متمرد بروح ساخرة.. "الابن الأبدي" زياد الرحباني

time reading iconدقائق القراءة - 6
الموسيقي والملحن اللبناني زياد الرحباني يحيي حفلاً غنائياً في مهرجان إهدنيات الدولي في بلدة إهدن شمال لبنان. 30 يوليو 2015 - Reuters
الموسيقي والملحن اللبناني زياد الرحباني يحيي حفلاً غنائياً في مهرجان إهدنيات الدولي في بلدة إهدن شمال لبنان. 30 يوليو 2015 - Reuters
القاهرة -عصام زكريا*

مع أنه كان يقترب من بلوغ السبعين، حين رحل زياد الرحباني، فجأة، ودون مقدمات، إلا أن الحزن الذي ضرب ملايين من محبيه في العالم العربي، كما يتبدى في معظم الأخبار والتدوينات والتعليقات، هو ذلك النوع من الحزن الممتزج بالصدمة من موت الأبناء وصغار السن. حزن لا يشبه غيره، لإنه موت مخالف لسنن الطبيعة ومنطقها، ويصعب أن يتقبله أو يستوعبه العقل.

زياد هو الابن الأبدي للموسيقى العربية، ليس فقط لكونه ابناً للسيدة فيروز، وكون اسمه وصورته قد ارتبطا دوماً باسمها ووجودها، ولكن أيضاً لإن طبيعته، وشخصيته، وأفكاره، وكلماته، وحركاته، وملابسه، وتصفيفة شعره ظلوا دوماً، وأبداً، مرتبطين بذلك الابن النابغة، الذي "دندن" بأول ألحانه في سن السادسة، وكتب واحدة من أجمل أغاني الرحبانية، وهو في السادسة عشر.

واكتسبت صورة زياد الرحباني في أذهان الناس ملامحاً من صورة الموسيقار النمساوي أماديوس موتسارت، ذلك العبقري الذي أذهل العالم بموسيقاه منذ أن كان طفلاً، وحتى رحيله المفاجئ الصادم في منتصف الثلاثينيات من العمر. وعندما رحل بقي اسمه عالقاً إلى الأبد في صورة الولد الموهوب.

"الولد المتمرد"

سيبقى اسم زياد الرحباني، أيضاً، مرتبطاً بصورة "الولد المتمرد"، الأمير الذي ولد بمعلقة من ذهب في فمه، ولكنه ألقى بالملعقة على الأرض، وغادر القصر حافياً، ليعيش وسط الفقراء والصعاليك، ويغني باسمهم، ويدبج البيانات السياسية ضد سكان القصر!

قبل الموسيقى، أو معها، كان زياد الرحباني شاعراً، من أوائل أعماله ديوان بعنوان "صديقي الله"، صدر 1971، ولكن قصائده، كما يذكر في المقدمة، كتبت بين عامي 1967 و1968، يعني قبل أن يتجاوز الثانية عشر!

الديوان عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، تتحدث على لسان طفل يحتفل بعيد ميلاده السادس، ويسأل تلك الأسئلة الوجودية التي ظلت تشغل زياد الرحباني لما بقى من عمره عن الخير والعدل والحرية، ورغم مفرداته وتركيباته اللغوية البسيطة إلا أنه يحمل مشاعراً وأفكاراً في غاية العمق.

ستظل البساطة في التعبير، مع العمق في التفكير، هما السمة المميزة لكل أعمال زياد الرحباني الموسيقية والمسرحية. هذه السمة التي جعلته واحداً من أكثر الموسيقيين العرب شعبية بين الأجيال المختلفة، وتحديداً بين الشباب من مختلف الأجيال. لقد عبر دوماً، وأبداً، عن هذه الروح الشابة المتمردة الحائرة والساخرة، منذ أن كان في السادسة، وحتى اقترابه من مشارف السبعين.

"الحرب الأهلية" لم تهزم زياد الرحباني

مع بداية "الحرب الأهلية" في لبنان تبلورت شخصية الولد المستقل الرافض لكل أشكال الطائفية والطبقية، وتجسد هذا الاستقلال في خروجه من بيت العائلة والإقامة بمفرده في منطقة لا ينتمي لها "طائفياً"، وانتماءه للحزب الشيوعي الذي وجد فيه كل أفكاره عن العدالة والمساواة.

كان زياد الرحباني مؤلفاً موسيقياً وشاعراً وكاتب دراما مسرحية وعازفا للبيانو وممثلاً، أحياناً، ولم يمنعه ذلك من نشاطه السياسي والإعلامي، وعلى عكس معظم الفنانين الذي يتجنبون الخوض في السياسة أو التعبير عن آرائهم السياسية (في حالة وجود موقف لديهم أصلاً)، فإن زياد على العكس اعتبر الفن نفسه وسيلة لايصال رسالته السياسية قبل أي شئ آخر.

ومن المدهش في هذا السياق أن أعمال زياد الرحباني، حتى أكثرها جدية واحتواءً على مضامين سياسية مثل مسرحياته :بالنسبة لبكرا شو؟"، "فيلم أميركي طويل"، و"شئ فاشل"، و"بخصص الكرامة والشعب العنيد"، تتسم ببساطة تعبيرها ومرحها وتلك الروح الشابة المتفائلة التي لا يمكن أن يكسرها شئ.

لكن أشياء كثيرة حاولت أن تكسر روح زياد الرحباني: الوضع العام في لبنان والعالم العربي الذي ينتقل من الأسوأ للأكثر سوءاً، حياته الشخصية التي منيت بصدمات وهزائم عدة، وعدم الاستقرار العائلي الذي أرهقه، رغم أنه تمسك به حتى النهاية.

في أعمال زياد الرحباني روحاً لا مثيل لها في الموسيقى العربية، ولا حتى في أعمال أبيه وعمه (عاصي ومنصور) أو بقية عائلة الرحبانية. في أعماله قوة إيقاع وغنائية راقصة تدخل إذن وقلب المستمع على الفور، وفيها أيضاً رصانة وجدية سرعان ما تتبدى بمرور الوقت وتعدد مرات الاستماع. وفيها شئ أشبه بالهلب، يعلق في القلب ليبقى هناك.

في منتصف التسعينيات ذهبت إلى بيروت لأول مرة، ومن هناك عدت بشرائط ألبومات كثيرة كان على رأسها مسرحيات زياد وموسيقاه. أحد الألبومات كان يحمل موسيقى أغنية "ع هدير البوسطة"، ولا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي استمتعت فيها إلى المقطوعة على التوالي وبلا انقطاع. الأمر نفسه تكرر مع الألبومات الأخيرة التي كتب كلمات أغانيها وموسيقاها لفيروز. حين تستمع إلى الأغنية مرة، فكأنها أصبحت جزءاً من وجدانك إلى الأبد.

هكذا، ودائماً، سيبقى زياد رحباني، ابناً أبدياً يجسد كل ما تتمناه البشرية من الأبناء: الرؤية والرغبة في تغيير العالم والطاقة والشغف والأمل الذي لا يخبو بمستقبل أفضل.

وسيبقى الإرث الذي تركه زياد في العقول والقلوب الشابة لأجيال كثيرة قادمة.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك