
في مسيرة تمتد لما يقرب من أربعة عقود، رسخت المخرجة والمنتجة الهندية ميرا ناير (والدة عمدة نيويورك زهران ممداني) مكانتها كأحد أبرز الأصوات النسائية السينمائية في العالم، وواحدة من أبرز المبدعات قدرة على تقديم سرد إنساني عابر للثقافات، يربط بين جذور الهند وتعقيدات الحياة في المجتمع الغربي.
وبين نجاح عالمي وجوائز مرموقة، ورفض لعرض ضخم بإخراج أحد أجزاء سلسلة Harry Potter لصالح مشروع شخصي أصغر، صاغت ناير معادلتها الخاصة: سينما من الناس ولهم، لا تنجرف وراء الإغراءات التجارية على حساب الهوية والموقف.
ولدت ميرا ناير عام 1957 في ولاية أوديشا الهندية، قبل أن تنتقل للدراسة في جامعة دلهي، ومنها إلى جامعة هارفارد التي شكلت نقطة تحول في مسارها الفني.
بدأت ناير مسيرتها في الفيلم الوثائقي، مستكشفة حياة المهمشين والنساء والعاملين في الظل، قبل أن تنتقل للسينما الروائية مع فيلمها الشهير Salaam Bombay عام 1988، الذي قدم صورة قاسية وصادقة عن أطفال الشوارع في بومباي، ونال ترشيحاً لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، بجانب الكاميرا الذهبية في دورة العام نفسه بمهرجان كان السينمائي.
منذ تلك اللحظة، بات واضحاً أن ناير تصنع أفلاماً من داخل المجتمع، وأنها اختارت الكاميرا بوصفها أداة احتجاج إنساني، ورحلة بحث مستمرة عن صوت منسي وصورة غير مسبوقة.
رؤية ما بعد الاستعمار
تُصنّف ناير اليوم كأحد أهم رموز السينما ما بعد الاستعمار، فقد تجاوزت أعمالها الحدود الجغرافية واللغوية، لتقدم حكايات عن الهوية، والانتماء، والبحث عن الذات في عالم متعدد، تتصادم فيه الثقافات.
في فيلمها Mississippi Masala عام 1991، تناولت قصة عائلة هندية من شرق أفريقيا تعيش في الجنوب الأميركي، مسلطة الضوء على قضايا العرق والتمييز والهويات المتراكبة.
أما في The Namesake عام 2006، قدمت واحداً من أهم الأفلام التي عالجت تجربة الاغتراب للأجيال المهاجرة، وصراع الأبناء بين تراث عائلي يلاحقهم، وواقع جديد يسحبهم إلى وجهة مغايرة.
ورغم تنوع موضوعاتها، حافظت ناير على حضور قوي لقضايا النساء في أعمالها، ففي عام 2001 قدمت فيلم Monsoon Wedding، الذي حصد جائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا، مزجت بين دفء العائلة الهندية وطبقاتها الاجتماعية وهمومها، متطرقة لقضايا حساسة مثل التحرش والصمت الأسري والتقاليد الصارمة، ضمن إطار إنساني يوازن بين الكوميديا المؤثرة والنقد الاجتماعي.
لم تكتف ناير بالإنجاز الفني، وساهمت في تأسيس "معمل ميشا للأفلام" في أوغندا، وهي منصة تدريب سينمائي لدعم صناع الأفلام الشباب في شرق أفريقيا، هذا الالتزام بتمكين أصوات جديدة ينسجم مع فلسفتها في السينما: "إذا لم نرو قصصنا، فسيرويها غيرنا".
المختبر خرج مئات المواهب، وفتح أبواباً أمام سينما أفريقية جديدة، ما وضع ناير في خانة الرموز الثقافية العالمية التي يمزج تأثيرها بين الفن والتنمية والإبداع الجماعي.
رفض "هاري بوتر"
من أكثر محطات مسيرة ناير تداولاً في الإعلام قرارها برفض إخراج أحد أجزاء سلسلة Harry Potter، رغم عرض رسمي من شركة Warner Bros.
السبب، كما أوضحته لاحقاً، كان اختياراً واعياً للصدق الفني، كانت تعيش آنذاك مرحلة حزن بعد فقدان والدتها، وعلى مشارف البدء في مشروع The Namesake المشتق من رواية تُلامس موضوع الهوية والفقد والانتماء، وهي قضايا شخصية بالنسبة لها.
وبحسب ما روت في أكثر من لقاء صحفي، أن ابنها زهران، الذي كان يبلغ 14 عاماً حينها، لعب دوراً لافتاً في القرار عندما قال لها: "مخرجون كثيرون يمكنهم تقديم هاري بوتر، لكن فقط أنت تستطيعين تقديم The Namesake"، كان هذا الحافز كافياً لترسخ ناير قناعتها بأن الفن مساحة لاختيار الذات قبل كل شيء، وليس مجرد سباقاً نحو الأضواء.
شهرة عالمية
نجحت أفلام ناير في الجمع بين نقد اجتماعي عميق وإقبال جماهيري واسع، وهو توازن نادر في السينما العالمية، أعمالها تعرض في أهم المهرجانات، وتدرس في الجامعات، وتستخدم كنماذج في دراسات السينما عن ما بعد الاستعمار والهويات المزدوجة.
ورغم النجاحات، لم تكن مسيرة ناير خالية من التحديات، فبين ضغط السوق السينمائي العالمي، وسيطرة المحتوى التجاري، وصعوبة تمويل المشاريع الإنسانية العميقة، حافظت على خطّ فني ثابت يعتمد على الأصالة والسرد الصادق وخصوصية التجربة الإنسانية.
اليوم، ومع التحولات الرقمية وصعود المنصات، تبدو رؤية ناير أكثر حضوراً: سينما تربط الثقافات ولا تذيبها، وتخلق مساحة للتعبير بقدر ما تواجه التهميش.
ومع كل فيلم جديد، تُثبت ناير أن السينما طريقاً لفهم الواقع لا للهروب منه، لكنها، وأن اختيار فيلم صغير صادق، قد يكون أهم من إخراج سلسلة ضخمة مليئة بالسحر والمؤثرات.








