
مرة أخرى، نحن أمام سلسلة ناجحة يتم تمديدها عنوة بأجزاء لاحقة، غالباً ما تكون أقل نجاحاً في معظم الأحيان، وأحياناً تنتقص من نجاح الأجزاء الأولى.
حدث ذلك مع أعمال بشهرة Harry Potter و Game of Thrones و Star Wars وغيرها، التي صنع منها أجزاء لاحقة تبعد عن النص الأصلي ففشلت.
الشيء نفسه حدث مع مسلسلي La Casa de Papel، وSquid Game، وهما من أنجح ما قدمت منصة نتفليكس، ولكن ملاحقهما باءت بالفشل.
وهاهو الأمر يتكرر مع واحد من أفضل ما قدمت المنصة، خاصة في حقبة "كوفيد 19" ومابعدها، حيث بدأ هذا الأسبوع بث الموسم الثالث من المسلسل الياباني Alice in Borderland، بعد 3 سنوات على عرض الموسم الثاني، ظل خلالها محبو المسلسل يتمنون، ويتسائلون، ويخمنون بشأن موسم ثالث منتظر.
وكالعادة، بمجرد بدء عرض الموسم، راح الكثير منهم يمطرونه بالانتقادات ويتباكون على زمن الموسم الأول والثاني الجميل!
مسلسلات الألعاب
Alice in Borderland يعد نموذجاً أولياً لمسلسلات "الألعاب" الحديثة، ومنها Squid Game الكوري و"اللعبة" المصري.
وجدير بالذكر أن قصص المسلسل صدرت في الأصل في مجلات "المانجا" (القصص المصورة اليابانية) من تأليف ورسوم هارو آسو للمرة الأولى في 2010 فحققت نجاحاً هائلاً واستمرت حتى 2016، كما صدرت في كتب ترجمت للكثير من اللغات وتحولت إلى مسلسل تحريك.
ولكن النجاح الأكبر جاء مع مسلسل نتفليكس، الذي صدر في ديسمبر 2020 في 8 حلقات أعقبه موسم ثانٍ أفضل فنياً وأكثر نجاحاً.
مثل رواية الأطفال "آليس في بلاد العجائب" للويس كارول، التي تدور حول فتاة صغيرة تطارد أرنباً تجد نفسها فجأة وقد دخلت عالماً سحرياً يمتليء بالكائنات الغريبة ويخلو من المنطق البشري، فإن أبطال المسلسل، من سكان مدينة طوكيو، يغلقون أعينهم ويفتحونها ذات يوم ليجدوا أنفسهم في طوكيو مهجورة، تخلو من البشر ومعالم الزمن، حيث يتعين عليهم الدخول في ألعاب قاتلة الواحدة تلو الأخرى، في محاولات مستميتة للحفاظ على حياتهم.
بجانب الفكرة الغريبة (خاصة مع الإحالات الطريفة لقصة "آليس في بلاد العجائب")، هناك عدد من العناصر التي ساهمت في نجاح المسلسل، أهمها الممثلين المتميزين الجذابين، والشخصيات المكتوبة جيداً، والتصوير والمونتاج المبهرين، وبالطبع تصمصم المناظر والمؤثرات الخاصة اللذين خلقا عالماً سيريالياً عجيباً تتحول فيه المدينة ذات المعالم المعروفة والزحام القياسي إلى مدينة أشبه بالحلم أو الكابوس: "مدينة الحدود" بين الواقع والخيال، والحياة والموت.
وحدة الأسلوب والتناغم
في الموسم الثالث القصة مختلفة عن قصص "المانجا" الأصلية، ولكن الشخصيات الأساسية كما هي، والأحداث تبدو وكأنها امتداد أو فصل آخر من حياة الأبطال.
كذلك لم يتغير صناع العمل الأساسيين وعلى رأسهم المخرج شينسوكو ساتو، الذي يشارك أيضاً في كتابة السيناريو مع يازوكو كوراميتسو، مثل الجزئين الأول والثاني.
أعتقد أن أهم ما يميز Alice In Borderland هو وحدة الأسلوب والتناغم Harmony بين حلقات ووحدات ومواسم العمل، على عكس كثير من مسلسلات هذه الأيام التي يعهد فيها لكتاب ومخرجين مختلفين بتنفيذ العمل، بهدف تحفيز التنافس وتحقيق التنوع، ولكن النتيجة أحياناً ما تكون اختلاف الحلقات في المستوى والإيقاع وحتى أداء الممثلين.
في Alice يسري الشعور بأننا أمام كيان فني منسجم الأسلوب، متسق الفكر، متناسق العناصر، وبين الممثلين، على كثرتهم، كالعادة في دراما ألعاب الموت التي تشهد اختفاء ممثلين في كل حلقة تقريباً، فإن هناك كيمياء واحدة تجمعهم، الطيب منهم والشرير، الصالح والطالح، الشجاع والجبان، القوي والضعيف.
هذه الكيمياء ناجمة ليس فقط عن الشخصيات المكتوبة جيداً وأداء الممثلين البارع، ولكن أيضاً عن النظرة الإنسانية المحبة والعطوفة لكل البشر التي تظلل كل الشخصيات، وعالمهم، والتي تتضح معانيها الفلسفية والدينية العميقة مع آخر حلقات الموسم الثاني.
مقارنة
وإذا قارنا Alice، على سبيل المثال، بـ Squid Game فسوف نلاحظ نحافة وهشاشة شخصيات Squid Game، التي لا يبقى منها في الذاكرة سوى البطل وربما إثنين أو ثلاثة آخرين، على عكس Alice الذي يمتليء بشخصيات مكتملة جذابة يتعلق بهم المشاهد جميعاً، سواء الذين يموتون على مدار الطريق أو الذين يبقون حتى النهاية.
في Squid Game يكاد يكون الدافع الوحيد وراء سلوك الشخصيات هو الحاجة إلى المال، والحاجة إلى مزيد من المال، وما يفرق بين شخصياته هو فحسب درجة الجشع التي يتسمون بها.
إن مجاز أو استعارة اللعبة هنا هي الاقتصاد والفوارق الطبقية، التي تدفع الفقراء والجشعين إلى فعل أي شيء في سبيل أكل العيش أو حلم الثراء.
في Alice هناك الكثير من الدوافع ولكن ليس من بينها المال، النقاط التي يحصل عليها الفائز هي الأيام التي يسمح له بالبقاء على قيد الحياة، وبالتالي هذا هو الدافع الأول: البقاء على قيد الحياة، أي الغريزة الأساسية لدى أي كائن حي.
ولكن صراع هذه الغريزة له وجهان: خارجي ضد مخاطر العالم، وداخلي ضد غريزة الموت التي تلح على المرء بالكفر بجدوى القتال، والتوقف عن الكفاح، والخير والشر هنا لا يتعلقان بمدى قناعة أو جشع المرء، ولكن بمدى تمسكه بالحياة والأمل، في مقابل التشاؤم واليأس.
ويتضح كل ذلك شيئا فشيئاً حين ندرك أن كل هذه الألعاب تدور داخل الفرد، إن جسدهم يصارع الموت في سبيل البقاء، بينما أرواحهم وعقولهم تقود هذا الجسد نحو الاستمرار في النضال أو الاستسلام، وحتى الموت والشر في Alice ينظر إليه كجزء لا يتجزأ من الحياة، وهو ما يتسق مع الفلسفة الشرقية التقليدية وخاصة اليابانية والبوذية.
وعلى الرغم من أن ألعاب Alice دموية أكثر من أي مسلسل آخر، وهي تزداد دموية في الموسم الثالث، الذي يحتوي على الكثير من المشاهد الـ"جرافيكية" المفزعة، إلا أن جوهر العمل يدور عن الحب.
