خاص
فن

Sirat.. نهاية العالم الآن

time reading iconدقائق القراءة - 12
مشهد من الفيلم الإسباني Sirat للمخرج أوليفر لكس - المكتب الإعلامي لمهرجان كان السينمائي
مشهد من الفيلم الإسباني Sirat للمخرج أوليفر لكس - المكتب الإعلامي لمهرجان كان السينمائي
الجونة -رامي عبد الرازق*

(إنه معتاد على حكايات الجبال، ويعرف كيف يسلكها مشيا على أقدام الكاميرا)

هكذا يمكن أن نوفر على أنفسنا بطاقة تعريفية طويلة عن المخرج الإسباني الفرنسي أوليفر لكس، المولود في باريس في بداية الثمانينيات، والذي انتقل للعيش بين فرنسا وإسبانيا والمغرب وإنجلترا، متحدثاً أربعة لغات ومحملاً بعجينة ثقافية أوروبية سرعان ما نضجت تحت شمس الصحراء العربية.

قبل أقل من شهور حاز أوليفر جائزة لجنة التحكيم لمهرجان كان السينمائي عن فيلمه المُزلزل Sirat. 

وخلال فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثامنة، شهد الفيلم عرضه الأول في الشرق الأوسط ضمن برنامج الاختيارات الرسمية خارج المسابقة، وهو البرنامج المعني بعرض أبرز تجارب السينما الدولية الحائزة على أرفع الجوائز والتكريمات.

قبل Sirat أنجز أوليفر ثلاثة أفلام طويلة بداية من عام 2010 بدأها بتجربة You All Are Captains، ثم فيلمه الأشهر Mimosas عام 2016، الفيلم الأول عن مخرج شاب – أوليفر نفسه- يحاول تصوير وثائقي في طنجة المغربية متتبعاً مجموعة من أطفال المدينة وحلمهم بالهجرة إلى إسبانيا المقابلة لهم على البحر، والثاني يدور بالكامل في الصحراء المغربية حول رجل على وشك الموت ينضم إلى قافلة تقطع الخلاء إلى الجنوب حيث يعيد التعرف على ذاته عبر أسئلة الشمس والصحراء.

ثم فيلمه الإسباني Fire Will Come 2019، حول مزارع يعود إلى بلدته بعد ان يقضي عقوبة السجن لكي يعيش مع أمه، لكنه يفشل في التطبيع مع حياة الريف التي لم يعد يراها تصلح كشكل لحياته، والذي يمكن ان نمد عنوان على استقامته من منظور الثقافة الإسلامية وصولا إلى Sirat، النار سوف تأتي لكي تدفعنا جميعا للمشي على الصراط.

تفجير الحس الثوري

في Sirat يصل أوليفر لكس إلى تفجير الحس الثوري العنيف الذي يراوده منذ أول أفلامه - صور فيلمه الأول بالأبيض والأسود ليمحوا اللون عن المدينة الجميلة، ويوازي بين البنايات والسماء والبحر- متخذاً فتيان المدينة تكأة للتساؤل عن المستقبل وماهيته وشكله أو أشكاله التي يمكن ان ينتجها هؤلاء حين يكبرون!

وفي صراط يبدأ الفيلم بأب يبحث مع ابنه الصغير عن ابنته المراهقة في صحراء المغرب، ضمن قافلة من الهيبز والمدمنين الذين يجتمعون هناك للرقص وتعاطي المخدرات تاركين العالم في شأنه، لكنه للأسف لا يتركهم في شأنهم!

البحث عن الأبناء هو بحث عن المستقبل، فالأطفال أبناء الغد، وكلما طالهم الغياب أو الموت أصبح اليوم التالي مشكوك فيه أو منتهي الحدوث قبل بدايته!

في Sirat لا توجد حكاية بازغة، مؤطرة بالأشكال الدرامية التقليدية، هناك سردية أقرب للنبؤة منها للقصة ذات الأبعاد والعبر والتفاصيل المبنية على تطور تقليدي أو متوقع أو حتى مفهوم.

يبدأ الفيلم بحفل راقص على إيقاعات ثقيلة ومتنوعة ونابضة تسري في أجساد الراقصين من مختلف الأعمار والأشكال والأعراق، لا يوازي تنوع أشكالهم سوى تنوع طبيعة أجسادهم المعروقة والجافة والموشومة بأشكال وأيقونات، بل وعاهات تجعلهم أقرب لمزيج من مجموعة بشرية متبقية تريد إيقاظ العالم بعد ان انتهى وصمت كل شيء.

