
عُرض فيلم Highest 2 Lowest، أحدث أعمال المخرج الأميركي الإفريقي سبايك لي، والنجم دينزل واشنطن، لأول مرة في مهرجان كان السينمائي، في مايو الماضي، خارج المسابقة الرسمية، محققاً استقبالاً جيداً من قبل النقاد.
ولكن الفيلم الذي أنتجته منصة Apple TV+ لم يحظ بعرضه السينمائي سوى على نطاق ضيق محلياً في الولايات المتحدة في 15 أغسطس الماضي، قبل أن يتم إطلاقه على المنصة في 5 سبتمبر الحالي.
المنصة قبل السينما!
حالة Highest 2 Lowest التي تنطبق أيضاً على عشرات الأفلام الحديثة، تعكس الوضع المقلوب الذي تعاني منه السينما في السنوات الأخيرة، حيث تعرض أفلام "كبيرة" إنتاجياً من صنع أسماء شهيرة لها تاريخها على المنصات مباشرة، أو تمنح عروضاً عامة محدودة بهدف "شرعنة" التسابق في جوائز الأوسكار والجولدن جلوب، وغيرها من المسابقات التي تشترط أن يكون الفيلم المشارك قد عرض تجارياً في دور العرض السينمائي.
يمتلك Highest 2 Lowest مقومات الفيلم "الجماهيري"، فهو فيلم بوليسي تشويقي، يحمل قصة إنسانية، وموقف أخلاقي، ومخرجه واحد من البارعين في الجمع بين المضمون الجاد ومتعة المشاهدة، ولكن الفارق الوحيد بينه والأفلام التي توزع في دور العرض العالمية على نطاق واسع هو أنه من إنتاج المنصة التي تعرضه.
والمنصات لا يعنيها جمع الإيرادات من شباك التذاكر من خلال فيلم أو اثنين جماهيريين، بقدر حرصها على الحفاظ على المشتركين القدامى وجذب المشتركين الجدد من خلال المحتوى الحصري المنتج خصيصاً للمنصة.
على أي حال، ينتمي Highest 2 Lowest إلى السينما، وبالتحديد إلى تاريخ كل من سبايك لي ودينزل واشنطن، أكثر مما ينتمي لأعمال المنصات الجديدة.
ثنائي مبدع
سبايك لي، لمن لا يعلم، أحد أهم أسماء السينما "السوداء" في الولايات المتحدة، التي صعدت مع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي من خلال مخرجين وكتاب وقصص وممثلين تتناول حياة الأميركيين الأفارقة، وحقق لي من خلال أعمال مثل Do The Right Thing (1989) و Jungle Fever (1991) نجاحاً وشهرة كبيرين، ووصل إلى القمة مع فيلم Malcolm X (1992)، الذي لعب بطولته دينزل واشنطن، الشاب الجديد آنذاك.
وأذكر أنني التقيت الإثنين في بداية عملي بالصحافة أثناء زيارتهما إلى القاهرة لتصوير بعض مشاهد الفيلم، وهو أول فيلم لسبايك لي ودينزل واشنطن يحظى بالعرض العام في مصر (الفيلمان السابق ذكرهما عرضا فقط من خلال مهرجان "القاهرة")، وكان أداء واشنطن لشخصية المناضل مالكوم إكس سبب حب المشاهدين العرب للإثنين (واشنطن وإكس!).
بعد 33 عاماً على Malcolm X و 9 سنوات على لقاءهما الأسبق في Inside Man، 2016 يعود كل من سبايك لي ودينزل واشنطن للعمل سوياً في Highest 2 Lowest.
يؤكد الفيلم أن هناك كيمياء غير مرئية تجمع الإثنين، يميل لي إلى توظيف واشنطن في أفلام جادة، وشخصيات مركبة، قوية، تبرز الجانب الصلب في النجم الذي يستطيع، ببساطة، أن يقدم كل أنواع الشخصيات.
مأزق أخلاقي
في Highest 2 Lowest يلعب واشنطن شخصية مختلفة عن معظم أدواره السابقة، وهي شخصية رجل الأعمال ديفيد كينج، المنتج الموسيقي الناجح، أشهر خبير، وصاحب الأذن الأفضل في المجال، كما يطلق عليه، والذي صنع الملايين من مهنته، ولكنه يعاني، مع بداية الفيلم، من ركود تجارته بسبب التطورات "الرقمية" التي أضرت كثيراً بصناعة الموسيقى التقليدية.
كينج على وشك أن يطرد من الشركة التي أسسها، والمعروضة للبيع من قبل شركة أكبر، وفي محاولة يائسة للحفاظ على الشركة يقوم باستثمار كل ما يملك من أجل الاستحواذ على غالبية الأسهم ومنع عملية البيع.
في وسط هذه الأزمة العصيبة يٌختطف ابن كينج الوحيد، وهو شاب مراهق يهوى الرياضة، ويٌختطف معه صديق طفولته، ابن سائق كينج ومساعده المخلص منذ سنوات بعيدة.
يطلب الخاطف فدية ضخمة تعادل كل ما يملكه كينج تقريباً، ولكنه نتيجة خطأ ما يخلط بين ابن كينج وابن السائق، ويخلي سبيل الأخير، قبل أن يكتشف خطأه، يعود الابن إلى البيت، ولكن الخاطف يهدد كينج بأنه سيقتل ابن سائقه إذا لم يدفع الفدية المطلوبة!
لماذا كوروساوا؟
لعل القارئ الخبير بالسينما العالمية قد أدرك الآن أن Highest 2 Lowest مقتبس، عن واحد من أشهر أفلام المخرج الياباني الراحل أكيرا كوروساوا، والذي يحمل عنواناً مماثلاً: High to Low (أو High and Low، أو "جنة ونار" باليابانية) المصنوع في 1963.
يبدو أن سبايك لي يهوى إعادة صنع الكلاسيكيات العالمية، كما فعل من قبل في فيلم Oldboy المقتبس عن فيلم الكوري بارك شان- ووك الذي يحمل الاسم نفسه.
سبايك لي يشير في العناوين إلى فيلم كوروساوا، ولكن الحقيقة أن فيلم كوروساوا بدوره مقتبس عن رواية King’s Ransom، لكاتب القصص البوليسية الأميركي إيفان هانتر (الذي كان يوقع باسم "إيد ماكبين" (والصادرة في 1959، ولكن الفارق كبير بين الرواية والفيلم، فقد ارتقى بها كوروساوا إنسانياً، ومن ناحية ثانية خصص الجزء الثاني منه لتفاصيل العمل البوليسي في الإيقاع بالخاطف.
في الرواية يقوم البطل بهذه المهمة بنفسه، وهذا ما يفعله سبايك لي أيضاً في فيلمه، حيث يقوم كينج وسائقه (بأداء جيفري راش) بالبحث عن الخاطف وملاحقته، وحيث يستخدم كينج موهبة أذنه الموسيقية في العثور على مكان الخاطف!
على العكس يميل كوروساوا إلى عدم تحويل بطله، رجل الأعمال، إلى محقق وضابط، ويعطي هذه الوظيفة لأهلها، ليس فقط حرصاً على الواقعية، ولكن لرغبته في تقديم تفاصيل عمل الشرطة الصعب.
وبالمناسبة يعد فيلم High and Low واحداً من المراجع السينمائية فيما يعرف بنوع الفيلم البوليسي "الإجرائي" (أي الذي يركز على العمليات والاجراءات القانونية).
رحلة فكرة
حقق فيلم كوروساوا أعلى إيرادات في ذلك العام في اليابان، وشارك في مهرجان "فينيسيا"، وحقق نجاحاً عالمياً، كما ترك، مثل معظم أفلامه، أثراً كبيراً على السينما العالمية، حيث اقتبس مرات عديدة في أكثر من بلد، مثلما حدث مؤخراً في مسلسل Full Circle للمخرج ستيفن سودبرج، الذي عرض على منصة HBO Max في 6 حلقات.