التصالح مع الذات ومع الموت
وبالإضافة إلى كونه يحتوي على واحدة من أجمل قصص الحب التي قدمتها الدراما، فإن خلاصة خطوطه الدرامية تكمن في الحب بمعناه العام: التصالح مع الذات (هؤلاء الذين يفشلون في ذلك يموتون) والآخرين (الذين يغدرون أو يفقدون الثقة بزملائهم يموتون) وحتى التصالح مع الموت نفسه (الذين يجبنون يضعفون أما الذين يواجهون الموت غير هيابين فينجون، أو يموتون بشرف ورضى عن النفس).
ربما ينشغل المشاهد بمشاهد الأكشن والدراما والابهار البصري والسمعي ويتعلق بالشخصيات ومصائرها، دون أن يفكر في هذه المعاني الضمنية كثيراً، ولكن هذه المعاني التي يتم التعبير عنها فنياً وجمالياً، هي التي تحدد نوع الشعور والمزاج الذي يشعر به المتفرج.
المؤكد، رغم أن فكرة وقصة الإثنين واحدة، فإن تأثير Alice يختلف تماما عن تأثير Squid Game. الأول، يمكن القول، فلسفي، أما الثاني فسياسي!
وبالطبع إذا قارنا بين هذين العملين ومسلسل "اللعبة" المصري، يمكن أن نقول أنه، من خلال الكوميديا الصاخبة، يكشف ببساطة عن هوس الكثيرين، خاصة الرجال، بفكرة الفوز والمنافسة، من اجل الشعور بالانتصار في حد ذاته. وهو أيضاً أحد التفسيرات العديدة لأهمية وجاذبية "اللعب" في حياة الإنسان.
هذه الفكرة تتردد في الموسم الثالث من Alice in Borderland، حيث تذهب بعض الشخصيات إلى اللعب بإرادتها، مراهنة بحياتها كلها مقابل اكتشاف عالم ما بعد الموت، أو من أجل متعة اللعب في حد ذاتها.
تجربة "الموت الوشيك"
يعلم من شاهدوا الموسمين الأول والثاني (والفقرة التالية "تحرق" النهاية، فلا تتابع قراءتها إذا كنت ترغب في مشاهدتهما دون "حرق" للأحداث!) أن الشخصيات كلها كانت ضحايا نيزك ضرب مدينة طوكيو، فترك المئات من سكانها موتى، والمئات مصابين، والعشرات بين الحياة والموت، فيما يعرف بتجربة "الموت الوشيك"، أي توقف القلب لمدة دقيقة إلى دقيقتين، ونكتشف في نهاية المطاف أن كل أحداث الموسمين كانت خيالاً يجسد الصراع داخل كل منهم داخل هذه التجربة، وأن "أرض الحدود" هذه تماثل ما يطلق عليه "الأعراف" أو المكان الذي يبقى فيه المرء بين الحياة والموت، أو الجنة والنار.
يبدأ الموسم الثالث وقد تزوج البطلان آريسو (كينتو يامازاكي) وأوساجي، ولكن تجربة "الموت الوشيك" لم تزل عالقة في نفس الضحايا الناجين، على هيئة صور وأحاسيس مبهمة تنتابهم، كما أن هذه التجربة قد لفتت انتباه بعض المحققين والعلماء، ومنهم بالتحديد الأستاذ الجامعي ريوجي (كينتو كاكو)، الذي يبحث في هذا الموضوع.
واحد من شخصيات الموسم الثاني الذين فضلوا البقاء كمواطنين في "أرض الحدود" (باندا، هاياتو ايزومورا) يظهر لريوجي ويقنعه باستدراج أوساجي وآريسو للعودة إلى "أرض الحدود" لكي يواصلا اللعب، حيث أنه يشعر بالملل من عدم وجود لاعبين جيدين بشكل كافٍ!
حبكة مرتبكة ساذجة لاقناع المشاهد بذهاب ريوجي والبطلان لتجربة "الموت الوشيك" عن طريق حقنة تتسبب في توقف قلوبهم لمدة دقائق!
