نحب، شخصيتها في كل ما تفعله، حتى لو كان تدخين السجائر المحشوة أو سرقة سيارة أو بعض الطعام والحلوى أو اختبار ميولها الجنسية بطرق غير متوقعة، فالرحلة هنا مخلصة تماما لفكرة الاستكشاف والتحرر، كما أنها مقدمة بشكل خفيف ومرح وجميل بصرياً وفوق ذلك، وهذا هو العجيب في هذا الفيلم، بشكل غاية في البراءة!

وبجانب السيناريو الجيد، سريع الإيقاع والممتلئ بالمواقف الكوميدية والمفاجآت، تختار آمال قلاتي مواقعا وأماكن جيدة، تساعدها على إبراز جمالها ودراميتها مديرة التصوير الموهوبة فريدة مرزوق ( التي صورت من قبل أفلام "علم" و"ينعاد عليكم" بجانب عدد من الأفلام الفرنسية والأميركية المعروفة).

موهبة استثنائية

مع ذلك، فإن أبرز وأجمل عناصر "وين ما ياخدنا الريح" الفنية هو بطلة الفيلم آية بالاغة، متفجرة الموهبة، والتي تعيش شخصية عاليسا بطبيعية نادرة، سواء في لحظات الجد أو الهزل دون أن تفلت منها الشخصية للحظة واحدة، كما يرجع إليها الفضل في هذا الشعور بالبراءة الذي يتسرب من ملامحها لشخصية عاليسا.

مع ذلك فإن أبرز ما في أداء بالاغة هو الكيمياء العجيبة التي تربطها بسليم بكري، الذي يؤدي شخصية مهدي، ليس فقط عبر الطبيعية والإتقان، ولكنه يبدو أيضاً محتضناً وراعياً ومستقبلاً محباً لجنون عاليسا الشخصية وآية الممثلة في الوقت نفسه، ويصعب أن أتذكر فيلماً عربياً حديثاً يقدم ثنائياً متناغماً وجذاباً بمثل هذه الدرجة.

صرخة الريح والحرية

علاقة عاليسا ومهدي، كما نراها في الفيلم، هي أيضاً مختلفة عن العلاقات السينمائية المعتادة: إنهما أكثر من الأحبة، وأكثر من الأخوة، ورغم العاصفة التي تهب على هذه العلاقة بالقرب من نهاية الفيلم، لكن الارتباط بينهما أقوى من العواصف والرياح.

عنوان الفيلم بالانجليزية هو Where the Wind Comes From أي "من أين تأتي الريح"، وهو عنوان أدق يتضح معناه بالقرب من نهاية الفيلم، التي تروي أسطورة أخرى قديمة عن المكان الذي تأتي منه الرياح، وترى الأسطورة أنها صيحات نساء على الجانب الآخر من الأرض.. صيحات المقهورين الحالمين بالإنطلاق والحرية، التي يرددها بطلا الفيلم، فتسمع، ربما، على الجانب الآخر من الأرض، وبالمناسبة هذا المشهد كان أفضل نهاية للفيلم، لإن ما يأتي بعد ذلك عقب عودتهما من الرحلة ومسار حياتيهما هو حل تقليدي سعيد، قد يرضي المشاهدين، ولكن يهبط بتأثير وقوة الفيلم.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك