
يحمل مسلسل "الضارية"، أحدث الإنتاجات السعودية على mbc ومنصة "شاهد" عنواناً فرعياً يقول: "الثأر ما يضيع"، وهو عنوان مثير يشير إلى طبيعة العمل وبيئته "الضارية" التي يتقاتل فيها الرجال سعياً وراء الثأر إلى ما لا نهاية.
تبدأ الحلقة الأولى من المسلسل بمعركة شرسة بين عصابتي مخدرات تنتهي بموت زعيم العصابة الأولى أمام ولده الصغير، وسجن زعيم الثانية، وتمر سنوات يتحول فيها الابن بدوره إلى زعيم للعصابة، وهو ينتظر اللحظة التي يخرج فيها قاتل أبيه من السجن، لكي يسترد ثأره بيديه.
على مدار 8 حلقات مكثفة مشوقة، وإن كانت لا تخلو من لحظات تأمل وإيقاع هادئ لا يشبه كثيراً مسلسلات الأكشن، يتعاون كل من المخرجين التونسي مجدي السميري، الذي عرف بمسلسلات الأكشن والجريمة، كما في سلسلة مسلسلات "بوليس"، والسوري الفوز طنجور، صاحب النفس الملحمي وإجادة تصوير البيئة البدوية، كما فعل في مسلسل "الشرار"، لتقديم عمل يحمل بصمتيهما المشتركة، في تجربة غير معتادة، ولكنها، هنا، مثمرة.
وربما لا يعيبها سوى أن العمل الذي كتبه طلال عواجي أقصر مما ينبغي، إذ سرعان ما ينتهي الصراع فجأة دون تمهيدٍ أو إشباع درامي كافٍ.
"الضارية" ليس مجرد دراما شيقة عن الثأر، فهو يعرض أيضا الصراع الضاري بين الخارجين على القانون وقوى الأمن التي تحاول حماية البلاد من خطر المخدرات الذي يجتاح الكثير من الأمم، ويحصد الكثير من شباب اليوم. و"الضارية" هو أيضاً عمل يتأمل العلاقة بين الطبيعة والإنسان، والكيفية التي تتشكل بها الطباع والعلاقات بين البشر وفقاً للبيئة التي يعيشون فيها.
ويتم التصوير في منطقة جنوبية تتميز بجبالها وطرقها الملتوية الخطرة وبيئتها البرية، ويساهم المكان والطبيعة، كما أشرت، بدور رئيس في العمل، إذ يعطيان خلفية باهرة ومقنعة، ويصبغان الشخصيان بجفافهما وقسوتيهما.
حلقات العنف
يبدأ الصراع الأساسي في العمل بعد سنوات من المعركة الأولى، التي تبدو، بالنسبة لهؤلاء الشخصيات وحياتهم، كما لو أنها "الخطيئة الأولى"، أو "اللعنة" التي يحملها كل رجال "الضارية" كالوشم على أجسادهم.
الجيل الذي بدأوا صغاراً في الحلقة الأولى يتحولون خلال سنوات إلى شباب ورثوا مهنة آبائهم وثأرهم، الثأر لا يضيع قد تعني أيضا أن الحلقة الجهنمية من الثأر، والثأر المضاد، لا يتوقفان أبداً، وبالتوازي مع هذا الخط، فإن حلقة الصراع بين المجرمين من مروجي المخدرات وتجار السلاح ورجال القانون لا تتوقف بدورها.
يوسف (فايز جريس)، الابن الذي يسعى للانتقام لأبيه من المجرم الشرير عباس (تركي اليوسف)، له أخ غير شقيق يدعى إبراهيم (عبد الله متعب) جبان، ولا يتورع عن بيع دم أبيه وحياة أخيه إلى عباس.
يشير العمل إلى دور الأمهات في تأجيج ثقافة الصراع، فكل من أم يوسف وأم إبراهيم يحثانهما على الأخذ بالثأر وعدم التسامح، يوسف كما يقدمه المسلسل شاب وسيم محب لأمه وشقيقيه، ولديه حبيبة يعشقها منذ الطفولة، جميلة ومخلصة (تؤدي دورها آيدا القصي)، رغم معارضة أبيها لهذا الحب.
