خاص
فن

One Battle After Another.. في هجاء التطرف ونقد العنصرية الأميركية

time reading iconدقائق القراءة - 14
مشهد من الفيلم الأميركي One Battle After Another للمخرج بول توماس أندرسون - facebook/WarnerBros
مشهد من الفيلم الأميركي One Battle After Another للمخرج بول توماس أندرسون - facebook/WarnerBros
القاهرة -رامي عبد الرازق*

هذا مخرج متورط في البلد المرعب الذي يعيش فيه، لم يكف عن تفكيك جينات المجتمع الذي نشأ قبل قرون قليلة لكنه يتصدر الآن واجهة الحضارة البشرية في المال والسلاح والنفوذ الاقتصادي والهيمنة السياسية، فالأميركي بول توماس أندرسون ليس مجرد صانع أفلام ملفتة وشيقة وذات جاذبية بصرية ودرامية ونوعية موسومة بتوقيعه المغامر والجرئ، لكنه بلا شك يملك مشروع تشريحي واضح لمكونات الشخصية الأميريكية منذ أن بدأ في منتصف التسعينيات- ورشح خلال رحلته إلى11 جائزة اوسكار- وصولاً إلى احدث تجاربه وأكثرها زخماً ولهاثاً One Battle After Another.

هذا مخرج مهموم بالتاريخ الأميركي، غالبية أفلامه تدور في بيئات زمنية سابقة، حيث يعود للتمعن في الإنسان الذي يصنع هذا التاريخ ويصنعه هذا التاريخ؛ في There Will Be Blood يذهب إلى القرن التاسع عشر وحمى التنقيب عن البترول، التي أعادت تشكيل المجتمع والسياسة الأمريكية بأكملها في القرن العشرين، وفي The Master و Phantom Thread يرجع إلى الخمسينيات البراقة وبداية تشكل الحلم الأميركي عقب الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة.

ثم السبعينيات وما أدراك ما السبعينيات بالنسبة له، حقبته الأثيرة ومساحة النقد الحريف لوهج الحلم الزائف والرخيص والمعجون بالعنصرية والتطرف والشهوة المال وموت الضمير، حيث يقدم ما يمكن أن نطلق عليه ثلاثية السبعينيات الفاضحة Boogie Nights و Inherent Vice و  Licorice Pizza.

وهي الحقبة التي على ما يبدو يرى أندرسون انه من الصعب أن نقف على تشريح المجتمع الأميركي الحالي دون التمعن فيها أكثر من مرة؛ حيث شهدت انتقال ثورة الشباب من أوربا إلى أميركا وظهور "الهيبز" والجماعات الدينية والعرقية والمتمردين المسلحين، ما بعد حرب فيتنام وأزمة بترول الشرق الأوسط، وفضيحة ووترجيت، وغيرها من الأزمات والهزات، التي أعادت رسم الشخصية الأميركية كما نعرفها اليوم في فيلمه الأخير One Battle After Another، والذي يتقدم فيه زمنياً إلى بدايات الألفية وصولاً إلى عصر السوشيال ميديا والتليفون المحمول.

بين الماضي والحاضر

هذا مخرج مهووس بماضي الشخصيات، إذا لم يتتبعها من فترات مبكرة قبل أن يتحول حاضرها إلى ماضي، فإنه لا ينفك يعود لهذا الماضي مراراً عبر الذاكرة أو عبر تأثيراته الممتدة في سلوك الشخصيات ومستقبلها الهش.

يبدأ مع شخصياته من منحني خطر أو نقطة تحول أو قرار بالعودة، يصاعد بالتدريج أو يقفز زمنياً، لكنه لا يترك ماضي الشخصيات في حاله ولا يترك الماضي الشخصيات في حالها، يعجن كل منهم بالآخر حتى يذوب الفارق الزمني بين الشخصية في الحاضر وماضيها الفائر.

هذا مخرج يعرف جيداً أن الجنس هو مكون رئيسي من مكونات الحالة الأميركية، الجنس بمختلف تجلياته الغريزية والجسدية وتحكماته في أنماط السلوك الإنساني، بداية من الحب مروراً بالعنصرية والتطرف ووصولاً إلى القتل والدم، لا يخلو فيلم له من صراعات يفجرها الجنس أو يغذيها أو يشير إليها بالأعضاء والألفاظ والدلالات، لديه أبطال يعملون بالجنس مثل Boogie Nights، ويعملون من أجل الجنس مثل The Master، أو يتورطون في أزمات بسبب الجنس مثل Punch-Drunk Love وOne Battle After Another وLicorice Pizza.

أخيراً.. هذا مخرج كل شخصياته تقريباً تتحول من لا بطل بالمعنى الدرامي Anti hero، إلى أبطال دراميين يحركهم التورط في صراعات لم يختاروها أو وجدوا أنفسهم في دائرتها الجهنمية، رجل يتصل بعاملة جنس تليفوني فيقع في ابتزاز عصابة القواد الذي يدير شبكة الاتصالات Punch-Drunk Love، شاب يريد أن يستغل وسامته فيلطخه العمل في أفلام البورنو، صانعاً منه نجماً لجمهور مريض Boogie Nights، جندي عائد من لوثة الحرب يقع في شباك رجل يدعي نبوة علمية زائفة The Master.

ضد الـ MAGA 

لا يكاد يخلو One Battle After Another من كل العناصر التي أشرنا إليها في سينما أندرسون، بل يمكن أن نضيف عليه أنه أكثر أفلامه حركة وعنفاً، ربما لأنه أيضاً أكثر أفلامه احتكاكاً بعوالم التطرف والعنصرية والجماعات السرية، وقضايا الملونين واللاجئين في ذروة الأزمة التي تحرك أحشاء أميركا تحت شعار MAGA الدموي (Make America Great Again).

للمرة الثانية، يعتمد أندرسون على نص روائي للكاتب الأميركي Thomas Pynchonرواية Vineland، بعد ان اقتبس له من قبل رواية Inherent Vice في فيلم من بطولة خواكين فينيكس في ثاني تعاون بينهم بعد رائعتهم The Matser عام 2012.

وبينشون هو روائي أميركي من مواليد عام 1937، وتجمع رواياته ما النقد السياسي والفلسفة والأجواء السوداء/النوار، وهي روايات مليئة بالشخصيات الجانبية الغريبة، والأسماء الساخرة، والحكايات الفرعية التي تتشعب، وأسلوب ما بعد حداثي يخلط الكوميديا السوداء بالجدية وكلها عناصر لو نظرنا لها نظرة مقاربة، لعرفنا السبب وراء اختيار أندرسون لأعمال هذا الروائي المهم، وكأن أندرسون عثر على صوته الروائي في بينشون نفسه.

يعيد أندرسون إنتاج زمن الرواية، فبدلاً من 1984 يحركها إلى بدايات الألفية – العقدين الثاني والثالث تقريباً- وينقلها من فترة رونالد ريجان لنجد أنفسنا في حقبة ترمب، دون إشارة صريحة! ولكن وجود الحائط الحدودي الشهير في مشاهد تهريب المكسيكيين يجعلنا ندرك أين نحن زمنياً بالتحديد في الفيلم. 

أميركا الحالية

نحن في أميركا الحالية، حيث تقوم جماعة من المتمردين الملونين، غالبيتهم من السود، ببث الرعب في أنحاء الولايات المختلفة عبر تهديد وتفجير وسرقة كل ما يمت للحالة العنصرية أو الرأسمالية أو التيار المحافظ في السلطة أو الاقتصاد، تقودهم امراة من أصول إفريقية تدعى "بريفيدا بيفرلي هيلز" (تيانا تايلور)، مصطحبة معها زوجها أو عشيقها "بوب" أو "بات" (ليوناردو دي كابريو) الذي يبدو منساقاً بشكل غير واع إلى رغباتها الحارقة في ممارسة الجنس أثناء تفجير القنابل، وزرع المتفجرات في أبراج الكهرباء أو بيوت النواب، أو مقرات البنوك والشركات الكبرى.

في الرواية الأصلية، تدور الأحداث من الحاضر وتعود إلى الماضي حيث حركات اليسار الطلابية المتمردة التي تنتهي بأفول نجم الستينيات الثائرة، والدخول في دائرة السبعينيات المفرغة من القيم والغضب والثورة.

رواية بينشون بالأساس هي رواية تتّبع انهيار أحلام الستينيات: الحرية، الثورة، الثقافة المضادة، مقابل سيطرة النيوليبرالية واليمين في الثمانينيات، وعلى ما يبدو أن أندرسون يرى أن التاريخ يعيد نفسه الأن في زمن MAGA.

الفيلم يسير، مثل الكثير من أعمال أندرسون، بتطور تصاعدي من الماضي إلى الحاضر، يعيد ترتيب احداث الرواية ويبدأ مع علاقة "بوب" أو "بات" (في الرواية يدعى "زايدون" أو "ويلر") بالثورية السمراء التي تخونه وتخون رفاقها مع الكولونيل الأبيض العنصري المجنون "ستيفين جي لوك" (شون بين في دور أوسكاري دون منافس في 2026)، هذا الضابط الناضح بالبياض، بشرته وعيناه وشعره ونظراته العنصرية الكارهة لكل ماهو ملون، بسبب هوسه الرهيب بالجسد الأسمر والنساء السوداوات، وهو ما يتعارض مع نقاء عرقه ناصع البياض.

يحافظ أندرسون على بنية العلاقة المتداخلة ما بين الثورية والضابط، مضيفا إليها البعد العرقي واللوني والعنصري، بديلاً عن البعد السياسي الستيناتي الذي تقدمه الرواية، مع جرعة صوابية سياسية لا بأس بها تناسب نبرة العصر، ويحافظ أيضاً على خيانة "بريفيدا" لمجموعتها اليسارية/الثورية، في الرواية تكون الخيانة مع ضابط من المباحث الفيدرالية وليس عقيد في الجيش الأميركي.

ثم تصبح ثمرة هذه العلاقة (المحرمة عنصرياً) هي حمل "بريفيدا"، والتي يظن رفيقها "بات" أن أحشائها تضم طفلاً من صلبه الطيب. 

ومع كل هوس "بريفيدا" بالجنس مع رفيقها، أثناء التفجيرات الثورية، نجدها تتفاهم جسدياً بشكل مسيطر مع الكولونيل عاشق الملونات، وتكسر شوكته الغريزية عبر مضاجعة رائعة حد الألم، ليصبح ثمن هروبها هو تسليم بقية الرفاق ومن بينهم زوجها وابنتها أنفسهم!

ثم يتقدم بنا الزمن 16 عاماً، ليصبح الفصل الأول من الفيلم هو الماضي الذي يؤطره أندرسون كعادته صانعاً منه جذور الصدام بين الشخصيات في حاضرها.

بين الرواية والفيلم

في الرواية، نبدأ والابنة مراهقة، تبحث عن أسباب اختفاء أمها وهي صغيرة، وفي الفيلم نبدأ والأم نفسها تخون وتهرب قبل أن تظهر الفتاة الجميلة في الفصل الثاني، وهي تعيش مع أبيها الثوري المعتزل مدمن المخدرات والتليفزيون بعيدا عن احراش الماضي (المجيد)- حتى أنه ينسى شفرة الحديث مع الرفاق، ويعجز عن متابعة خط سير ابنته التي يتم تهريبها من كلاب صيد الكولونيل الغاضب. 

في الرواية، تدور المراهقة في رحلة مختلفة المحطات بين رفاق امها السابقين لترسم صورة الأم الخائنة قطعة قطعة، وصولاً إلى الضابط الفيدرالي الذي كان سببا مباشرا في خيانتها.

في الفيلم، يعكس أندرسون هذه الرحلة، يكشف في الفصل الأول خيانة الأم وهروبها، حيث ينطلق من لحظة ساخنة متوهجة برائحة الصواريخ والانفجارات والرصاص وتمارين إطلاق النار والجري، إيقاع أشبه بضربات سوط متلاحقة، غير مضطرب، لكنه يسبب قدر هائل من التوتر يحاكي عنوان الفيلم One Battle After Another.

تتحول شخصية ضابط المباحث إلى الكولونيل الأبيض، الذي يتم استدعائه للانضمام إلى جماعة عنصرية بيضاء، هدفها إبادة الملونين ونقاء العرق الأميركي، في تمثل نازي واضح، ومن هنا يبدأ هو نفسه في البحث عن الفتاة المراهقة السمراء، من أجل أن ينفي أبوته لها! أو يتأكد منها، فيقطع دابر تهمة الاختلاط الجنسي العابر للأعراق، والذي بلا شك سوف يلوث نقاءه الأبيض ومكانته في الجماعة السرية التي تؤسس لأميركا بلا ملونين.

هنا نشير بالطبع إلى أن الجماعات السرية الطائفية او العنصرية هي واحدة من بيئات أندرسون المفضلة، يمكن أن نرى هذا في فيلمي The Master وInherent Vice الذي هو عن رواية أخرى لبينشون.

ولا يخلو الفيلم من ذكر تاريخ أميركا مع هذه الجماعات، وهي إشارة أندرسون المفضلة الساخرة في الكثير من أفلامه، فحين يذهب الأب "بوب" إلى مدرسة ابنته يجدهم يعلقون صور رؤساء أميركا المختلفين، فيعلق بسخرية على مثالب كل منهم وصولاً إلى واحد من الأباء المؤسسين؛ بنجامين فرانكلين نفسه، صاحب الصورة على الدولار، الذي كان الزعيم السري لجماعة "كو كلوكس كلان" العنصرية البيضاء، ومالك لعدد كبير من العبيد من ذوي الأصول الإفريقية تحديداً.

دراما الطرقات الجبلية

في مشهد المطاردة الأخيرة بين واحد من جماعة مغامري عيد الميلاد العنصرية (أحفاد الكوكلس)، يقدم أندرسون واحدة من أكثر اللقطات الموترة للأنفاس والشرايين، في الطرقات الجبلية الوعرة حيث يصعد الأسفلت الأسود ويهبط مع تلال ومنحدرات الطريق، وحيث تهرب المراهقة الصغيرة من مطاردها الدموي بينما يحاول الأب اللحاق بها بشكل يائس، نشعر أن أندرسون يقدم لنا مفتاح أسلوبيته في هذه التجربة المفعمة بوهج الحركة والمطاردات.

يشبه بناء الفيلم في مجمله بناء هذا المشاهد وتتابع لقطاته، حالة من الترقب الشديد بعدة احتمالات مآساوية وباذخة العنف، هل سيقتل المطارد الفتاة؟ هل ستقلته؟ هل سينقذها أبيها! هل سيقلتها المطارد ثم يقتله الأب! هل يقتل الاثنين! دقائق من الأسئلة المحيرة والضاغطة على أعصاب المشاهد في إيقاع يستحق أن يُدرس سواء مونتاجياً أو على مستوى تصميم شريط الصوت والموسيقى والأداء التمثيلي خصوصاً من الممثلة الشابة كيسي إنفينتي وبالطبع ديكابريو العظيم.

يمكن أن نطلق على الفيلم دراما الطرقات الجبلية، حيث الصعود والهبوط المتتالي في الإيقاع والأحداث والتفاصيل بشكل مكثف ولاهث ودون توقف، قبل أن يحدث الصدام الأخير والنهاية المشبعة بالإنتقام والانتصار على حد سواء.

ويكفي أن نشير لإنه بعد أن تنتهي المطاردة ويجتمع الشتيتان – الأب والابنة- يصعد الإيقاع مرة أخرى بظهور جديد للكولونيل المجنون حاملاً سلاحة، بينما وجهه المصاب بطلقة غادرة يلوثه دمه العفن خالقاً تشوهاً يليق بروحه المريضة التي تنضح على وجهه البغيض.

وحين ينتهي به الحال في غرفة (الغاز)، بعد ان ظن أنه منح صك الدخول إلى عالم الزعامة البيضاء، تتأكد دلالات الإشارات النازية التي وفرها أندرسون للمتلقي في مشاهد ظهور أعضاء الجماعة السرية.

الأثر والتأثير

هذا فيلم مسلي لمن أراد حكاية مثيرة، وقصة ميلودرامية تراوغ النمطية، وتلعب على وتر العلاقات العائلية الثنائية في مجتمع بلا بوصلات أخلاقية، أو سياقات إنسانية واضحة تحول دون الألم أو الصراخ بحثاً عن إجابات.

وهو أيضاً فيلم يحمل نقد عميق لنفس المجتمع، الذي يريد أن يصبح عظيماً مرة أخرى لكن أصوله وأصوليته وتطرفه وعنصريته لن يجعلا منه إلا أرضاً خصبة لثورات مستمرة، ومتواليات من التمرد المتلاحق، كما نرى في النهاية حين تكسر المراهقة قشرة حياتها السابقة بأسرارها الهشة، وتخرج إلى المظاهرات المستعرة ضد من يحولون دون أن تكون هي وأمثالها أصحاب حق في المستقبل القريب والبعيد.

وهو فيلم ساخر يهين كرامة العنصريين ويجعل أصلابهم البيضاء المتطرفة تنجب فتيات سمراوات ثائرات، يعرفن كيف يطلقن النار على (مغامري عيد الميلاد)، بعد أن خلعوا القبعات المدببة التي كانت تخفي وجوههم الحمراء قبل أكثر من قرن على نفس الأرض، التي أبادوا سكانها الأصليين.

قد يشكل One Battle After Another منافس شرس في سباق الأوسكار للعام القادم، لكنه بلا شك سوف يتبوأ مكانة مهمة في قائمة أفلام العام الحالي، وفي هرمية التجارب السينمائية فواحة الأثر والتأثير، ضمن مشوار مخرجه صاحب الاختصار الشهير PTA لاسمه البراق؛ بول توماس أندرسون.   

*ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك