خاص
فن

مؤتمر النقد الثالث في الرياض: مزيد من الخطوات نحو ثقافة سينمائية

time reading iconدقائق القراءة - 9
جانب من فعاليات مؤتمر النقد السينمائي الثالث في الرياض، نوفمبر 2025 - x/FilmMOC
جانب من فعاليات مؤتمر النقد السينمائي الثالث في الرياض، نوفمبر 2025 - x/FilmMOC
الرياض -عصام زكريا*

ما تفعله هيئة الأفلام السعودية من أجل ازدهار السينما السعودية، ونشر الثقافة السينمائية، كثير، ولكن ما تفعله من أجل النقد السينمائي تحديداً هو أمر غير مسبوق وليس له مثيل، على حد علمي، خاصة الآن، مع التراجع الهائل للنقد والصحافة السينمائية على مستوى العالم.

وقد دأبت بحكم مهنتي كناقد وتواجدي في الكثير من المهرجانات العربية والعالمية، على سماع الشكاوى التي يرددها نقاد السينما من تراجع مساحات ودور النقد وتراجع أوضاعهم معنوياً ومادياً.

نهاية.. وبداية

الطريف والمثير للتفكير أنه في الوقت الذي تشهد فيه كثير من المجتمعات تراجعاً ملحوظاً للفن السينمائي على مستوى الإنتاج والإقبال على دور العرض، ونسمع فيه عبارات من نوعية "موت السينما" و"موت النقد"، حتى أن أحد كبار النقاد العرب أعلن مؤخراً أن المهنة ستموت خلال 5 سنوات، أقول من المثير أنه في الوقت الذي وصلت فيه السينما والثقافة السينمائية إلى "نهاية طريق"، فإن السينما في السعودية قد بدأت بالكاد طريقها منذ أقل من 10 سنوات، ومن ثم تعيد اكتشاف وتعريف الأشياء بحماس لا يكاد يكون له مثيل في مكان آخر.

يمكن الشعور بذلك من خلال متابعة فعاليات مؤتمر النقد السينمائي الدولي الذي عقد في الرياض على مدار 3 أيام من 7 إلى 9 نوفمبر الحالي، والذي شهد مشاركة عدد كبير من النقاد الأجانب والعرب، تحت عنوان عام هو "المكان والذاكرة والهوية"، وعدد كبير من النقاشات واللقاءات والمحاضرات وورش العمل تدور، بدرجات مختلفة، حول هذا العنوان الرئيس.

بختام هذا المؤتمر تكون هيئة الأفلام قد أنهت سلسلة مؤتمرات النقد التي عقدت على مدار العام في عدة مدن سعودية، وتكون قد أكملت 3 سنوات من نشاطات "مؤتمرات النقد" التي عقدت على مدار السنوات الثلاث الماضية (بنفس التنظيم" سلسلة مؤتمرات صغيرة في مدن سعودية على مدار العام تختتم بالمؤتمر الأكبر في الرياض في نوفمبر).

فعاليات بالجملة!

لا أعتقد أن هناك هيئة أو مؤسسة أفلام تعطي للنقد السينمائي هذه المساحة من الاهتمام والتقدير، وأعتقد أن ذلك يعود، جزئياً، لإدراك القائمين على الهيئة، برئاسة المخرج والكاتب عبد الله آل عياف، لأهمية الفكر والثقافة فيما يتعلق بالسينما (وليس فحسب جانبها الترفيهي)، وجزئياً لإيمانهم بأن دور الهيئة ليس فقط إنتاج الأفلام ونشر الفن السينمائي، ولكن نشر التذوق السينمائي ورفع  القدرة على التفكير والحكم وتفعيل المنطق بشكل عام، وهي الأشياء التي تميز، أو يفترض أنها تميز، الناقد والمشاهد المثقف عن الجمهور العادي. 

تضمنت الحلقة الأخيرة من الجولة الثالثة من سلسلة مؤتمرات النقد عدداً كبيراً من الفعاليات معظمها مع نقاد وباحثين ومنظمين مهرجانات ومديرين متاحف وأرشيفات سينمائية، وقليل منها مع مخرجين مثل الجلسة الافتتاحية التي استضافت المخرج الإيطالي مارك بيلوكيو.

ومن أهم الفعاليات كانت محاضرة "الأرشيف: حيث تنتهي الأفلام، وتولد من جديد" التي أجرتها الدكتورة يانكا باركوتشي أستاذة السينما ومسؤولة الأرشيف المجري. 

وقد كشفت خلالها عن بعض تفاصيل عمل الباحثين والمرممين في الأرشيفات، بجانب الأهمية والوظائف المختلفة للحفاظ على الأفلام (حتى لو كانت مجرد لقطات من بقايا أفلام مجهولة).

الحقيقة أن الفعاليات كانت كثيرة جداً، معظمها لا يزيد عن ساعة، يضاف إلى ذلك تشعب الموضوعات المطروحة حول المكان (أو الفضاء) السينمائي كنظرية، أو تصوير أماكن بعينها مثل المدينة أو الصحراء، أو حتى السينمائيين الذين ينتقلون في المكان لصنع أفلامهم خارج الوطن، أو كما يقول عنوان الندوة: "السينما خارج الحدود" التي شارك فيها متحدثون من عدة دول عربية حول الأفلام التي يصنعها عرب يقيمون في الخارج (أوروبا تحديداً).

أشرت من قبل إلى محاضرة الأرشيف، التي قد تبدو بعيدة عن "ثيمة" المكان بعض الشيء، ومثلها 3 محاضرات مع نقاد يتحدثون عن تجربتهم النقدية، وهم مارك بيرانسون، كارلو شاتريان وريتشارد بينا. الأول أسس مجلة فنية توقفت ويعمل في الأرشيف، والثاني منظم مهرجانات ناجح، والثالث لديه تجربة غنية كناقد. ومحاضرات الثلاثة كانت من أفضل فعاليات المؤتمر، بالرغم من بعدها عن "الثيمة" الأساسية.

بعيد وقريب من المكان

 أحد المحاور الأخرى التي تطرقت إليها المناقشات هو دور المهرجانات في تنشيط الثقافة السينمائية، مثل الندوة التي حملت العنوان الغامض "فن المكان في السينما: المهرجانات والذاكرة وإعادة التشكيل في العصر الرقمي" التي شارك فيها د. باولو برتغال، د. باوبك نوجربك، وولاء سندي!

من ناحية أخرى تبدو جلسة "الصحراء في السينما العربية" في صميم "ثيمة" المؤتمر، بالإضافة إلى موضوعها المحلي المهم، وهي إحدى الفعاليات العربية الخالصة في المؤتمر، حيث شارك فيها كل من عبد الله الحبيب، فيصل شيباني، محمد الصفار، رامي عبد الرازق.

وبجوارها يمكن أن نضع جلسة "ذاكرة المدن: القاهرة، بيروت، دمشق، الرياض، الإسكندرية" ويمكن أن نضيف إلى هذه المدن تونس ونيويورك وبرلين وغيرها من المدن التي تطرق إليها المتحدثون: د. سمية دهميد، ربى اليماني، عمار عزت، د.جورجي بارون، بشكل سريع للغاية يعطي مجرد فكرة.

بالمقابل دارت بعض المناقشات حول مدن بعينها بشكل أكثر تركيزاً، منها "خريطة الذاكرة: أطلس سينمائي لتلبيسي الستينيات" التي ألقتها الجورجية نيني شيفلذز، والتي رصدت فيها تصوير المدينة في ظل نظام سياسي واجتماعي شيوعي ثم التغيرات التي لحقت بهذه الصورة على مدار العقود. كذلك محاضرة "ظاهرة السينما في ميلانو" التي ألقتها كيارا سبانيولي جاباردي، وناقشت فيها التمثلات المختلفة للمدينة الإيطالية الشهيرة في أفلام تتراوح من Rocco And his Brothers لفيسكونتي، 1960، وحتى House Of Gucci لريدلي سكوت، 2021. كذلك محاضرة "دكا في السينما" التي ألقتها ساديا خالد حول التمثلات السينمائية للمدينة الهندية الكبيرة.

محاضرات أخرى ركزت على أعمال فنانين بعينهم مثل ندوة

"القوة السردية للأماكن في سينما بيرناردو بيتولوتشي" التي ألقتها إيفا بيدرو سانز، و"الغرائبية في سينما ميجيل جوميز" التي ناقشها مانويل هالبرن.

من أفضل محاضرات المؤتمر وأكثرها ارتباطا بـ"ثيمته" الأساسية محاضرة "المكان كذاكرة بصرية: كيف تتحول الجغرافيا إلى شخصية في الفيلم" التي ألقاها الكاتب والأستاذ علي المجنوني، خاصة مع تركيزه على "الفضاء المنزلي"، أي تصوير البيت العائلي في السينما، ومن خلال فيلم عربي سعودي هو "أربعون عاما وليلة" للمخرج محمد الهليل، 2021.

من أجل الشباب

بالتوازي مع الندوات أقيمت عدة ورش عمل معظمها مستمد من "ثيمة" المكان، مثل "سرد المكان واستحضار الذاكرة: الفضاء السينمائي في السينما الإيطالية" التي أدارها  نيكولا ديفيد، و"إعادة تصور مدينة مكسيكو سيتي، التحولات الحضرية من العصر الذهبي إلى السينما العالمية" التي أدارتها أدرينا فيرناندز، و"كيف يشكل ماضي جوهانسبرج حاضرها السينمائي التي أدراتها ميلسا باري، وقليل منها بعيد عن "المكان"، مثل "مبادئ النقد السينمائي" التي أدارها فهد الأسطاء، و"تحليل اللغة المرئية في الأفلام" التي أدارتها سارة بالغنيم، ورغم ذلك فهما من أهم فعاليات المؤتمر بالنسبة لجمهور الحضور من الشباب، الفئة الأكثر احتياجاً واستحقاقاً لهذه المؤتمرات.

أخيراً وعلى هامش كل هذا الكلام شهد المؤتمر عرض أحد أروع الكلاسيكيات السينمائية فيما يتعلق بالمكان وهو فيلم News From Home، الذي أخرجته البلجيكية شانتال أكرمان في 1977. وأكرمان هي صاحبة فيلم "جين ديلمان" الذي اختير كأفضل فيلم في تاريخ السينما في الاستطلاع الذي أجرته مجلة Sight and Sound العام الماضي.

News From Home عبارة عن مشاهد وثائقية لمدينتي بروكسل ونيويورك على أصوات رسائل أم المخرجة إليها عندما تركت بلجيكا للدراسة والعمل في الولايات المتحدة، وتتجلى موهبة أكرمان في جعل المكان ليس فقط حيوياً وملفتاً، ولكنه يكاد يجسد مضمون الرسائل الممتلئة بالشوق والحزن، بشكل يبرهن على القدرة التعبيرية لعنصر المكان في السينما.

.. وصدق من قال إن الصورة يمكن أن تُغني عن ألف كلمة!

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك