خاص
فن

يحيى الفخراني متلبساً بالجنون في "الملك لير"

time reading iconدقائق القراءة - 13
يحيي الفخراني في مشهد من مسرحية "الملك لير" - المكتب الإعلامي للمسرح القومي
يحيي الفخراني في مشهد من مسرحية "الملك لير" - المكتب الإعلامي للمسرح القومي
القاهرة -عصام زكريا*

يشهد المسرح القومي في مصر حالة نشاط كثيف منذ أن بدأ عرض مسرحية "الملك لير" ، رائعة ويليام شكسبير، من بطولة يحي الفخراني، في الثامن من يوليو الحالي، حيث تنفذ التذاكر بمجرد طرحها للبيع، ويمتلئ المسرح عن آخره في معظم الليالي، وهو أمر، لو تعلمون، نادر الحدوث، ولكن يبدو أنه سحر، أو لعنة، الملك لير!

بجانب النص الرائع، والمضمون الثري بالمعاني الذي يلمس معظم الناس، هناك شئ في شخصية لير يغري كبار الممثلين بلعب دور الملك العجوز التعيس، كأنما لهذه الشخصية روح تستحوذ عليهم.

من جون جيلجود إلى أنتوني هوبكنز مرورا بأورسون ويلز، لورانس أوليفييه، مايكل ريدجريف، إيان ماكميلان، وفي الهند أميتاب باتشان، وفي مصر فريد شوقي، ومن النساء جليندا جاكسون التي أدت الدور على مسارح برودواي منذ عدة سنوات، وحتى آل باتشينو الذي انتهى أخيراً من تحقيق حلمه بصنع فيلم عن المسرحية بعنوان Rex Lear، من إخراج بيرنارد روز، وتشاركه البطولة جيسيكا شاستين وريتشل بروزنان وآريانا دي بوزي.

ولكن ربما لا يوجد من كل هؤلاء من استحوذت عليه الشخصية واستحوذ عليها مثل يحيى الفخراني، الذي قضى الربع قرن الأخير في تقديم نسخ مختلفة من النص في المسرح والتليفزيون (بالرغم من أن ظروف صناعة السينما في عالمنا العربي حالت – إلى الآن- دون أن ينتبه المنتجون إلى أهمية توثيق وتخليد أداءه في عمل سينمائي جدير بأسماء شكسبير والنص والفخراني).

النسخة الأولى

لعب يحيى الفخراني شخصية لير لأول مرة في 2001، على خشبة المسرح القومي أيضاً، في إنتاج كلاسيكي أخرجه أحمد عبد الحليم، وشارك فيه عدد من كبار الممثلات والممثلين، منهم أشرف عبد الغفور وسوسن بدر وسلوى محمد علي وريهام عبد الغفور وعهدي صادق، كما شارك الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم بكتابة بعض الأغاني التي تتخلل العمل.

اتسمت هذه النسخة، رغم مآساوية النص، بحس ساخر ساهم فيه عهدي صادق بأداءه الكوميدي لشخصية البهلول، وأيضاً من خلال أداء الفخراني الذي فهم الوجوه والطيات المعقدة لشخصية لير، التي تجمع بين الحمق والخبث والبؤس، بالإضافة إلى وجه الأب المحب الذي يطعن قلبه ويدمر عقله عقوق بناته.

وقد دشنت المسرحية التي استمر عرضها لسنوات (يتخللها فترات انقطاع) شخصية الملك لير في المسرح المصري وارتباطها بيحيى الفخراني. ومن الملفت أن الفخراني كان لا يزال في الخامسة والخمسين عندما استهواه الدور، وقد أعرب خلال المؤتمر الصحفي الذي سبق عرض النسخة الأخيرة أنه الآن، وقد تجاوز الثمانين، صار في عمر لير.

وبالفعل يبدو الفخراني هنا متلبساً بالشخصية –وفقا للنص الشكسبيري- ومناسباً لها أكثر من أي وقت مضى، بالرغم من أن بقية عناصر المسرحية لا ترقى للمعالجات السابقة، كما سأبين لاحقاً.

من المعروف أن المسرحية التي يبلغ عمرها خمسة قرون قد خضعت لتفسيرات ومعالجات لا حصر لها، ربما لا يضاهيها في ذلك من بين أعمال شكسبير سوى "هاملت".

وجدير بالذكر أن هذين العملين تحديداً كانا يعدان من أضعف أعمال شكسبير في نظر نقاد وجمهور عصره، غير أنهما بدأتا في اكتساب أهمية وقيمة متزايدة بمرور الزمن، خاصة في نهاية القرن الـ 19 وعلى مدار القرن الـ20. وفي السينما ظهرت معالجات "سياسية" مبتكرة للنص على أيدي مخرجين بقامة الروسي جريجوري كوزنتسيف والانجليزي بيتر بروك والسويسري الفرنسي جان لوك جودار والياباني أكيرا كوروساوا وغيرهم ربطت بين حماقة لير والسياسيين الذين يتركون العنان لنزواتهم وأطماعهم ومخاوفهم فيتسببون في خراب البلاد.

من المسرح للتليفزيون

هذا البعد نجده في التمصير المدهش للنص الذي قام به الكاتب عبد الرحيم كمال في مسلسل "دهشة"، الذي أعاد فيه الفخراني لعب شخصية لير كعمدة لقرية صعيدية، في العمل الذي أخرجه شادي الفخراني وشارك في بطولته عدد كبير من النجوم منهم نبيل الحلفاوي، يسرا اللوزي، حنان مطاوع، فتحي عبد الوهاب، وعايدة رياض وغيرهم.

ومن خلال نقل النص الذي يدور في شمال أوروبا البارد إلى جنوب مصر الحار، استطاع المؤلف أن يعثر على بدائل ملفتة مثل المشاهد التي يتيه فيها الباسل حمد الباشا (الفخراني) في الصحراء الحارقة عوضاً عن الصقيع الأوروبي، أو التي تتحول فيها المعارك على الممالك الاسكندنافية إلى الصراعات المسلحة على أراضي الصعيد، ويحمل العمل الذي صدر في 2014 أصداء الصراعات والقراءات السياسية التي أعقبت ثورة يناير وما أعقبها في مصر.

في 2019 يعيد يحيى الفخراني تقديم مسرحية "الملك لير"، بنصها الأصلي، في عمل ضخم طموح من انتاج مجدي الهواري وإخراج تامر كرم، وبمشاركة فريق من النجوم منهم فاروق الفيشاوي (الذي حل محله بعد فترة أحمد فؤاد سليم) وريهام عبد الغفور ورانيا فريد شوقي وهبة مجدي ومحمد رياض وأحمد عزمي وغيرهم.

قدم العرض على مسرح "كايرو شو" الفاخر بحي التجمع الحديث، الذي تسكنه "الطبقة العليا" (أو الأثرياء الجدد)، في محاولة لنقل الفن الراقي إلى هذه الأحياء الجرداء من مظاهر الثقافة، وقد حقق العمل إقبالاً ونجاحاً كبيرين، بفضل اسم الفخراني وباقة النجوم المصاحبين له.

ومن المفهوم بالطبع أن الجمهور العادي يصعب أن يذهب إلى مسرحية لشكسبير ناطقة باللغة الفصحى لولا اسم الفخراني وشعبيته الكبيرة. وهو الأمر نفسه الذي نجده في عرض المسرح القومي الحالي، مع الفارق أن الجمهور هنا، بفضل المكان الذي يتوسط القاهرة القديمة، وأسعار التذاكر المنخفضة، التي تقل عن سعر تذكرة السينما، من كل الطبقات والمستويات.

إنجازات وملاحظات

على أي حال، سواء في التجمع، أو ميدان العتبة، فإن أفضل وأجمل ما يقدمه يحيى الفخراني من خلال بطولته للعرض هو أنه يعيد للفن المسرحي الجاد مكانته التي اهترأت على مدار عقود من التجريف والتسطيح الثقافي، مع ذلك فإن العرض لا يخلو من بعض مظاهر هذا التسطيح.

مبدئياً من حق أي مخرج أن يقدم رؤيته الشخصية للنصوص الكلاسيكية، وقد سبق أن شاهدنا عشرات المعالجات التي تبعد وتشطح عن نصوص شكسبير في مختلف الثقافات والوسائط، ولكن العبرة دائماً هي المنطق والدافع وراء رؤية كل مخرج وكل تغيير أو إضافة أو حذف يقوم بهما، ومن خلال هذا المعيار لنتأمل ما فعله المخرج شادي سرور بالعرض الجديد.

نشاز سمع- بصري

منذ اللحظة الأولى التي يرفع فيها الستار يتبدى نوع من النشاز البصري والسمعي غير المفهوم وغير المستساغ: شباب يرقصون الفالس يرتدون ما يشبه ملابس الطبقة الأرستقراطية الأوربية في القرن الـ19، ولكن ديكور المسرح في الخلفية الذي يوحي بقصر الملك لير هو هجين من حقب وأساليب مختلفة، من العصر الروماني إلى عصر النهضة وغيرهما.

وعندما تنتهي الرقصة التي تحيلنا بصرياً إلى زمن بعينه، يظهر الممثلون على المسرح بملابس تشكل هجيناً آخر من سترات وبناطيل العصور الوسطى، وعندما ننتقل إلى قصري الابنتين يستمر الخلط بين الأزمنة عبر ديكورات وإكسسوارات تبدو وكأنها مجمعة من سوق "الكانتو".

من المعروف أن "الملك لير" تدور في زمن الوثنية قبل دخول المسيحية إلى الشمال الأوروبي، ولذلك يحافظ شكسبير على بساطة وتقشف الحياة ونظم الحكم آنذاك، وينطبق الأمر على اللغة، حيق يقسم الممثلون على السماء والطبيعة ويذكر الإله دون تحديد اسم أو ديانة.

هذا العصر الوثني الفقير القاسي هو جزء من الطبيعة الجرداء القاسية في الشمال البارد الذي يعصف بالشخصيات وكل شئ، ويمتد ذلك إلى طبائع وسلوكيات ولغة الشخصيات التي تبدو لنا فجة وقاسية أكثر مما يجب. وهذا التحديد لا يعني، كما ذكرت، أن تلتزم كل المعالجات به، ولكن يعني أن يكون التغيير لسبب، حتى لو كان السبب مجرد اسلوب وشكل فني يفضله المخرج.

إن ما تفعله رقصة الفالس في بداية المسرحية، رغم أنها قد تكون لطيفة في مكان آخر، هو أنها تسحب خيال المشاهد إلى مزاج أرستقراطي منمق حداثي لا يتناسب مع ما سوف يلي من وقائع بدائية خشنة.

ولذلك، مثلاً، حين نشاهد معالجات تنقل أحداث المسرحية إلى عصر آخر، نجد أن هذه الأعمال قد تغير بعض الوقائع والتفاصيل (مثل النفي إلى الغابة، أو العقاب بالوضع في "تخشيبة" التعذيب، أو فقء العيون)، كما تغير اسلوب الأداء التمثيلي وربما بعض المفردات لكي تتناسب مع سلوكيات وعادات الناس في ذلك المكان والآوان. 

أداء متفاوت

بما أن المسرحية ناطقة بالعربية الفصحى (بترجمة فاطمة موسى الرصينة والجزلة في الوقت نفسه) فإن على الأداء التمثيلي هنا أن يراعي طريقة النطق ولغة الجسد لكي تتماشى مع عالم النص ولغته.

يحيى الفخراني الذي تشبع تماما بـ"لير" وأضفى عليه من خبرته وموهبته وتحول كلياً إلى الشخصية يتعامل مع هذه اللغة بيسر وطبيعية تظهر في الإلقاء الطبيعي واتقان مواضع ارتفاع وانخفاض الصوت والنبر على الحروف، ولكن ذلك لا ينطبق على معظم الممثلين الآخرين.

