
هذا واحد من الأفلام التي يقع في حبها الجمهور.
قصة إنسانية ناعمة، مؤثرة، لا تثير جدلاً من أي نوع، ولا خلافاً مع أي طرف، سيناريو جيد البناء، وخط سردي مباشر، وبسيط.
بطلة طفلة، طبيعية الأداء، تخطف القلب، تضحكك أحياناً، وتبكيك أحياناً.
فريق عمل من المحترفين: من كتاب (آل دياب: خالد وشيرين ومحمد) وممثلين (منهم نيللي كريم، حنان مطاوع، حنان يوسف، شريف سلامة وعدد من ضيوف الشرف بجانب الطفلة الموهوبة ضحى رمضان بطلة الفيلم)، ومدير تصوير (سيف الدين خالد) ومونتير (أحمد حافظ)، ورائهم إخراج متقن من سارة جوهر في أول أعمالها.
ولكن لماذا، إذن، يبدو أن هناك شيئاً ما ناقصاً، في فيلم "عيد ميلاد سعيد"؟
استقبال حافل
انتزع "عيد ميلاد سعيد" ثلاثاً من جوائز مهرجان "تريبيكا" المعتبر، لأفضل فيلم وسيناريو، وجائزة نورا إيفرون لأفضل فيلم نسوي، الفيلم اختير أيضاً لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وقد اختارته أغلبية اللجنة على الفور رغم مشاركته المتأخرة، كما اختير الفيلم أيضاً ليعرض في افتتاح مهرجان "الجونة"، حيث حظى باعجاب معظم الحاضرين.
على مستوى النقد أيضاً حظي الفيلم بإشادات النقاد الأجانب الذين كتبوا عنه حتى الآن (عقب عرضه في "تريبيكا").
يضاف إلى ذلك ترشيح الفيلم لتمثيل مصر في قسم أفضل فيلم دولي في الأوسكار، وهو ما يؤهل الفيلم للترشح إلى القائمة القصيرة، على أمل أن يصبح أول فيلم مصري روائي ينال هذا الشرف.
ولكن بغض النظر عن هذا كله، هل "عيد ميلاد سعيد" عمل سينمائي عظيم؟
أعتقد أنه فيلم جيد، ولكن ينقصه أنه يكتفي بذلك.
يحمل الفيلم إمكانية أن يكون عملا ممتازاً، على شاكلة Roma ألفونسو كوارون، و I am still Here والتر ساليس، و Shoplifters هيروكازو كوريدا، ولكنه، للأسف، يتوقف في منتصف الطريق، مستسلماً للعادي والتقليدي في الكتابة والتنفيذ، ما يحرم أصحابه، ويحرمنا، من عمل كان يمكن أن يصل لقامة الأفلام السابق ذكرها.
يبدأ "عيد ميلاد سعيد" بطفلتين، في سن الثامنة تقريباً، تستيقظان عند الفجر لتتناقشان حول الاستعداد لحفل عيد ميلاد إحداهما، تبدوان كأختين أو ابنتي عم، ولكن عندما يدخل نور الشمس إلى المكان وتستيقظ العائلة، ندرك أن إحداهما هي ابنة أصحاب البيت أما الثانية فخادمة لديهم.
الطفلتان هما توحة (ضحى رمضان)، الخادمة، والثانية هي نيللي (خديجة أحمد)، صاحبة عيد الميلاد، التي تعيش مع أمها ليلى (نيللي كريم) وجدتها (حنان يوسف).
وسرعان ما نعلم أن ليلى تقوم بحزم أثاث البيت للانتقال إلى مكان جديد، بعد أن اتفقت مع زوجها (شريف سلامة) على الطلاق، ولكن تحت الحاح الجدة، التي تأمل في عودة المياه لمجاريها بين الزوجين، وتوحة، التي تأمل أن تشاهد أول عيد ميلاد في حياتها وأن تطفئ شمعة وتتمنى أمنية، تقرر ليلى تأجيل الانتقال وإقامة عيد الميلاد ودعوة الزوج إلى الحضور.. لعل وعسى!
بناء اليوم الواحد
هناك شئ غير مريح في بناء الفيلم على قالب اليوم الواحد، من الفجر إلى فجر اليوم التالي، هذا القالب يؤدي إلى تزاحم وتسارع الأحداث، بأكثر من منطق الواقع ومن نوع الدراما الهادئة التي ينتمي إليها الفيلم، ولا أعلم ما هو الفارق الذي كان يمكن أن يحدث لبناء الفيلم لو أن الأحداث استغرقت يومين أو ثلاثة، حتى يمكن استيعاب الأحداث والتحولات في الشخصية بشكل مقنع وأكثر واقعية؟!