إن سهولة اقتناع اوساجي بالاستسلام لأكاذيب ريوجي والعودة إلى تجربة الموت ( بحجة عدم قدرتها على نسيان أبيها بعد) ملفقة وغير مقنعة، كذلك دوافع ريوجي وباندا تبدو هشة وغير مقنعة.
بين المنطق والمصداقية
هناك فارق بين المنطق والمصداقية الفنية..فيما يجهد الموسم الثالث في "منطقة" التجربة، بتفسير ما يحدث في المخ والجسم أثناء "الموت الوشيك"، وحتى العودة إلى التفسير البيزيدو/علمي حول الفص الصنوبري في المخ وما يمكن أن يفعله تنشيطه (وهي الفكرة القديمة التي عالجها الدكتور مصطفى محمود في رواية "العنكبوت" وتحولت إلى مسلسل مصري في سبعينيات القرن الماضي).
لم يكن العمل يعبأ في موسميه الأول والثاني العمل بالعثور على هذه التبريرات والفرضيات العلمية، وكان جوهر سحره يكمن في الغموض وتعسر التفسير. كانت مشاهد العودة إلى الماضي Flashbacks تعني بوصف وتعميق الشخصيات لكي نفهم أسلوبها وردود أفعالها وأخلاقياتها في اللعب، ولذلك كانت تعطي ثقلاً ومصداقية حتى لأكثر الأحداث والمواقف غرابة!
في الموسم الثالث تبدو معظم الشخصيات الجديدة مسطحة وذات بعد واحد، ويصعب أن يتعاطف المشاهد معها، ربما باستثناء الفتاة الذكية ريي (تينا تاماشيرو) والزوج السكير تيتسو (كوجي أوكورا) الذي دخل الغيبوبة في نوبة سكر زائد! ومثلما فعل في جزئيه السابقين يسعى العمل عبر الكثير من مشاهد العودة في الزمن Flashbacks أن يجعلنا نصدق أو نتعاطف مع شخصياته، ولكنها لا تضبط هذه المرة.
مع سطحية الشخصيات وضعف الحبكة الدرامية يلجأ الموسم الثالث إلى التركيز على الألعاب نفسها، ولكن بعض الألعاب، خاصة في النصف الثاني، عنيفة ومعقدة أكثر من اللازم. في الموسمين الأول والثاني كان هناك ألعاب مبتكرة كثيرة وصعبة وقاسية، ولكن سهلة الفهم من قبل المشاهد. في الموسم الثالث هناك ألعاب قد يفقد المشاهد القدرة على متابعتها بسبب تعقيدها الزائد.
رغم هذه الملاحظات، فإن مشاهدة Alice In Borderland 3 تظل ممتعة، بما يحفل به من تشويق وإبهار بصري. كذلك يضيف الموسم الجديد أبعاداً جديدة لفكرته وعالمه من خلال الإشارة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى طبيعة اليابان التي تضربها كوارث الطبيعة من زلازل وأعاصير (بجانب ذكرى القنبلة الذرية المؤلمة) وعن طبيعة الشعب الياباني المقاتل في سبيل البقاء وإعادة الإعمار.
ومن زاوية أخرى يشير العمل إلى الطبيعة الأنثروبولوجية إلى الألعاب التي تبدو "وكأنها طقوس مقدسة" كما يصفها أحد الشخصيات، وهو بعد آخر مهم يمكن تتبعه أيضاً في Squid Game، حيث تحاكي الألعاب محطات دورة الحياة (الميلاد والموت والبعث) ورحلة الجسد والروح وعلاقة الإنسان بالطبيعة والكائنات الحية الأخرى، التي يلتهمها وتلتهمه، وعلاقته بالعائلة والمجتمع، ويؤكد المسلسل على قيم التضامن والتضحية وخوض غمار الحياة والحرب بشجاعة ونبل.
كلام طالما تردده الأعمال الفنية، ولكنه في نوع "الألعاب" يصبح تجربة حسية غامرة وليس مجرد حكم شفهية.
ولعل ذلك سبب جاذبيتها التي لا تنتهي!
*ناقد فني