من الجميل والمفيد تتبع رحلة هذه القصة بداية من الرواية، وحتى فيلم سبايك لي، حيث تكشف كل من التشابهات والاختلافات أشياء كثيرة حول شخصية كل مخرج وأفكاره.
في فيلم كوروساوا الابن وصديقه أصغر كثيراً، لا يتجاوز عمرهما الثامنة، بينما قفز لي بعمرهما عشر سنوات تقريباً، وليس واضحاً سبب هذا التغيير.
في الرواية وفيلم كوروساوا يعمل البطل كصانع وتاجر أحذية، يحب مهنته، ويحاول الحفاظ عليها في وجه رياح التغيير، في فيلم لي البطل منتج موسيقى، متخصص في اكتشاف وصناعة نجوم الغناء الأميركيين الأفارقة.
الدافع وراء هذا التغيير مفهوم، فسبايك لي يريد استكشاف عالم الموسيقى السوداء، وخاصة الأنواع الجديدة مثل "الراب"، بل يصور حواراً طويلاً في أحد المشاهد بين كينج والخاطف (الذي يتبين أنه مغني وموسيقي أسود غاضب يريد لفت انتباه كينج له) مكتوب بطريقة "الراب"، حيث يتبادل الإثنان نفس الإيفيهات المقفاة السخيفة!
ويستعين سبايك لي بالمغني المعروف ذو الاسم المعقد A$AP Roky، أو Rakim M للعب دور الخاطف، الفنان، الذي يبحث عن فرصة للشهرة والنجاح بأي طريقة.
هذا التغيير يختلف تماماً عن معالجة كوروساوا للقصة، التي يرى فيها تعبيراً عن "الحقد الطبقي"، حيث أن الخاطف يسكن في منطقة عشوائية فقيرة من المدينة، لكنه كلما نظر من النافذة يشاهد منزل البطل الفاره يطل من أعلى الجبل المشرف على المدينة، وهو يقارن كل يوم بين حياته البائسة "المتدنية" وحياة سكان "الأعالي".
من التغييرات الأخرى التي يقوم بها سبايك لي، جعل العلاقة بين البطل وسائقه أقرب إلى الصداقة الذكورية السوداء المتينة، وبالطبع هو في الرواية وفيلم كوروساوا مجرد سائق فقط، حتى لو كان عزيزاً على الأسرة ويعمل لديهم منذ سنوات طويلة.
في فيلم كوروساوا المأزق الأخلاقي الذي يتعرض له البطل (التضحية بابن السائق أم دفع كل ما يملك في سبيل نجاته) هو أكثر إنسانية، بينما في فيلم سبايك لي هو أكثر منطقية، كما أن تعاونهما معاً للايقاع بالخاطف أكثر "درامية".
بين النقد وتشتيت الأنظار
هذا المأزق الأخلاقي في فيلم كوروساوا يعكس مأزق الرأسمالية نفسها، وبالتحديد ما فعلته باليابان من فجوة طبقية خلال وعقب فترة النهضة الصناعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
لم تزل الفجوة الطبقية والمأزق الأخلاقي قائمين ربما أكثر من أي وقت مضى، مضافاً إليها تأثير "السوشيال ميديا" والعالم الافتراضي الذي نعيش فيه.
وإن كان هذا بالتحديد هو ما يقع فيلم سبايك لي في تخفيفه وتشتيت الانتباه عنه، في نهاية المطاف، فإن النظام الذي يدينه الفيلم هو الذي يعيد لكينج مكانته من خلال نفس الآليات القائمة.
صحيح أنه عمل ممتع، متقن الصنع، يحمل بصمة صاحبه، ولكن يتوقف المرء في نهاية الفيلم ليتساءل: أين المغزى من كل هذا؟!
*ناقد فني