افتتاحية الفيلم الطويلة هي تأكيد على ديستوبيا الرحلة، التي سوف يخوضها الأب وابنه مع المجموعة الهيبية غريبة الأطوار والأجساد واللغة والتفاصيل، قد يبدو الفيلم في ظاهرة فيلم طريق؛ لأنه يبدأ بالهروب، ولا ينتهي تقريباً! وإنما تظلم الشاشة على شريط قطار يبدو كتشبيه معلن للصراط – ضمن تشبيهات عديدة يضمها الفيلم للكلمة المأخوذة من الثقافة الإسلامية، والتي يشرحها المخرج في لوحات مكتوبة بالبداية ليقرب شكلها ومعانها لمخيلة المتلقي الأوربي الذي غالباً لا يعرف عن لفظها أو دلالتها أي شيء-.

الأب المكلوم

العديد من الأفلام المعروضة ببرنامج الجونة هذا العام، بل والعديد من إنتاجات السينما الدولية تذهب باتجاه تيمة محاكمة الأب في مختلف تجلياتها، يكفي ان نشير إلى أن مخرجين كبار مثل الإيطالي باولو سورنتينو في فيلمه La Grazia، ويواكيم تيرير في فيلمه Sentimental Value، وحتى جيلمو دلتورور في Frankenstein، اجتمعوا كلهم على التيمة الأبرز على المستوى النفسي والفكري والسياسي في تجاربهم هذه السنة.

إلا أن ليكس قرر ان يسير في الاتجاه الآخر حتى مع اعتماده على شخصية الأب كشخصية رئيسية، أو مُفَتِتح للرحلة التي تستمر عبر الصحراء المغربية، بينما العالم ينهار في (قيامة) صريحة.

الأب في صراط هو أب مكلوم، تبدأ رحلته بالبحث عن الابنة التي لا ندري هل هي هاربة ام منفلتة ام مدمنة ام ماذا، لا يشغل السيناريو نفسه بعرض أسباب الهرب/الانفلات؛ لأن ما يعنيه هو البحث في الحالتين أو أياً كان السبب! ويؤدي البحث إلى انضمام الأب وابنه إلى القافلة الصغيرة التي تهرب من عملية الإيقاف القسري؛ بسبب الظروف السياسية والحرب العالمية التي اندلعت فجأة دون ان يدري أحد أسبابها، وإن كنا جميعا على حافة أسباب أتفه في الواقع لقيام مثل هذه الحرب.

بمجرد أن يعلن السيناريو عن وجود حرب عالمية يبدو أن أحداً لا يستغرب! الكل يبدو وكأنه كان متوقعاً هذا حتى أن أحد الشخصيات تقول: هل سوف نعيش نهاية العالم! في الحقيقة نحن نعيشها منذ بعض الوقت!

أي أن ما يحدث على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي في مختلف أنحاء العالم يعني أننا بالفعل نعيش النهاية لا نتهيأ لها من وجهة نظر المخرج.

باستثناء الأب المكلوم لا نعرف أبعاد كثيرة عن بقية الشخصيات التي يرافقها في رحلته الأخيرة، فمجموعة الهيبز من المدمنين، للعقاقير والحبوب والكوك والموسيقى الصاخبة، تبدو كشرذمة من بقايا البشر الذين أفلتوا من القيامة، تاركين العالم ورائهم ومتجهين إلى هدف يبدو عبثي جداً وسط كل هذا الجنون؛ حفلة موسيقية صاخبة بالقرب من الحدود الموريتانية وكأن ما يحدث من حرب عالمية ونهاية تفني كل شيء لا يعنيهم!

تبدأ الرحلة والأب ملتاع على ابنته الغائبة، يذكر نفسه كلما تعرض إلى مأزق أو معضلة بالأمل في العثور عليها عبر النظر إلى صورها التي تعكس فتاة رقيقة لا تشبه الشرذمة التي من المفترض أنها تقوده إليها! 

الأمل في العثور هو الابنة هو أمل في المستقبل! ولكن هل ثمة مستقبل بالفعل! 

الإجابة التي يقدمها الفيلم هي (لا!) و(لا) سوداوية متشائمة، الغرض منها تخويف المتفرج ونزع غطاء الأمل الأمن والساذج عن عينيه المفتوحتين من دون رؤية.

تجلي الصراط

بمجرد أن تنفصل السيارات الثلاث عن القافلة الكبيرة التي احتجز فيها الجيش المشاركين في الحفلة التي افتتح بها الفيلم، يبدأ الصراط في التجلي بصرياً ودرامياً على حد سواء، فطوال الوقت يصور لنا المخرج الطريق الذي تسلكه القافلة الصغيرة المكونة من أتوبيسين كبيرين وسيارة الأب (العائلية) التي تحاول اللحاق بهم بصعوبة، يصور لنا الطريق وكأنه صراط متعرج في الأرض الصخرية أو وسط الرمال الغامضة، أو على حافة الجبال المرعبة، صراط يحفه الموت أو السقوط في أي لحظة، بالكاد يحتوي إطارات السيارات، بينما الشمس تلعب دور الجحيم الذي ينتظر كل من يسقط.

ولأن المستقبل ليس بخير، يصبح الابن الصغير هو أول من يسقط من فوق الصراط الجبلي الضيق! 

ليست هذه مصادفة ولا محاولة ميلودرامية ساذجة لبث التعاطف مع الأب! إنها إرهاص ببداية النهاية، فالابنة مفقودة والابن قد سقط عن الصراط، بينما كان يحاول العبور مع أبيه! فماذا تبقى من الغد إذن؟

جحيم الألغام

لا ينتهي الفصل الأخير بموت الابن بل يبدأ، ثم تليه ميتات متتالية لبقية الشخصيات في حقل الألغام الذي يدخلونه دون أن يدركوا ذلك! يموت الابن ساقطاً بالسيارة العائلية، رمز الأسرة المنتهية، بينما يلعب مع كلبه بداخلها فوق الصراط الجبلي، فتكتمل لوعة الأب، ويتجلى مكلوماً مصدوماً لا يدري لماذا يمكن أن يستمر بعد ذلك!

وحين تتوقف المجموعة ليرقصوا احتفاءً ببقائهم على قيد الحياة حتى الآن، وتصرخ إحداهن: "لنفجر كل شيء"، أي دعونا نتمرد على العالم المنهار من خلفنا، تنفجر هي نفسها في أول لغم، ممزقة من دون أثر!

على ما يبدو فالعالم لم يعد مكاناً للثورة والتمرد، ولا حتى الرقص، وأي صيحة تناهض الحرب القادمة أو الدائرة بالفعل سوف تقابل بنسف من أطلقها! 

ومن هنا تعود فكرة الصراط للتجلي من جديد، في هيئة الخطوات التي يجب أن تقطعها المجموعة المحاصرة للخروج من حقل الألغام، والتي لا يفلح فيها سوى ثلاثة فقط؛ الأب ورجل وامرأة، وكأنهم ما تبقى من آدم وحواء بعد ان أنهكم البقاء على الأرض.

يسير الأب في خط مستقيم، يريد أن يدوس على لغم فوق الصراط لينهي عذابه، لكنه ينجو بالوصول إلى صخرة عالية، وحين يسألوه كيف فعلها يقول لهم: لقد سرت بدون تفكير! 

أليس هذا حال الجميع الآن؟، الكل يسير في حقل ألغام سياسية واقتصادية واجتماعية، والتوقف لحظة للتفكير يمكن أن يؤدي إلى انفجار اللغم أياً كان، وبعد أن صار التفكير هو (ميزة الحضارة) ومنبعها، صار الآن محط العذاب وطريق النهاية.

بينما يسير الرجل والمرأة من خلفه مغمضي الأعين، فلا يرون سوى صوت خطواتهم التي تتحسس الرمال في انتظار أن يمكر بهم الصراط/الألغام في أي لحظة، وهي نفس فلسفة الصراط في الثقافة الإسلامية؛ أرفع من الشعرة واحد من السيف، وهو ما يتحقق بالسير فوق الألغام في الفيلم، بكل ما تحمله الألغام من دلالات مكتسبة من رحلة القافلة الأخيرة.

إلى أين؟

ينتهي الفيلم، كما أشرنا، بقضبان السكة الحديدية تمتد في الصحراء إلى ما لا نهاية، نراها من عينا ركاب القطار من جنسيات كثيرة، منهم حتى أهالي الجنوب التي كانت القافلة ذاهبة للرقص هناك، وكأنها سوف تتمكن من الهرب من الحرب العالمية التي تأتيهم أخبارها خلال الرحلة عبر مذياع الباص، لكن من الواضح ان حتى هؤلاء وصلت إليهم القيامة.

تبدو القضبان المنهوبة من سرعة القطار كأنها صراط آخر وأخير، لكن لا أحد يدري إلى أن يمتد أو يسير، الكل أصبح لاجئ والكل أصبح مشرد، والكل أصبح في انتظار مجهول أقسى من الموت نفسه، فالبقاء على قيد الحياة في عالم منتهي هو الجحيم بعينه، والصراط الذي يسير عليه القطار حاملا الأب المكلوم لا يعني ان النعيم في انتظاره في الجهة الأخرى، لأن اللقطة الأخيرة في الفيلم تمنحنا شعوراً أن اللانهائية هي ما يمتد على مرمى البصر، وكأن الجحيم هو تلك اللحظة التي يعشها الأب والراكبون معه –وربما نحن أيضاً- سائرون على صراط أبدي فلا هم يسقطون في النار ولا يصلون إلى الجنة!

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك