
أصدرت هيئة الأفلام السعودية أول تقرير سنوي شامل عن صناعة الأفلام في المملكة، ليقدّم مشهداً متكاملاً بالأرقام والحقائق حول حجم النمو، وتحوّل القطاع إلى ركيزة اقتصادية وثقافية تُمكّن المملكة من التنافس على خارطة الإنتاج العالمي.
التقرير الذي جاء بعنوان "التقرير السنوي لصناعة الأفلام السعودية 2024" يرسّخ فكرة أن ما بدأ كحلم ثقافي قبل عقد، أصبح اليوم منظومة متكاملة تجمع بين الدعم المؤسسي، والبنية التحتية الحديثة، والابتكار في التدريب، والانفتاح على الشراكات الدولية.
في مقدمة التقرير، يشير وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود إلى أن صناعة الأفلام في المملكة لم تعد نشاطاً فنياً هامشياً، وإنما أصبحت أحد محركات الاقتصاد الإبداعي الوطني، المتناغم مع رؤية السعودية 2030.
وأكد أن الفن السابع بات مساحة لخلق فرص عمل، وتنويع مصادر الدخل، ورواية القصص السعودية للعالم، مستنداً إلى إرث ثقافي ومعرفي غني، وإلى شغف متزايد لدى الأجيال الجديدة بالإبداع البصري.
أما الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام عبدالله آل عياف، فشدّد في كلمته على أن التقرير يمثل أول توثيق رسمي لرحلة الصناعة بالأرقام، من شباك التذاكر إلى الإنتاج والتوزيع والتدريب، قائلًا إن المملكة "تتقدم بخطى واثقة لتصبح مركزاً إقليمياً لصناعة الأفلام في الشرق الأوسط، وبوابة للمنطقة نحو العالم".
7 سنوات من التحول
يعود التقرير إلى جذور الحراك، موضحاً أن بدايات السينما السعودية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، لكنها دخلت مرحلة تاريخية جديدة منذ إطلاق رؤية 2030 في عام 2016 وعودة دور السينما عام 2018، لتتحول من نشاط محدود إلى صناعة منظمة تدعمها بنية تحتية وتشريعية متطورة.
خلال سنوات قليلة، أصبحت المملكة تستقطب كبرى الشركات العالمية مثل نتفليكس، وأطلقت مهرجاناتها الكبرى مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وأسست برامج تمويل ضخمة مثل "ضوء" و"رداد المالي للاستثمار".
ويشير التقرير إلى أن أفلاماً سعودية مثل"سطّار" و"نورة" نجحت في تحقيق حضور عالمي، إذ شارك فيلم "نورة" في قسم Un Certain Regard بمهرجان كان السينمائي لعام 2024، محققاً إشادة نقدية خاصة، كأول فيلم سعودي يُختار رسمياً للمسابقة منذ عودة السينما.
جمهور متزايد
شهد عام 2024 استمراراً للنمو في إيرادات شباك التذاكر، حيث بلغت 845.6 مليون ريال سعودي، مع بيع 17.52 مليون تذكرة في 64 موقعًا سينمائيًا تضم 630 شاشة عرض.
ورغم الانخفاض الطفيف مقارنة بالعام السابق، يُظهر التقرير أن السوق السعودية حافظت على موقعها كأعلى سوق سينمائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث الإيرادات.
تصدرت منطقة الرياض الإيرادات بـ391 مليون ريال، تلتها مكة المكرمة بـ224 مليون والمنطقة الشرقية بـ128 مليون.
أما الأفلام الأمريكية فاستحوذت على 61% من الإيرادات، تليها الأفلام المصرية بنسبة 25%، بينما حققت الأفلام السعودية 7% من إجمالي الدخل المحلي.
ويؤكد التقرير أن هذا التوازن بين المحلي والعالمي يعكس نضوج السوق، وأن الانخفاض في المتوسط السعري للتذكرة — الذي وصل إلى 48.27 ريالًا بانخفاض 28% منذ 2020 — ساهم في توسيع قاعدة الجمهور ودعم الإقبال المستمر.
نجاح محلي
في قائمة الأفلام السعودية الأعلى إيراداً لعام 2024، جاء فيلم "مندوب الليل" في الصدارة بإيرادات بلغت 28.68 مليون ريال، تلاه "شباب البومب" بإيرادات 26.6 مليون ريال.
ويعكس هذا النجاح تصاعد ثقة الجمهور المحلي في الإنتاج الوطني، وتطور أدوات السرد البصري، والقدرة على المنافسة في صالات العرض جنباً إلى جنب مع الإنتاجات العالمية.
أما في قائمة الأفلام الأجنبية، فاحتل فيلم Bad Boys: Ride or Die المرتبة الأولى بإيرادات بلغت 88.1 مليون ريال، متبوعاً بفيلم "ولاد رزق 3" المصري بـ39.9 مليون ريال، مما يؤكد أن السوق السعودية أصبحت منصة إقليمية جاذبة للعروض الكبرى والإصدارات الأولى.
التمويل والحوافز
وفق التقرير، بلغ الإنفاق الإنتاجي داخل المملكة لعام 2024 أكثر من 1.08 مليار ريال، بفضل برامج الدعم والحوافز التي أطلقتها الهيئة.
وشمل الدعم أكثر من 57 مشروعاً سينمائياً محلياً ودولياً، من بينها إنتاجات ضخمة تم تصويرها في السعودية مثل Kandahar.
وتتوزع الحوافز بين برامج مختلفة أبرزها: برنامج "ضوء" لدعم الأفلام السعودية المستقلة، وبرنامج "رداد المالي للاستثمار" الذي يمنح استرداداً مالياً يصل إلى 40% من النفقات الإنتاجية داخل المملكة، ومبادرات الدعم من نيوم والعلا وصندوق التنمية الثقافية ومهرجان البحر الأحمر وإثراء الأفلام.
هذه البرامج، وفق التقرير، لم تكتفِ بجذب الإنتاج المحلي بل شجعت أيضًا الإنتاجات العالمية على اختيار المملكة كموقع تصوير رئيسي، لما توفره من تنوع جغرافي وسهولة في التراخيص وتكاليف تنافسية.
البنية التحتية للإنتاج
توسع القطاع الإنتاجي في 2024 بشكل غير مسبوق، إذ بلغت المساحات المخصصة للاستوديوهات أكثر من 100 ألف متر مربع موزعة على مناطق متعددة.
وتستعد العاصمة الرياض لافتتاح مشروع “HegasX Studios” الذي يمتد على مساحة 7,000 متر مربع، ويعد من أضخم المشاريع في المنطقة.
كما يضم القطاع اليوم 17 استوديو إنتاج، تحتوي على 37 منطقة تصوير معزولة صوتياً (Sound Stages)، إلى جانب 65 شركة إنتاج و7 شركات توزيع نشطة، وهو ما يؤشر إلى نشوء سوق إنتاجية متكاملة تربط بين التصوير، والخدمات اللوجستية، والتوزيع التجاري.
جيل جديد
أولت الهيئة اهتماماً كبيراً بتأهيل الكفاءات الوطنية، عبر برامج تدريبية استقطبت أكثر من 4700 مشارك في عام واحد.
ومن بين هذه البرامج: "صنّاع الأفلام" الذي يقدّم ورشًا متخصصة في كتابة السيناريو والإخراج، و"كادر" لتأهيل الفنيين والإداريين في مواقع التصوير، و"فيلماثون" الذي جمع 476 مشاركاً لابتكار حلول تقنية وتطبيقات رقمية تخدم الإنتاج السينمائي.
هذه المبادرات، كما يشير التقرير، لا تقتصر على التدريب فقط، بل تمثل رافدًا لبناء منظومة مهنية دائمة تسهم في استدامة الصناعة، وتمنح الشباب فرص عمل حقيقية داخل المملكة وخارجها.
بوابة إلى العالم
يرصد التقرير نمواً لافتاً في الحراك السينمائي من خلال الفعاليات والمهرجانات، ففي عام 2024، تجاوز عدد زوار مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 75 ألف زائر، بينما استقطب منتدى الأفلام السعودي أكثر من 70 ألف متخصص من 25 دولة، وشهد توقيع 24 اتفاقية شراكة بقيمة 226 مليون ريال.
كما نُظمت فعاليات "ليالي الفيلم السعودي" في عواصم عدة منها الرباط وسيول ومدريد، بحضور تجاوز 3,600 مشاهد، ضمن استراتيجية تهدف إلى توسيع حضور السينما السعودية عالمياً.
ونالت الأفلام السعودية خلال العام 50 جائزة محلية ودولية، بينها 11 جائزة من مهرجانات كبرى لأفلام مدعومة من هيئة الأفلام.
حفظ الذاكرة السينمائية
في موازاة الإنتاج، واصلت هيئة الأفلام جهودها في حفظ التراث السمعي البصري، عبر الأرشيف الوطني للأفلام الذي جمع حتى نهاية 2024 أكثر من 68 ألف مادة أرشيفية.
تم فهرسة 6,439 مادة جديدة خلال العام، من بينها لقطات نادرة ووثائق إنتاجية، بهدف حفظ الذاكرة السينمائية وتوفير مصادر للباحثين والمخرجين.
ويعد هذا المشروع أحد أهم ركائز الاستدامة الثقافية في القطاع، إذ يضمن توثيق الموروث البصري الوطني وتداوله للأجيال المقبلة.
تحول تنظيمي وتشريعي
التقرير يسلّط الضوء كذلك على التيسيرات الحكومية والتنظيمية، حيث خُفضت رسوم تراخيص السينما والتصوير، وسُرعت إجراءات تصاريح الإنتاج، مما خفّض كلفة التشغيل بنسبة كبيرة.
كما ساهمت منصة "أبدع" الرقمية في تسهيل إجراءات الترخيص والتواصل بين صناع الأفلام والجهات الحكومية.
النتيجة كانت: إصدار 1500 ترخيص جديد في عام واحد، منها 73 ترخيصاً للإنتاج السمعي البصري و12 لتشغيل دور السينما، ما يشير لازدهار بيئة الأعمال في القطاع.
يشير التقرير إلى أن عام 2024 شهد أيضاً إطلاق النسخة الثانية من مؤتمر النقد السينمائي الذي جمع أكثر من 10 آلاف مشارك في ثلاث مدن (حائل، الأحساء، الرياض)، ليؤسس لحوار نقدي متطور حول التجارب السعودية والعربية الجديدة.
كما انضمت هيئة الأفلام السعودية إلى رابطة هيئات الأفلام الدولية (IFCA) في يونيو 2024، لتكون جزءاً من المنصات العالمية التي تناقش سياسات السينما وتبادل الخبرات.
عام الأرقام والإنجازات
في نهاية التقرير، تُلخص هيئة الأفلام حصاد العام بالأرقام:
845.6 مليون ريال إيرادات شباك التذاكر
17.52 مليون تذكرة مباعة
64 موقعاً و630 شاشة سينما
1.08 مليار ريال إنفاق إنتاجي
17 استوديو تصوير و65 شركة إنتاج
57 مشروعاً مدعوماً
70 ألف زائر لمنتدى الأفلام
50 جائزة محلية ودولية
أرقام تؤكد، كما جاء في ختام التقرير، أن السينما السعودية أصبحت "تفرض حضورها بثقة في مشهد عالمي متسارع".
وعلى امتداد صفحاته، عكس التقرير صورة صناعة سعودية ناهضة تستند إلى ثلاثية الوعي، والإنتاج، والاستدامة، من دعم المواهب المحلية إلى جذب الإنتاج الدولي، ومن بناء الاستوديوهات إلى تخفيض أسعار التذاكر، يتضح أن المملكة تخوض مشروعاً استراتيجياً متكاملاً لإعادة رسم خريطة السينما العربية.