خاص
فن

It Was Just an Accident.. بدايته الغضب ونهايته الحب

time reading iconدقائق القراءة - 14
مشهد من الفيلم الإيراني It Was Just an Accident للمخرج جعفر باناهي - المكتب الإعلامي لمهرجان كان السينمائي
مشهد من الفيلم الإيراني It Was Just an Accident للمخرج جعفر باناهي - المكتب الإعلامي لمهرجان كان السينمائي
الجونة -عصام زكريا*

قبل أسابيع قليلة من قيام إسرائيل وأمريكا بضرب إيران، عرض فيلم It was Just An Accident أو "مجرد حادث"، في مهرجان كان، بحضور مخرجه جعفر باناهي، الذي سمح له بالسفر خارج إيران لأول مرة بعد 15 عاماً من المنع، حيث توج الفيلم بجائزة السعفة الذهبية.

منذ ذلك الحين والفيلم يطير من مهرجان إلى آخر، ليحط أخيراً في مهرجان الجونة الثامن (16- 24 أكتوبر الحالي)، حيث تم استقباله بحفاوة.

عقب عرض الفيلم سألتني صديقة تحب باناهي وأفلامه، مستنكرة نزعة الفيلم السياسية المباشرة، ونبرته الزاعقة: "هل يستحق فعلاً أن يحصل على السعفة الذهبية أم أنها مجرد جائزة سياسية؟"

ترددت في الإجابة، شاعراً للحظة أن الإجابتين صحيحتين: نعم، ولا.

بالتأكيد شكلت السياسة دافعاً قوياً للجان التحكيم التي تمنحه الجوائز، وهي بالتأكيد وراء الاحتفاء الذي يحظى به الفيلم وصاحبه في كل مكان، حتى أن فرنسا رشحته ليمثلها في الأوسكار (بما أن شركة فرنسية شاركت بجزء في إنتاجه)، وحتى أن أميركا "تنازلت" عن قرار ترمب بمنع منح تأشيرة الدخول للايرانيين، وسمحت لباناهي بدخول أراضيها معززاً مكرماً!

ولكن الفيلم، بعيداً عن السياسة، هو أيضاً عمل فني ممتاز، مشوق، ومؤثر، ومثير للتفكير، ويحمل بصمات صانعه البارعة.

صحيح أنه فيلم زاعق، حانق، يصب جام غضبه على القهر الذي يتعرض له المواطن في بلد شمولي مستبد، ولكن، بفضل لمسات باناهي، يتحول إلى شيء أكبر من ذلك.. أكثر عمقاً وطرافة وإنسانية!

بين الضحية والجلاد

إذا كنت قد قرأت مسرحية "الموت والعذراء" Death And The Maiden للكاتب آريل دورفمان، أو شاهدت الفيلم المقتبس عنها الذي أخرجه رومان بولانسكي في 1994، ولعب بطولته بن كينجسلي وسيجورني ويفر، فإن It was Just An Accident يدور مثلهما، حول حادث عابر يتسبب في الجمع بين ضحية اعتقال وتعذيب وشخص تعتقد أنه الجلاد الذي قام بتعذيبها وتدمير حياتها.

في It was Just An Accident يعتقد الميكانيكي البسيط وحيد (فاهيد) (وحيد موباصري)، الخارج من السجن حديثاً، أن عابر الطريق ذا الساق الصناعية الذي تعطلت سيارته هو "بعبع" السجن المسمى إقبال، أشرس المحققين وأكثرهم سادية وشراً، والذي تسبب في صدمات وعاهات نفسية وبدنية لمعظم من مروا تحت يديه.

يقوم وحيد بخطف الرجل ويوشك على دفنه حياً، لكن الرجل (الذي يؤدي دوره إبراهيم عزيزي) ويحمل هوية تشير إلى أن اسمه رشاد، ينكر تماما أنه إقبال.

وأمام الشك الذي ينتابه يقرر وحيد أن يلجأ لبعض زملاءه السابقين في المعتقل. من هؤلاء سالار (جورج هشام زاده) صاحب المكتبة، الذي يرفض الذهاب مع وحيد للتحقق من شخصية المخطوف، ولكنه يرسله إلى شيفا (مريم أفشاري) الصحفية سابقاً، والمصورة الفوتوغرافية حالياً، التي تتسم بالعقل وقوة الشخصية، وخطيبها السابق حميد (محمد علي الياسمهر) حاد الطباع، وصديقتهما جولي (هاديث باكباتن) العروس التي ترتدي زي الزفاف وزوجها المنتظرعلي (ماجد بناهي).

تختلف ردود فعل الشخصيات تجاه حقيقة الرجل خاصة أن أحداً منهم لم يرى وجهه، لإنهم كانوا دائماً معصوبين العيون، وفيما يهدأ وحيد باحثاً عن الحقيقة، تؤكد جولي أنه إقبال وتؤيد الانتقام منه، كذلك يفعل حميد الذي يحاول قتل الرجل على الفور، وينهال بالانتقادات للنظام بأسره، قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب عندما يعرفون بأن زوجة الرجل المخطوف انهارت في المنزل ولا تجد من يصحبها إلى مستشفى الولادة.

بين الهجاء والفانتازيا

بالرغم من محاولات التخفيف التي يقوم بها باناهي، من خلال صنع لحظات كوميدية سوريالية عديدة تنقل الفيلم إلى منطقة شبه فانتازية، إلا أن ما يسيطر على الأحداث هو الحوارات الطويلة المباشرة والغاضبة ضد إقبال وأمثاله وضد فساد النظام السياسي بأسره، بل وانتقاد انتشار الرشوة والمحسوبية في المجتمع والقوانين "الغبية" مثل عدم استطاعة المرأة دخول المستشفى، حتى في حالة الطوارئ، دون وجود زوجها!

يمكن فهم مشاعر الغضب والحنق والرغبة في الانتقام التي صنع بها هذا الفيلم، ولكنه، مثل الشخصية الرئيسية فيه، وحيد، ينفعل في البداية، ثم يبدأ في الاتزان والهدوء وتحكيم العقل.  

اقرأ أيضاً

سعفة مهرجان كان الذهبية للإيراني جعفر بناهي.. ونجاحات للسينما العربية

فاز فيلم It Was Just an Accident "مجرد حادث عابر" للمخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، السبت.

رغم كل ما يحمله من انفعالات وعواطف ساخنة، لكن ما يحمي It was Just An Accident من الوقوع في الخطابة السياسية المباشرة هو أنه فيلم "عقلاني" في نهاية المطاف: يمكن النظر إليه كأمثولة Parable رمزية عن القهر والانتقام وطبيعة النفوس البشرية.

لقد برع الأدب الفارسي منذ القدم في صياغة هذا النوع من القصص الرمزية، منذ أيام "كليلة ودمنة"، وحتى كثير جداً من الأفلام التي صنعها كبار مخرجي وكتاب السينما الإيرانية الحديثة، "الأمثولة" هي قالب سياسي بطبيعته، يستخدم الرمز ليقول ما لا يمكن قوله صراحةً. 

الرموز المقلوبة

في It was Just An Accident يكسر باناهي الحدود بين الرمز والمرموز إليه، إنه مباشر جداً، ولكن وراء هذه المباشرة رمز آخر، معكوس!

عادة يرسم كاتب الأمثولة شخصياته الخيالية (حيوانات، مكان معزول، بيئة وشخصيات محدودة) لتعبر عن واقع أكبر. هنا، مثلاً، جرت العادة أن تدور الأحداث داخل بيت وعائلة صغيرة، يقوم فيها الأب أو صاحب المكان بقهر سكان البيت ما يدعوهم للانقلاب عليه والانتقام منه، كرمز للنظام المستبد والمواطنين. ولكن باناهي، الذي فاض به الكيل، يقرر هنا أن يواجه ويتحدى النظام بشكل علني، سامحاً لأصوات المساجين السياسيين أنفسهم بالكلام، بل الصياح، والصراخ بكل قوة أحياناً، ضد المؤسسة الحاكمة وسجونها ورجالها المتوحشين.

ولكن هذا الانفعال سرعان ما يعقبه التعقل، لفحص الصورة بنظرة أشمل وأعمق وأكثر إنسانية، ومن ثم، يرمز الواقع هنا إلى ما يدور في فكر باناهي، على عكس الأمثولة التقليدية التي تجعل الأفكار ترمز إلى الواقع!

لذلك، على ما يبدو، يقرر باناهي أن يبدأ فيلمه بكسب تعاطف المشاهد مع "الشرير"!

يصور المشهد الأول من الفيلم سيارة صغيرة تسير على الطريق السريع في قلب الظلام، تحمل أسرة صغيرة بسيطة: أب مهموم وأم محبة، حبلى، وطفلة جميلة تلعب وتستمع للموسيقى الصاخبة وترقص بشقاوة، بينما الأب، الذي يبدو عليه التحفظ من "تحرر" ابنته المبكر، يكظم اعتراضه بدافع الحب لطفلته وزوجته.

