
بمقدمة واعدة ومتماسكة، يدخل فيلم المجهولة للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، مباشرة إلى حقل السرد البوليسي بمعلومة عن جثة فتاة مجهولة في منطقة برية مقفرة، وموظفة تدعى نوال، تؤدي دورها الممثلة ميلا الزهراني.
تعمل نوال في رقمنة الأرشيف بقسم الشرطة، تتشبث بالتحقيق في ظروف وفاة وملابسات جريمة قتل الفتاة، وحفظها في ثلاجة الموتى، ويساعدها في ذلك اهتمامها بمشاهدة المحتويات المصورة التي تسرد القصص الجنائية بطريقة مشوقة ومسلية.
المعالجة الأساسية للفيلم تعتمد على صدمة الموت المنسي لكائن مجهول، فتتحول شخصية نوال إلى فاعل أساسي في السرد، وفي هذا الجانب يعد الفيلم امتداداً لخط المنصور في تصوير النساء العاديات، وهن يتجاوزن حدود الممكن الاجتماعي، حتى لو ظل اعتراف المنظومة التي تعمل بها منقوصاً، وهو أيضاً يتشابك مع الخط الدرامي في اختياراتها للموضوعات عن كيفية استخدام القيود البيروقراطية والذكورية كعنصر درامي، كما هي الحال في العديد من الأفلام العربية التي تناولت قصة مجتمع ذكوري يعطي الأولوية لمظهر الشرف على حياة النساء، والأعراف السائدة في تمثيل جرائم قتلهن، وهذه أرضية خصبة تفتح باباً لإلقاء الضوء على أفراد وعائلات داخل مجتمع يقيس قيمة الإنسان بمعايير الهوية الجندرية، والنسب والأدوار.
لكن هذا البُعد يبقى سطحياً داخل الفيلم.
الأداء: إلى متى؟
يتبنى الأداء التمثيلي صيغة الهدوء المطبق، لكن المشكلة ليست في الرغبة في الهدوء نفسها، بل في غياب التناغم بين الأسلوب المباشر، وسخونة الحدث.
الدراما البوليسية تحتاج إلى نبرة داخلية تُظهر تفاعل الشخصية مع الحياكة السردية، في "المجهولة" كانت هناك حالة أدائية باردة كونت فراغاً لا طاقة فيه، وتحولت الجمل القصيرة إلى فراغات لا تنقل التوتر، ولا تعكس تحولات العاطفة.
ليس مطلوباً مقدار الانفعال كمقياس لقوة الأداء، بل بقدرة الممثل على حمل وتيرة الفيلم خاصة عند لحظة اكتشاف معلومة جديدة، أو لحظة صدام مع مسؤول، لحظة خيبة أو استفاقة، كل ذلك يحتاج ما يشبه التدرج، بدلاً من تكرار النبرة ذاتها مع جميع الشخصيات، مثل شقيقة الفتاة، وتعاطي الشرطي المحقق مع نوال.
بشكل عام، يتولد إحساس بأن الشخصية لا تتطور، لا بشكل ذهني ولا انفعالي، فتُبقى المشاهد في خط مستقيم على إيقاعٍ واحد رغم محاولة المخرجة إدراج المعلومة داخل زمن سردي محسوب، والطبيعي أن تستند إلى غموض قابل للتأويل، وهذه النقلة بدأت متينة عندما أتاحت مساحة أوسع للمجاز والتخفي، ثم ترهلت لاحقاً في إدارة هذا الغموض من ممثلين لم يسند إليهم وضوحاً شعورياً كافياً، فبقيت انفعالتهم متصنعة، ومعلّقة في فراغ سردي غير مبرر.
السيناريو على الطريقة المعلوماتية
لا نستطيع أن نتحدث عن الفيلم دون ربطه بمشروعات المخرجة السابقة، والتي كانت تتحرك شخصياتها داخل سياق اجتماعي واضح، ويمنح تحولاتها معنى أكثر شاعرية مثل "وجدة" و "المرشحة المثالية"، غير أن المسار في “المجهولة” لا تتبدى فيه معالم مدروسة لتطور الشخصية أو توتر الشخصيات حولها، هذا الانفصال يدخل من بوابة السيناريو أولاً.
طموح المنصور في صناعة عمل سعودي بوليسي في إطار تشويقي أمر في غاية الأهمية، خاصة أنها اختارت محركاً نفسياً دوافعه ظاهرة على مستوى تأسيس شخصية نوال؛ فقد ابنتها، محاولتها التعويض، الرغبة في العدالة، لكنها لا تتبلور بصريًا بشكل ناضج على الشاشة، ولا تتحول هذه الدوافع إلى مسار تنمو فيه الشخصية، كما لم يتم نسج علاقة ذكية بين ما تبحث عنه وما تخشاه، هنا يفقد العمل لحظة التوتر الحقيقية بين تركيبة الشخصيات والموضوع.
تظهر التحديات في مواضع عدة؛ الحوار الذي يجب أن يفتح مسارات معرفية جديدة، التحقيق الذي يتوسع نحو طبقات اجتماعية حول دائرة الفتاة، والتنقلات التي تنحت اختلافًا بين بداية الحكاية ونهايتها، كأن البناء الدرامي يتقدم خطوة ثم يعود إلى نفس النقطة بطريقة غير مسؤولة، يخفق السيناريو في منح الفتاة المقتولة وزنًا دراميًا، أهل الفقيدة وصديقاتها وادارة المدرسة يتعاملن بتبلد ولا مبالاة، لا تنشأ صلة ذهنية قوية بين موتها وذروة مسار التحقيق؛ خاصة مع استخدام الـ "فلاش باك" حول حياة نوال أكثر من مرة مع زوجها السابق، فتتحول الفتاة الضحية - والتي يرمز عنوان الفيلم لها - إلى رمز اسقاطي لهذه الحياة، لتبقى مجرد جهاز لتحريك الأحداث.
مقاربة النوع واختلال الوظائف الدرامية
تبنى الدراما البوليسية عادة على تحريك القوى داخل المجتمع، بحيث يصبح التحقيق منصة لمعالجة ذوي السلطة والعلاقات الإنسانية، على غرار المسلسلات البوليسية مثل شخصية "كولومبو" في نماذج سابقة في السينما العربية والعالمية، ومنها الفيلم المصري "ملاكي اسكندرية" للمخرجة ساندرا نشأت، والفيلم الكوري "ذكريات جريمة" للمخرج بونج جون هو، والذي يُظهر كيف تترجم الجريمة إلى انهيار المنطق الاجتماعي.
لكن، نستطيع القول إن المثال التجاري الأقرب إلى الذهن وأكثر جماهيرية من بقية الأمثلة، هو الفيلم الأميركي The Girl with the Dragon Tattoo (الفتاة ذات وشم التنين) للمخرج ديفيد شينر، إذ نشاهد في "المجهولة" العناصر الرئيسية لذات النوع مثل الاستقصاء، التوتر والطبقات المخفية وهو أقرب العناصر التي حاول "المجهولة" أن يقدمها، لكن في الفيلم الهوليوودي ، تم إدارة عناصر السرد، الإيقاع، الأداء، التصوير المحكم، ما أعطى العمل قدرة على تحقيق التوازن بين "جماهيرية الفيلم" و "عمق القضية"، أما في الجانب المحلي السعودي ضاقت العوالم المحيطة لتكوين شخصية ثانية. وتحديداً في السلطة المؤسسية والممثلة برجال الشرطة الدقيق و تعاملهم مع الضوابط و الحوكمة وصلاحيات العمل.
التحول الأخير: الالتفاف والإطاحة بما سبق
في العادة تأتي التحولات الدرامية المفاجئة عامل جذاب مصاحب بالدهشة، و تصبح تحديًا حين لا تُبنى على منطق تصاعدي ناتج من تشابك المسارات، بحيث يجعل الجمهور يعيد قراءة الأحداث السابقة، أما هنا، وفي الانعطافة الأخيرة دون الاستغراق في شرحها وتفكيكها، تبدو "إضافة متأخرة" أكثر من كونها نتيجة تصاعد (ودون حرق للأحداث).
ربما يطمح "المجهولة" لملامسة قضايا نفسية و اجتماعية عبر قالب بوليسي، لكنه يفتقر إلى غياب الإحساس المعاش في الحياة اليومية ليحقق توازنًا بين التنفيذ والمضمون، وأن ينجح في تحويل الجريمة إلى مختبر لخيوط درامية متماسكة، وتقديم رحلة داخلية تصاعدية، فهل تحقق هذا قبل المشهد الأخير؟
من الصعب مقارنةً بالأعمال التي ناقشت النوع ذاته، أونحتت داخله بُعدًا فلسفيًا أو اجتماعيًا متينًا خاصة أن هذا الإسلوب قدم مراراً في السينما، وذهبت إليه هيفاء المنصور من حيث قدم الآخرون.
من جانب آخر لا يمكن وصفه بالتجربة الفاشلة، لكن بوصفه محاولة غير مكتملة يحمل نية الدراما، ورمزية القضايا الجنائية الشائكة، وفكرة الالتفاف الأخيرة الجذابة، ويمكن النظر إليه كباب مفتوح للنقاش، ليس حول نوعه المطروح، بل حول الأدوات التي يحتاجها هذا النوع ليعمل بكفاءة وعمق.
تجدر الإشارة إلى أن هذا هو العرض الدولي الثاني للفيلم بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو الدولي 2025 قبل طرحه في الصالات التجارية، مطلع يناير المقبل، و هو سيناريو وحوار هيفاء وبراد نييمان، وإنتاج "روتانا ستوديوز" بالشراكة مع مؤسسة المنصور للإنتاج المشترك، وبدعم من مسابقة ضوء لدعم الأفلام.