على العكس تماماً يجسد عباس نمط الشرير السينمائي بكل ما فيه من قبح وعيوب، فهو لا يحب أحداً، وليس لديه عائلة أو أصدقاء، حاد الطباع، عنيف، ويوسف، رغم أنه مهرب وتاجر مخدرات، لديه "كود" أخلاقي ما، فهو يتاجر في المخدرات، ولكن يرفض المتاجرة في السلاح (على طريقة دون كورليوني الذي يتاجر في الخمور، ويرفض الاتجار في المخدرات)، ولكن الحقيقة أن كل منهما مجرمان، وحتى في المشهد الأول كان يمكن أن يكون الضحية هو عباس، وأن يكون أبناءه هم الذين يسعون للانتقام.
إشكالية درامية
هناك إشكالية عامة تعاني منها معظم أفلام ومسلسلات الجريمة والعصابات وهي ضرورة وجود بطل يحبه ويتماهى معه المشاهد، حتى لو كان شريراً، ذلك أن خصومه هم أشد شراً منه، وليس لديهم جاذبيته أو خفة دمه أو شيئاً من الخصال الطيبة التي يجب أن يتمتع بها البطل، وتكون النتيجة: أن هناك مجرم طيب نتعاطف معه، ونحبه ونتمنى نجاته، ومجرم آخر نبغضه ونتمنى له الموت، بالرغم من أن الاثنين، واقعياً وقانونياً، لا يختلفان في نوع جرمهما أو الأذى الذي يتسببان فيه.
في سعيه لمواجهة هذه الإشكالية يقدم "الضارية" شخصية الضابط تركي ابن الضارية الذي شق طريقه ليصبح رجل قانون لا خارج عليه، والذي يتم تكليفه بمهمة مطاردة عصابات التهريب في مسقط رأسه، نظراً لدرايته بجغرافيتها القاسية وناسها، ويوظف في الدور النجم المحبوب خالد صقر لضمان جذب تركيز المشاهد، كما يمنحه خطا فرعياً لزوجته الطبيبة وابنته، اللتين تتعرضان للخطر بسبب مهنته وإصراره على تحدي العصابات الكبيرة. خالد صقر، المتميز دوماً في الأدوار المركبة، يبدو أقل من تألقه المعتاد هنا، ربما لأن الشخصية لم تكتب بشكل مركب كفاية مثل الشخصيات الأخرى.
أقصر من اللازم
هناك العديد من العناصر المميزة في "الضارية"، منها التصوير والموسيقى التصويرية، وكلاهما يشيعان إحساساً بالغربة والقلق، ويعبران عن المخاطر التي تتهدد كل امرئ في هذه القرية الجبلية النائية.
يتميز أيضاً عنصر التمثيل، وبجانب فايز جريس وتركي اليوسف يبرع عبد الله متعب في دور الأخ الخائن إبراهيم، ورغم قصر دوريهما تتألق كل من ريم الحبيب في شخصية أم يوسف، وآيدا القصي في شخصية حبيبته.
عادة يشكو المرء من الطول الزائد للأعمال الدرامية العربية، ولكن هذه إحدى المرات القليلة التي شعرت فيها بأن المسلسل أقصر من اللازم، وكان من الممكن، والأكثر تأثيراً، تعميق بعض الخطوط (مثل الصراع الشخصي والجدل داخل القرية بين الضابط تركي ابن القرية التي تعيش على التهريب، والذي نجح في النجاة والتحول إلى شخص صالح، ويوسف الذي ولد وعاش في فخ لا يستطيع مغادرته، كما كان يمكن إضفاء مزيد من اللحم والعظم على شخصيات مثل أشقاء يوسف، وإضافة بعض شخصيات من القرية لإضفاء مزيد من الواقعية على الخلفية التي تدور فيها الأحداث.
كان من الممكن أيضا الإسهاب أكثر في المعركة الأخيرة، وإعادة كتابة بعض المشاهد والتمهيد للنهاية المتعجلة بشكل أفضل.
كثيرة هي الأعمال الجيدة، ولكن "الضارية" عمل مختلف، يستكشف مناطق غير مأهولة في الدراما السعودية على مستوى النوع الفني والفضاء الذي تدور فيه الأحداث، وهو مزيج ناجح من الأكشن والدراما العائلية.
*ناقد فني