تقرر ليلى إقامة عيد الميلاد ودعوة الأصحاب والأقارب، وشراء مستلزمات الحفل والتورتة الخاصة التي تحمل صورة الابنة، وشراء فستان جديد لها.
يرحب الزوج، الذي يبدو وكأنه فوجئ بعيد الميلاد، بالحضور، وكأن عيد الميلاد هذا لم يكن مثار حديث واستعداد الأسرة على مدار الأسبوع السابق (كما يحدث عادة لدى عائلات هذه الطبقة)، كما يرحب المعارف والأصدقاء بحضور الحفل الذي يقام بعد ساعات معدودة.
أسرع مما يجب
وإذا تجاوزنا عن البداية السريعة أكثر من اللازم، فسوف يقابلنا الإيقاع العام للفيلم، الـpace، الذي تتوالى به الأحداث على مدار اليوم.
هناك الكثير من الأحداث المتلاحقة: تتفق الجدة والأم على إعادة توحة إلى أهلها، لأنه لا يصح أن يراها الضيوف أو الزوج، يتم استدعاء أخت توحة الكبرى لتعود بها إلى بيتهم، حيث تقيم الأم، نادية (حنان مطاوع) التي تربي خمسة أبناء وبنات بمفردها، بعد موت زوجها عقب غرقه أثناء الصيد.
يُفترض أننا وصلنا إلى منتصف النهار بالفعل، ولكن الأم تصر على اصطحاب توحة وأخواتها للصيد، رافضة محاولات توحة للتهرب.
مشاهد العشوائيات والصيد اليدوي عن طريق الحاويات البلاستيكية واقعية وقوية سينمائياً، على عكس مشاهد الكومباوند الباردة، الخالية من الحيوية، وكأنما المكان بطبعه عبارة عن ديكور ضخم يفرض اصطناعه على المقيمين به، والممثلين الذين يؤدون فيه.
يجيد "عيد ميلاد سعيد" رسم التوازيات بين حياة الكومباوند وحياة العشوائيات، الرحلة التي تقطعها توحة عبر سيارة مخدومتها في بداية الفيلم إلى محلات "المول" الضخم النظيف البارد، ومحل الحلويات، يقابلها الرحلة التي تقطعها مع أختها عائدين إلى بيتهما، وهي رحلة شاقة، حارة، متربة، تتنقلان عبرها من وسيلة مواصلات إلى أخرى، لتهبطان في نهايتها إلى الجحيم.
قرار مفاجيء
أثناء قيامها بالصيد مع أسرتها، تكاد توحة أن تتعرض للغرق مثل أبيها، ما يثير فزع أمها التي تنهرها بعنف لمخالفتها قواعد السلامة، وعندما تعود الأسرة من العمل يبدأون على الفور في محاولة بيع السمك الذي قاموا باصطياده.
هنا نكون قد وصلنا إلى آخر النهار، حيث يحل الظلام، ولكن توحة تقرر أن تهرب لتعود إلى منزل مخدومتها لحضور عيد الميلاد، تكاد أن تتعرض للخطف على يد منحرف، ولكن ينقذها صديقها ابن الجيران الذي يكبرها بقليل، والذي يعمل سائق "توك توك"، وينطلق الإثنان في البحث عن الكومباوند الذي لا يعرفان عنوانه.
أخيراً، وبعد معاناة تنجح توحة في التسلل داخل الكومباوند، والوصول إلى عيد الميلاد الذي يكون قد بدأ بالفعل، حيث تحضر فقرة الساحر وإطفاء الشمع والغناء والرقص، وندخل هنا الفصل الأخير من الفيلم الذي تتعرض فيه توحة للنبذ مرة أخرى، بعد معرفة زوج ليلى بوجودها ولومه لزوجته على قيامها بتشغيل طفلة، ويتم استدعاء أم توحة التي تأتي لاصطحابها والعودة بها إلى المنزل مكسورة القلب.
بٌعد واحد
جميلة الحكاية، وإنسانية، وضحى رمضان حبوبة، وحتى حركتها الزائدة ونبرتها الأدائية المرتفعة يمكن تقبلها باعتبارها بعض سمات شخصيتها.
وهي حكاية ذات بعد واحد، تذهب لمكان واحد، محدد سلفاً منذ اللقطة الأولى، لا تتمهل لتتأمل الوجود الإنساني، أو التأثير العميق للفقر، أو طيات الطبقية في عموميتها وفي خصوصياتها المصرية.
على سبيل المثال يحمل الفيلم إشارات ذكية إلى أن ليلى نفسها تعاني إقتصادياً، فهي تنفق أخر ما لديها من مال على شراء مستلزمات الحفل، فقط لكي تبدو "غنية" في عيون الضيوف وزوجها.
وإذا كان من المفهوم محاولة ليلى للظهور بمستوى طبقي معين في نظر الضيوف، فإن الفيلم لا يبين لماذا تحاول الظهور "مستغنية" أمام زوجها، علماً بأنهما لم يطلقا بعد.
ولأن الفيلم لا يخبرنا بأية تفاصيل عن العلاقة بين الزوجين وسبب انفصالهما، ومتى حدث ذلك، تظل الشخصيات تجريدية، وبعيدة عن مرمى مشاعرنا.
وعي الخادمات
يبدو تأثير فيلم Roma واضحاً على "عيد ميلاد سعيد": الزوج الغائب الذي يأتي زائرا فحسب، الأم التي تحاول التماسك والاعتماد على نفسها حتى لا تظهر ضعيفة أمام الزوج، الجدة التي تتدخل بقدر ما تستطيع لتوجيه الابنة، المظاهر الطبقية الزائفة التي تضغط على الأسرة، والخادمة التي تعمل لديهم وتصبح فرداً أساسياً من سكان البيت.
في Roma تتردد الخادمة أيضاً بين منزل مخدوميها، وحياتها الأصلية البائسة، وبعد أن يموت جنينها تستقر في بيت مخدوميها لتنقذ الأطفال في نهاية الفيلم. تبدو "توحة" وكأنها خادمة Roma في بداية حياتها.
لكن خادمة Roma، مثل خادمات الواقع، في المكسيك أو الهند أو مصر، أكثر ذكاءً وفهماً للمجتمع الطبقي ووضعهن المتدني فيه، أكثر مما يفهم أطفال وكبارالأثرياء، الفقير جداً هو الوحيد الذي يعرف وضعه جيداً، ولذلك من الصعب تصديق أن توحة، مهما كان عمرها ودرجة سذاجتها، لا تفهم الفوارق الطبقية الحادة بين أسرتها وأسرة مخدومتها، أو تصور أن الفقر والعمل المبكر والتغيب عن التعليم لم يتركوا فيها ندوباً تجعلها تكبر قبل الأوان.
على عكس ابنة مخدوميها المدللة، التي لا تفكر سوى في عيد ميلادها ونفسها، ولا تدري شيئا عن العالم الذي يدور حولها، تبدو توحة أكبر من سنها: قوية بدنياً، ذكية، فصيحة، وقادرة على التلاعب والخداع لتحصل على ما تريد (إذ تتوسط لدى الأم وتفعل كل شيء ممكن لكي يقام عيد الميلاد، أملاً في حصولها على "الأمنية" التي تحلم بها).
رسم شخصية توحة من أفضل ما في الفيلم، ولكنه يتناقض مع سذاجتها وجهلها المطبق فيما يتعلق بوضعها الطبقي، وحسب الفيلم يبدو أن الجدة وأم توحة هما الوحيدتان اللتان تفهمان هذا الوضع وتتعاملان معه كشيء مألوف ومعتاد بالنسبة لهما، ربما تفهمه ليلى أيضاً ولكنها تحاول إنكاره، هي من النوع الذي يميل للإنكار، كما يتضح في تصرفاتها الأخرى، وهي تفاجأ حين تتبين أن توحة لا تعترف بوضعها، عندما تعرب الصغيرة عن أمنيتها في العيش معهم للأبد، تتهرب ليلى من المواجهة حتى لا تصدم توحة بالحقيقة، وربما يكون هذا السبب الأساسي فيما يحدث لتوحة لاحقاً من صدمة كبيرة متأخرة.
تحت السطح
وبعيداً عن أمنية توحة الساذجة والمستحيلة، فإن الفيلم لا يتوقف كثيرا أمامها: أن تترك الطفلة عائلتها الفقيرة وتتحول إلى خادمة دائمة للعائلة الثرية قد تكون مجرد أمنية أطفال، ولكنها تعكس أيضاً تأثير الفوارق الطبقية الحادة التي تجعل المرء يغترب عن واقعه، ويتحول إلى "عبد" بإرادته لمن يستغلونه.
إن توحة قوية، تعمل في صيد السمك وبيعه ولديها صديق يبدو أنهما متحابان، وعائلة مترابطة متحابة، وبيئة مفعمة بالحياة رغم فقرها، ولو خيرت واحدة مثل توحة، فقد تفضل البقاء حرة في البرية الشاقة، عن حبسها في قفص ذهبي كخادمة داخل كومباوند، وحتى إذا أغرتها الرفاهية، فربما تكون مجرد أمنية عابرة، لا تدفعها إلى تكبد كل هذه المشاق المستميتة لكي تحضر عيد ميلاد.
فوق ذلك لا يوجد في الفيلم أسباب مقنعة تجعل توحة تكره بيئتها إلى هذا الحد، فهي ليست ضحية سوء معاملة أو استغلال، وكون أمها تجبرها على العمل معها، فهي أيضاً تعمل بلا توقف في بيت الكومباوند، ولذلك يبدو تمحور حبكة الفيلم من لقطته الأولى وحتى الأخيرة حول "أمنية توحة" أمراً مبالغ فيه أو مصطنعاً، ناهيك عن كونه "بورجوازياً" جداً.
نظرة من الغرب
يعالج الفيلم أيضاً "عمالة الأطفال" الممنوعة قانونياً في البلاد الغنية، ولكنها منتشرة بكثرة في الهند ومصر وإفريقيا وبقية البلاد الفقيرة، ويتعامل معها الناس في هذه البلاد بتساهل أو في أفضل الأحوال بعدم الاعتراض الصامت.
في مشهد مبكر من الفيلم تهدد عاملة محل الأزياء (جهاد حسام الدين) المتأففة من ارتداء توحة للملابس، بالإبلاغ عن ليلى لإنها تقوم بتشغيل أطفال، إنها تفعل ذلك دفاعاً عن عنصريتها تجاه الطفلة وليس دفاعاً عنها، ومع ذلك يبدو الموقف غريباً لأن عاملة المحل، التي تنتمي للطبقة المتوسطة الفقيرة غالباً معتادة على رؤية الأطفال يعملون! ولذلك يبدو مصنوعاً بعقلية الغرب تجاه القضية وليس المصريين، هذه عينة من التعقيدات التي تتغلغل في نسيج الطبقية وأنواعها.
ولكن الفيلم، في سعيه لمخاطبة المشاعر "الرقيقة" للطبقتين الوسطى والعليا اللتين يتوجه لهما الفيلم، من نوعية ليلى، لا يتمهل لفحص تجليات هذه التعقيدات في الحياة اليومية، ولا يتساءل عن أسبابها والمتسببين فيها، فمن شأن ذلك أن يكون أكثر "ثورية" و"راديكالية" مما يحتمل الفيلم، ومن شأنه أن يزعج جمهوراً لا يمانع أن يشعر بالعطف ولكن غير مستعد للشعور بالصدمة أو الخجل.
طبقة لامعة
إنتاجياً يكرس الفيلم معظم قواه ليكون جزءاً من "التيار السائد"، أولاً باعتماده على النجوم للعب الشخصيات الرئيسية وضيوف الشرف للعب الأدوار الثانوية، هذا الأسلوب "الهوليوودي" يختلف عن النوع "الواقعي" الذي يحتاج إلى ممثلين "عاديين" وأداء طبيعي.
النجوم يعطون طبقة لامعة للفيلم، تتعارض مع خشونة مضمونه، يمتد هذا الأسلوب "الهوليوودي" إلى بقية العناصر: قول كل ما يراد قوله من خلال الحوار المباشر، وعدم وجود مساحات للمسكوت عنه، المخفي تحت السطح، وغياب لحظات الصمت، مقابل الاعتماد المفرط على الموسيقى التصويرية، وبالإجمال رش طبقة من العواطف المفرطة "السنتمنتالية" فوق كل شيء .
تبكي توحة بحرقة في نهاية الفيلم، ليس من الفقر في حد ذاته، ولكن بسبب إدراكها، أخيراً، أنها لا يمكن أن تكون مثل طفلة مخدوميها.
والمشاهد الذي يمكنه توقع مصيرها من اللحظة الأولى يتأثر لتأثرها، ويتعاطف معها، ولكن وضع توحة، مثل الموت والمرض يبدو قدراً من صنع الطبيعة، لا يمكن تغييره، ولا يبدو أن الفيلم يدعو لتغييره، وإن كان يدعونا إلى التعامل معه بإنسانية.
غالباً سيخرج المشاهد منفعلاً عقب انتهاء "عيد ميلاد سعيد"، شاعراً بالشفقة على توحة وأمثالها، وهذا أمر جيد، ولكنها تلك الشفقة التي تبقى كذلك، من دون أن تتحول إلى تفتح للوعي، أو إلى مزيد من الفهم، وهي شفقة، بالطبع، تظل تحتفظ بالمسافة الطبقية الكافية، الآمنة، بين توحة، وأطفال هذا المشاهد!
*ناقد فني