طارق الدسوقي في دور جلوستر ممتاز ومن حسن حظ العرض وجود ممثل مخضرم مثله، شخصية جلوستر تعادل شخصية لير، حيث تعرض مثله لخداع ولده الخسيس، وناصب ولده الطيب العداء، وهي تضاعف من تأثير المضمون، وحكايته تحمل أبعاداً وتفاصيل لا تتوفر لشخصيات لير وبناته الذين يتسمون بالتجريد الزائد.

أحمد عثمان جيد أيضا في دور إدموند الابن الخائن لأبيه وأخيه، المجرد من أي وازع أخلاقي، ولكن ما يكشف ضعف العرض هو الممثلات الثلاثة اللواتي يلعبن أدوار بنات لير، بالمناسبة الشخصيات الثلاثة هن ما يعطين للنص ثراءه، إذ تختلف كل منهن عن الأخرى، بالرغم من الشبه بين الأختين الكبريين جونريل وريجان.

وبغض النظر عن الأداء الصارخ ذا النبرة الواحدة طوال العرض، وهي مسئولية المخرج، فإن البنات الثلاث لا يجدن اللغة العربية ولا فن الإلقاء بشكل كافٍ، ويكفي أن يتذكر المرء آداءات سوسن بدر وسلوى محمد علي وريهام عبد الغفور ورانيا فريد شوقي ونيرمين كمال في العروض السابقة ليدرك الفارق الهائل.

بين الإبهار والتأويل

بعيداً عن الملاحظات السابقة يحاول المخرج شادي سرور استخدام بعض التقنيات المبهرة وعلى رأسها الشاشات الكبيرة الكثيرة التي تتخلل مشاهد كثيرة من العرض. وهي تقنية يحسن استخدامها أحياناً، كما في مشهد الرعد والبرق والأمطار، أو مشهد الصحراء الجليدية الجرداء، إذ تعطي للطبيعة حضورا مجسدا. ولعل أفضل ما ينجح فيه المخرج هو تنفيذ المعارك، سواء بين الأفراد، أو التي تلتحم فيها الجيوش. 

وأخيراً يبقى تفسير النص وفقا لهذه النسخة الجديدة. "الملك لير"، كما أشرت، حمالة أوجه، ومن أكثر أعمال شكسبير التباساً وانفتاحاً على التأويلات المختلفة. ولعل أبسط هذه التأويلات وأكثرها "شعبوية" هو أنها تتحدث عن عقوق الأبناء. وبالفعل تتحدث المسرحية عن ذلك، ولكن شكسبير يمنحها، من خلال رسمه للشخصيات التي تجمع بين التجريد والتفصيل ولغته الشعرية المجازية واتساع الفضاء الذي تدور فيه الأحداث، معانٍ كثيرة، حاولت النسخ السابقة أن تشير إليها، وحتى يحيى الفخراني كان يشدد عليها بأداءه، مثل الحديث عن الفساد السياسي، ونظام الحكم الإقطاعي.

لكن النسخة الحالية تكاد تركز فقط على عقوق الأبناء، باستثناء مشهد بارز تظهر فيه حشود من الفقراء المشردين على المسرح (لا وجود لهم في النص الأصلي) مع حديث لير عن ضرورة أن يبالي الأثرياء بالفقراء ويتخذون العبر مما يحدث لهم.

عرض "الملك لير" 2025 هو تأكيد على موهبة يحيى الفخراني الأسطورية، حتى في هذه السن والمتاعب الصحية التي تعيق حركته (إذ يتحول بمجرد دخوله المسرح إلى شخص آخر)، كما أنه تأكيد على أن الجمهور، بمختلف أنواعه وأعماره، على استعداد لتلقي الفن الجاد والاستمتاع به وتقديره، حين نعرف، فقط، كيف نصل إليه ونتواصل معه، وهو ما نجحت فيه إدارة المسرح القومي إلى حد كبير.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك