
بعد توقف لسنوات عاد مهرجان الجزائر الدولي في طبعته الـ12، بثوب جديد أكثر نضارة وأكبر حجماً وأعلى طموحاً.
الدورة التي عقدت من 4 إلى 10 ديسمبر الحالي ضمت عدداً غير مسبوق من الأفلام تجاوزت الـ100، نصفها تقريباً في المسابقات الرئيسة: الروائي والوثائقي والقصير، وهي تقسيمة كلاسيكية مفهومة، على خلاف الكثير من المهرجانات التي بدأت تقسم الأفلام بمدة زمن العرض، وليس نوعها الفني، ما يتسبب أحياناً في تشوش لدى لجان التحكيم، خاصة فيما يتعلق بالروائي والوثائقي.
تحفة منسية
بجانب المسابقات، ضمت الدورة عدداً من البرامج على رأسها برنامج السينما الكوبية، ضيف شرف المهرجان، والسينما الفلسطينية، وسينما الجنوب، بجانب بانوراما السينما الجزائرية، التي ضمت أفلاماً حديثة وقديمة تم ترميمها.
من هذه الأفلام بعض العلامات في تاريخ السينما الجزائرية مثل "وقائع سنوات الجمر" للأخضر حامينا، الفائز بسعفة "كان" الذهبية في 1975، و"يوسف، أو أسطورة النائم السابع" لمحمد شويخ، 1994. ولكن أهم هذه الأفلام المرممة هو فيلم افتتاح الدورة، والذي عثر عليه مؤخراً في بيت العائلة، ويعيد كتابة تاريخ السينما الجزائرية.
الفيلم الذي صنع في 1952 يحمل عنوان "غطاسو الصحراء"، وحسب المتاح من المصادر يعد أول فيلم جزائري بالكامل، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وإنتاجاً، وهو من صنع رائد السينما الجزائرية طاهر بلحناش، أو طاهر حناش. "غطاسو الصحراء" ليس فيلم حناش الأوحد أو الأول، ففي الحقيقة، وحسب المصادر أيضاً عمل حناش في حوالي 80 فيلماً معظمها إنتاج فرنسي وأوروبي، ولكن أهمية "غطاسو الصحراء" تعود إلى أنه إنتاج جزائري بالكامل، وقد تسبب ذلك في قيام السلطات الفرنسية بمنع عرضه؛ لأنه "من صنع الأهالي"!
تشبه قصة طاهر حناش والعثور على أعماله وأوراقه في بيت بناته قصة رائد السينما المصرية محمد بيومي واكتشاف وجود أعماله. ويتشابه الاثنان أيضاً في نكرانهما للذات، والمساهمة في تأسيس صناعة السينما، كل في بلده: بيومي من خلال إعطاء كاميراته ومعداته وخبراته لاستوديو مصر، وحناش من خلال إعطائها للاستوديو المركزي للتليفزيون والسينما!
"غطاسو الصحراء" هو أيضاً وثيقة تاريخية، حيث يصور حياة السكان الأصليين في الصحراء واعتمادهم على ماء المطر الشحيح والمياه الجوفية، وعندما يجف أحد الينابيع يستعينون بغطاسي الصحراء، الذين تتمثل مهمتهم في النزول إلى قاع النبع وحفر الأرض لتعود المياه من جديد.
الفيلم روائي قصير، صامت، وقد تم عرضه مع موسيقى حية للأوركسترا، ما أضاف بهجة وحيوية على الفيلم الذي يثير الحنين بموضوعه وتقنياته القديمة والمبهرة بالنسبة لوقتها وظرفها.
مقاربة الجوهر
لا ينشغل مهرجان الجزائر في دورته الـ12 بالأفلام الجديدة ذات الأسماء الكبيرة، وإنما بالأعمال الجيدة ذات المضامين الإنسانية والسياسية التي تتفق مع توجهات صناع المهرجان. وكون كوبا هي ضيف الشرف، بجانب الاختيارات الأخرى، تكشف عن هذا التوجه الذي يدعم حركات المقاومة، وتحرر الشعوب ومناهضة الاستعمار، ومن الطريف أنه لا يوجد فيلم أميركي واحد في المهرجان! هذا الحضور "السياسي" يذكر بسنوات السبعينيات، وقليلاً ما نراه في المهرجانات الآن.
لا يهتم المهرجان في هذه الدورة بالنجوم سواء العرب أو الأجانب، ربما لمحدودية الميزانية، بالرغم من الدعم غير المسبوق من قبل وزارة الثقافة للمهرجان، ولكن من الواضح أيضاً أنه توجه مقصود، حيث ينصب التركيز على السينما المستقلة والجادة، وعلى الجوهر والمضمون المطروح في هذه الأفلام.
وللمرة الأولى يستضيف المهرجان سوقاً للفيلم، وإن كان بالطبع نقطة التقاء بين الصناع، وليس سوقا بالمعنى الذي نراه في المهرجانات الكبرى.
ضمت الدورة عدداً من الأفلام المتميزة سواء الحديثة أو القديمة، من هذه الأعمال، مثلاً، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، النسخ المرممة لـ"معركة الجزائر" لجيلو بونتيكورفو، الذي يعد من روائع السينما النضالية الحربية، وZ لكوستا جافراس، الذي يعد من روائع الأفلام السياسية.
أما برنامج السينما الفلسطينية، فضم من الكلاسيكيات "يد إلهية" لإيليا سليمان، و"جبهة الرفض" لجوسلين صعب، ومن الأعمال الحديثة نسبيا "إبراهيم لأجل غير مسمى" للينا العابد و"شكراً لأنك تحلم معنا" لليلى عباس و"أحلام عابرة" لرشيد مشهراوي، ومن الأعمال الجديدة تماما "صوت هند رجب" لكوثر بن هنية، و"مع حسن في غزة" لكمال الجعفري.
بالمناسبة مجلة Sight & Sound اختارت في عددها الأخير (لشهر ديسمبر) الفيلمين الأخيرين ضمن أفضل 50 فيلماً في 2025: "صوت هند رجب" في المركز الـ19 و"مع حسن في غزة" في المركز الـ50.
والفيلم الأخير يستحق كتابة تفصيلية؛ لأنه غير مشهور بعد في العالم العربي، بالرغم من أنه يتجول في مهرجانات العالم حالياً منذ عرضه في مهرجان لوكارنو، حيث حصل على جائزة Europa Cinema Label المخصصة لدعم توزيع الأفلام الأجنبية في أوروبا.
غزة بعد ربع قرن
"مع حسن في غزة" هو فيلم وثائقي مدته 105 دقيقة من صنع المخرج وفنان الفيديو الفلسطيني المقيم في ألمانيا كمال الجعفري.
الفيلم عبارة عن مواد مصورة أساسية لرحلة قام بها المخرج في 2001، وقت الانتفاضة الثانية، بحثاً عن شاب اسمه عبد الرحيم تعرف عليه في السجن خلال نهاية الثمانينيات، عندما قضى الجعفري 7 أشهر دون تهمة محددة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وكان عمره حوالي 17 سنة، بينما عمر عبد الرحيم لا حوالي 18 سنة.
في سيارة مؤجرة، يملكها سائق اسمه حسن ينطلق كل من كمال الجعفري وحسن في رحلة عبر أحياء وشوارع وبيوت غزة، وعلى بعد خطوات من مستوطنة بناها الاحتلال على منطقة من حدود غزة، حيث تتواصل الاشتباكات من دون توقف، وأمام كل رصاصة تطلقها المقاومة، يرد الاحتلال بعشرات الصواريخ التي تقتحم البيوت، وتقتل الأبرياء بشكل عشوائي.
بعد فترة يتبين أن الصديق لا أثر له، ولا أحد يذكره بشكل مؤكد، وينتهي الفيلم دون أن نعلم مصيره.
وحسن يعرف كل شارع وبيت في غزة، ويعرف نوع الرصاص والقنابل ومصدرهما من مجرد سماع أصواتها، وفي طريقها تستكشف الكاميرا، دون تعمد، وهذا أقوى ما في الفيلم أنه طبيعي للغاية، الحياة في غزة تحت الحصار (ونحن نتكلم عن 2001): البطالة، الفقر، هدم البيوت والحالة السيئة للمرافق، المستوطنات، الصواريخ والقنابل التي تنهال يومياً على البيوت. وفي أحد المشاهد تقوم عائلة تعرضت شقتها للقصف بوضع أشولة من الرمل على النوافذ لحمايتها.
الأرشيف المنسي
هذه المواد المصورة كانت مسجلة على أسطوانات MiniDV قام بتصويرها الجعفري خلال رحلته القصيرة إلى غزة منذ ربع قرن، وقد ظلت مفقودة أو منسية طوال هذه السنوات إلى أن عثر عليها، أو تذكرها، مؤخراً، ورغم أنها في وقتها لم تكن شيئا ذا أهمية كبيرة، إلا أنها تبدو اليوم ككنز حقيقي لأسباب كثيرة: منها أنها تثبت لمن يعلم أن الحياة لم تبدأ في 7 أكتوبر 2023، وأن الحرب على غزة مستمرة بالفعل منذ عقود، ومنها أيضاً أن الفيلم، أو المادة التاريخية التي يعرضها، تجسد فكرة السينما كتجسيد للزمن، كاستحضار للماضي، كبعث للموتى، والأهم كذاكرة لمن يفقد، أو يرغب في فقد ذاكرته.
وأذكى ما فعله كمال الجعفري هو حفاظه على المواد المصورة كما هي ودون أي محاولة، ظاهرة، لإملاء شيء عليها: لا مواد أخرى مضافة ولا مقارنة مفروضة مع الحاضر، ولا أسئلة عما حدث لهؤلاء الناس وغزة كلها خلال العامين الماضيين، والعقدين الماضيين، ومع ذلك فكل هذه الأفكار والتساؤلات والمشاعر المؤلمة تفرض نفسها على المشاهد فرضاً.
ينتهي الفيلم، ولكن ما يبقى عالقاً في ذهن المشاهد وقلبه هو صور الأطفال الذين لا تفارق وجوههم الابتسامة، والذين يلعبون بأي شيء ويبحثون عن الفرحة في أي شيء، ويتعلقون بالكاميرا طالبين من حاملها أن يقوم بتصويرهم، كأن في هذه الصورة حياتهم، وكأنهم يعلمون أنه لن يبقى منهم سوى هذه الصور.
يبقى صور الرجال الجالسين في المقاهي يمضون الوقت الضائع (بسبب البطالة) في لعب الورق. ويبقى صور سوق السمك وسوق الخضروات والمخابز. وحين يقوم السائق و"المرشد السياحي" حسن بصحبة الجعفري والمشاهدين بين معالم القطاع، فإن معظم الأسماء تكتسب دلالات وإشارات مختلفة الآن: معسكر جباليا، معسكر الشاطئ، خان يونس، رفح، دلالات ومعانٍ أصبحت ترتبط بالدمار والموت، وكثير من هذه الأماكن لم يعد له وجود بالمرة.
بذكاء شديد يحرص كمال الجعفري على تقديم عمله كـ"مواد خام" بدائية التصوير، ويتعمد عدم استخدام المونتاج كثيراً، وترك الكاميرا مفتوحة حتى لو كانت تتخبط أو تختبئ من أعين الجنود الإسرائيليين تحت مقعد السيارة، أو وهي تنقل ثرثرات المواطنين.
ولكن ألمعيته كمخرج تتجلى في تدخلاته المحسوبة والمؤثرة بدقة، بمقطع سردي voice over، أو أغنية أو لحن موسيقي، تدخلات، على قلتها، تربط كيان العمل، وتنقله من مجرد مواد فجة مصورة إلى قطعة من الشعر السينمائي!
مهرجان الجزائر في دورته الـ12 هو، باختصار، إعادة اكتشاف للتاريخ من خلال السينما.
* ناقد فني