 يشعر الأب بالانزعاج الشديد عندما تصطدم سيارته بكلب ضال على الطريق المظلم، وينزعج أكثر من اتهام طفلته له بأنه قتل الكلب (ما يحيلنا لاحقاً إلى تصور ما يمكن أن تفعله الطفلة، وما يمكن أن يصيب رشاد من انزعاج، حين تكبر الطفلة وتعرف ما الذي كان يفعله رشاد بالبشر لا الكلاب!).  

تحاول الأم طمأنة طفلتها، مؤكدة لها أن الحادث لا بد علامة من الله، يريد من خلالها أن يصنع خيراً بهم، سوف تتضح السخرية وانقلاب الرموز مرة أخرى عندما نعلم أن الحادث سيؤدي إلى شيء عكسي تماماً.

مركز التعاطف

في جزء لاحق من الفيلم سوف يذكرنا مشهد البداية بفيلم آخر عن السجون السياسية وهو "البرئ" لعاطف الطيب (1986)، الذي يظهر فيه قائد السجن توفيق (محمود عبد العزيز) لأول مرة، بصحبة طفلته وحضور عيد ميلاد إحدى صديقاتها، كاشفاً عن أب طيب، خفيف الدم، رقيق، على العكس تماماً من الوجه الذي يكشف عنه بين أسوار السجن.

لكن الفارق أن ظهور توفيق في الفيلم يأتي متأخراً جداً، بعد أن نكون قد تعرفنا على، وتعلقنا بأحمد سبع الليل (أحمد زكي) الريفي الساذج، وبلدياته حسين (ممدوح عبد العليم) الشاب المتعلم الطيب، اللذين سيتحولان إلى ضحايا لتوفيق وسجنه.. وبالتالي يظل تعاطفنا طوال الوقت مرتبطا بسبع الليل وحسين.

لكن بداية It was Just An Accident بتقديم الرجل الذي سيتهم لاحقاً بتعذيب وتدمير حياة مئات المعتقلين، تجعل المشاهد يتعاطف معه وأسرته، على الأقل في البداية، ولأننا نظل حتى قرب نهاية الفيلم غير متأكدين من هوية الرجل المخطوف، فإن الغضب الذي ينتاب الشخصيات تجاه إقبال/ رشاد يظل بعيداً وخارجياً بالنسبة لنا، ويؤكد باناهي على ذلك باعتماده على اللقطات البعيدة التي تصور الأحداث والشخصيات من مسافة آمنة.

هذه الحيلة الهيتشكوكية الصغيرة في بداية الفيلم، بنقل مركز التعاطف من شخصية إلى أخرى، تجعل المشاهد متشككاً طوال الوقت، وحتى عندما يتعاطف بعد ذلك مع الضحايا الأبرياء الذين يظهرون تباعاً، يظل دائما في موقع الحكم أو القاضي المحايد، الذي يرى الأمور من الجانبين.

أسباب مشروعة

هذا فيلم مصنوع بغضب، لا شك، وبإحساس مقهور صامت أتيح له أن يصرخ، أخيراً، وكلا من الغضب والصراخ يمكن فهم مصدرهما عند جعفر باناهي.

لقد تعرض الرجل للمنع والمصادرة والسجن والمنع من السفر لأكثر من 15 عاماً، وبالتحديد منذ  أن حاول أن يصنع فيلماً عن مخالفات انتخابات الرئاسة الإيرانية في 2009، فاعتقل واتهم بالترويج للدعاية المعادية للبلاد وحكم عليه بالسجن 6 سنوات قضى منها بضعة أشهر بالسجن، وحكم بمنعه من صناعة الأفلام لمدة 20 عاماً.

ولكن باناهي ظل يصنع الأفلام ويهربها إلى خارج البلاد سراً من 2011، بداية بفيلمه This Is Not a Film (ما يذكرنا بعبد الله النديم الصحفي المصري في عهد الملكية الذي صدر حكم بمنعه من إصدار الصحف، فأصدر مطبوعة اسمها "المسلة- لا هي جريدة ولا مجلة") ثم فيلم Taxi 2015، الذي قام فيه بالعمل كسائق تاكسي، يوثق حكايات الركاب، ثم No Bears عام 2018، وكلها أفلام عرضت في أكبر المهرجانات الدولية وحصلت على أرفع الجوائز، بالرغم من عدم وجود المخرج، الممنوع من السفر.

السجان صنع الفيلم

تعرض باناهي للسجن من جديد بعد تضامنه مع المخرج محمد رسلوف عقب فيلمه The Seed of the Sacred Fig، في 2020، وقضى 7 أشهر في سجن "إيفين" سيء السمعة، قبل أن يضرب عن الطعام، ما اضطر النظام إلى اطلاق سراحه خوفاً من الفضيحة الدولية، ولكن مع التشديد عليه بعدم صنع مزيد من الأفلام. ولكن باناهي، الذي علمه أبوه ، كما يقول في لقاء له أثناء مهرجان "نيويورك" الأخير، ألا ينحني سوى لله فقط، فاجأ النظام والجميع بصنع It Was Just an Accident، أكثر أفلامه هجاءً لاذعاً ومباشراً للنظام الايراني!

في حوار حديث مع مجلة Variety يقول باناهي: "لو لم أدخل السجن لما فهمت هذه الشخصيات وربما لم أكن لأصنع هذا الفيلم أبداً، لذلك فلست أنا الذي صنع هذا الفيلم ولكن الذين سجنوني".

جمع باناهي خلفيات شخصيات فيلمه من الحكايات التي سمعها على مدار 7 أشهر من زملاءه في السجن، وأحد دوافعه لصناعة الفيلم، كما يقول، هو منح صوت لهؤلاء الذين لا يسمع صوتهم، في لقاءه في نيويورك، وحديثه إلى Variety، يرفض باناهي أن يطلق عليه بطلاً أو شجاعاً: "رأيت في السجن إناساً يضربون عن الطعام لشهرين أو ثلاثة، ولا يسأل عنهم أحد. أنا شخص مشهور، وحين أضرب عن الطعام ليومين أو ثلاثة يتحدث عني العالم كله. لذلك أنا لست بطلاً، ولكن هؤلاء الذين لا يزالون في الداخل".

قد يكون ذلك مصدر الغضب في It Was Just an Accident، ولكن ارتفاع نبرة النقد وانتقاله من الحكايات الرمزية البسيطة إلى حوار هتاف المظاهرات الذي يتخلل مساحة كبيرة من الفيلم، فإن دافعه أيضاً، كما تشير تصريحات باناهي الأخيرة، هو حالة الحراك السياسي الكبيرة في الشارع الإيراني، ومظاهرات "النساء، الحياة، الحرية" التي اندلعت خلال العامين الماضيين، وكللت جهودها منذ أيام بإلغاء فرض ملابس بعينها على النساء وايقاف عمل فرق "الأمر بالمعروف" التي كانت تتحرش بالناس وتعتدي عليهم في الشوارع، هذه الحركة، ضمن حركات أخرى، ومد شعبي معارض متزايد، لم تكن ممكنة منذ عشر سنوات مضت، ولذلك فإن المناخ العام السائد هذه الأيام في إيران، كما في معظم بلاد العالم، يتسم بالمباشرة والصوت العالي في مواجهة شتى صنوف الظلم.

في انتظار الخلاص

يشير أحد شخصيات الفيلم إلى المكان الذي يتجمعون فيه بأنه شبيه بالمكان الصحراوي المهجور الذي تدور فيه مسرحية "في انتظار جودو" لصامويل بيكيت، هذه الكوميديا العبثية التي تدور حول اليأس من انتظار الخلاص أو الإصلاح، ويحيلنا باناهي هنا إلى قالب الأمثولة الإيراني من جديد، حيث يكتسب الفيلم معنى إضافياً، يشير إلى إيران كلها، التي تقف على مفترق الطرق منذ سنوات بعيدة، يدميها الصراع بين الجلادين والضحايا، غير قادرة على طي الصفحة، ومن هنا يمكن فهم مشهد النهاية الغامض، كما يمكن فهم تلك الرغبة في السلام، وتجاوز الماضي، التي تسكن قلب الفيلم.

إن الأكثر إدهاشاً من صنع جعفر باناهي لهذا الفيلم، هو إصراره على العودة إلى إيران عقب عرض الفيلم في "كان" وفوزه بالسعفة الذهبية، بدلاً من أن يفر بجلده كما فعل الكثير من المعارضين الإيرانيين، وقد استقبل في المطار بحفاوة شديدة من قبل معجبيه.

"أنا أحب بلدي، ولا يمكن أن أغادرها"، كما يقول دائماً.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك