
في لحظة مشحونة بالأسى والغموض والتساؤلات السياسية حول المستقبل، يفتتح فيلم "مع حسن في غزة" للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري الدورة الـ66 من "مهرجان الشعوب" (Festival dei Popoli)، أحد أقدم مهرجانات السينما في إيطاليا والمخصّص للسينما الوثائقية، وأحد أهم التظاهرات العالمية لهذا النوع من الأفلام.
وسيُعرض الفيلم مساء الاثنين 3 نوفمبر بحضور مخرجه، ليعلن انطلاق المهرجان.
ومنذ تأسيسه عام 1959، يشكّل "مهرجان الشعوب" فضاءً فريداً للسينما الوثائقية وملتقى للمخرجين والباحثين والفنانين من جميع القارات، فعلى مدى أكثر من 6 عقود، قدّم المهرجان أعمالاً صارت مرجعاً في تاريخ السينما غير الروائية، وفتح أبوابه أمام أصوات بديلة وسينمات ناشئة، وجعل من فلورنسا مختبراً للأفكار والجدل حول علاقة الصورة بالواقع.
وفي زمن تسوده الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يزال المهرجان مخلصاً لشعاره: "أن تكون السينما مرآة للشعوب وذاكرة للمجتمعات".
فيلم الافتتاح.. غزة التي ما عادت موجودة
"مع حسن في غزة" (2025 – 106 دقائق) لا يقتصر على كونه وثائقياً تقليدياً، إذْ بُنيَ بالاعتماد على 3 أشرطة "MiniDV" صُورت عام 2001 في قطاع غزة وعُثر عليها حديثاً، لتتحوّل إلى شهادة عن مكان وزمان مُحيا من الوجود.
ويبدأ المشروع بمحاولة المخرج العثور على رفيق اعتقال سابق من عام 1989، لكن البحث ينقلب إلى رحلة غير متوقعة عبر غزة، من شمالها إلى جنوبها، بصحبة المرشد المحلي حسن، الذي يبقى مصيره مجهولاً.
تلتقط الكاميرا شوارع مكتظة ووجوهاً عابرة، لحظات يومية بسيطة، وأمكنة اندثرت تحت وطأةِ الحروب، لتأتي النتيجة تأملاً في الذاكرة، الفقدان، وفي زمن يترك وراءه غزة أشبه بمدينة أشباح.
يصف كمال الجعفري فيلمه لـ"الشرق" قائلاً: "إنه تحية إلى غزة وأهلها، إلى كل ما مُحي وعاد إلى ذاكرتي في هذه اللحظة الحاسمة من الوجود الفلسطيني. إنه فيلم عن الكارثة وعن الشعر الذي يقاوم".
من جانبه، أوضح مدير المهرجان آليساندرو ستيلّينو خلفيات هذا الاختيار قائلاً: "فكرنا طويلاً في كيفية افتتاح الدورة الجديدة. وبرُغم أن المهرجان في العادة احتفالاً، فإن الفظائع التي نشهدها اليوم جميعاً تفرض علينا اتخاذ موقف".
وقال ستيلّينو لـ"الشرق" إن فيلم الجعفري "وثيقة نادرة لفهم ما يحدث: إبادة، دمار، محو عالم كامل، لكن الصور تذكّرنا بإنسانية لا يمكن أن تُلغى، واختيارنا افتتاح الدورة بـ(With Hasan in Gaza) يعني تأكيد الدور السياسي للسينما الوثائقية وللمهرجان نفسه، الذي يضع في صميم برنامجه القضايا الأكثر إلحاحاً في المشهد العالمي".
حضور دولي وسيرة مخرج
الفيلم الفلسطيني، المشارك في المسابقة الدولية للأفلام الطويلة في فلورنسا، عُرض سابقاً في مهرجانات مرموقة مثل لوكارنو، تورونتو، ونيويورك.
أما كمال الجعفري، فهو أحد أبرز المخرجين والفنانين الفلسطينيين المعاصرين، يُقيم حالياً في برلين، وأعماله التي تستقصي التاريخ الفلسطيني وتعيد تشكيله عُرضت في أهم المهرجانات والمتاحف العالمية، من لوكارنو ولندن إلى فيينالي وبينالي ساو باولو.
وانعكست روح الفيلم أيضاً في ملصق الدورة الـ66، فثمة وجه امرأة تُحدّق في الأفق، يليه كولاج بصري يستوعب عناصر البرنامج: قضايا راهنة ملتهبة، وأعمال تتأمل قيمة الفن في زمن النزاعات، ودور الفعل الجماعي في رسم المستقبل.
الملصق يربط الحاضر بالماضي والمستقبل في لوحة بصرية تعكس غنى برنامج يتضمن عروضاً، لقاءات، وماستر كلاس، ويؤكد مرة أخرى أن السينما الوثائقية أداة أساسية لفهم عالم مضطرب.
وتقام فعاليات مهرجان الشعوب "Festival dei Popoli" بين 1 و9 نوفمبر هذا العام، بتنظيم المعهد الإيطالي لفيلم التوثيق الاجتماعي "ETS"، برئاسة روبرتو فيرّاري، وبرئاسة شرفية للمخرج البريطاني كين لوتش، وإدارة فنية لأليساندرو ستيلّينو، وإدارة تنظيمية لكلوديا ماتشي.
وعلى مدى 9 أيام، ستكون فلورنسا مرة أخرى عاصمة للسينما الوثائقية، حيث تتلاقى الأفكار والوجوه والقصص من أجل التفكير الجماعي في مستقبلٍ أكثر إنسانية.