خاص
فن

"صوت هند رجب".. لحظة من الأمل في زمن اليأس

time reading iconدقائق القراءة - 12
مشهد من فيلم "صوت هند رجب" - المكتب الإعلامي لمهرجان فينيسيا السينمائي
مشهد من فيلم "صوت هند رجب" - المكتب الإعلامي لمهرجان فينيسيا السينمائي
القاهرة -عصام زكريا*

الحرب على غزة جعلت الناس يعيشون أياماً ليس لها مثيل في التاريخ، ربما تكون قد حدثت أشياء بشعة مماثلة في الماضي، ولكن أن يشهدها العالم على الهواء مباشرة، حيث تبث صور وأصوات المذابح دقيقة بدقيقة على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، فهو أمر غير مسبوق. 

ومن بين الأشياء الكثيرة التي تغيرت، أو توشك على التغير، بفعل ما حدث، ومستمر في الحدوث، هو وسائل الإعلام، والسينما، التي لم يعد بمقدورها أن تتعامل مع الكيان الصهيوني والعنف الذي يمارسه، كما كانت تفعل منذ عامين.

هذا التحول، الذي قد يكون من المبكر أن نرى نتائجه على أرض الواقع، يطرحه بقوة فيلم "صوت هند رجب"، للتونسية كوثر بن هنية، والذي يقدم تجربة مشاهدة لا أعتقد أنها مسبوقة في تاريخ السينما، ليس لأنه أفضل فيلم تم صنعه، رغم أنه فيلم جيد جداً، أو لأن أسلوبه جديد، رغم أنه متميز، ولكن لأنه يترك المشاهد في حالة من التأثر تختلف عما تفعله الأفلام عادة، وعما يفترض أن تفعله الأفلام بالمشاهدين.

تجربة استثنائية

ما يحدث على الأرجح خلال تجربة مشاهدة "صوت هند رجب" أن قدرة المشاهد على الحكم أو التقييم تتوقف مؤقتاً، ويتراجع الفيلم نفسه إلى شيء ثانوي، غير ذي بال، أمام ما يشاهده من مأساة يصعب على معظم الناس، باستثناء متحجري القلوب وميتي الضمائر، أن يتحملوها.

خلال 90 دقيقة تقريباً هي زمن الفيلم، تقوم كوثر بن هنية وفريق عملها باستخدام 3 مكونات رئيسية: الأول توثيق التفاصيل الدقيقة للحدث المعروف، غالباً، للمشاهد، وهو مصرع الطفلة الفلسطينية هند رجب يوم 29 يناير 2024 مع 6 من أفراد عائلتها، بعد عدة ساعات راحت فيها تستغيث من داخل السيارة التي تحولت إلى قبر جماعي، وعندما وصلت إليها سيارة إسعاف الهلال الأحمر أخيراً، قام جنود الاحتلال باطلاق النيران على السيارتين فقتلوها وقتلوا المسعفين أيضاً.

هذه الواقعة، وهي مجرد واحدة من مئات الجرائم الوحشية التي ارتكبها، ولم يزل، الكيان الصهيوني، هزت العالم، ليس لأنها الوحيدة، ولكن لأن الضحية طفلة عمرها 5 سنوات لها اسم وصوت، وتفاصيل حياة وموت، ولأن وقائع الجريمة كانت تبث على الهواء مباشرة، وتعيد بن هنية تمثيل المحادثات التي تمت بين هند رجب وفريق مكتب الهلال الأحمر، ولكن تستخرج من التسجيلات الحقيقية صوت هند فقط لاستخدامه في الفيلم، مع أصوات بقية الممثلين.

واقع خيالي

المكون الثاني للفيلم هو الجانب "المؤلف" (لن أقول الخيالي بالطبع)، فالفيلم له سيناريو وحوار وممثلين يؤدون أدوار الشخصيات الحقيقية وإخراج وتصوير ومونتاج إلى آخره.. وإن كان يلتزم بإعادة تمثيل ما حدث بالفعل خلال ذلك اليوم.

يدور الفيلم بالكامل داخل غرفة تلقي مهاتفات طالبي النجدة في مكتب الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله (والذي يغطي الأرض المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة)، وذلك من خلال 4 شخصيات رئيسية هم: عمر القم (معتز ملحس)، ورنا حسن (ساجا كيلاني) اللذين ينخرطان مباشرة في معظم الأحاديث مع هند وخالها المقيم في ألمانيا وأمها المقيمة في غزة.

وبجانب عمر ورنا هناك مدير المكتب مهدي (عامر هليهل) الذي يتعين عليه "التنسيق" مع الصليب الأحمر الدولي والسلطة الفلسطينية والقيادات الصهيونية، في كل مرة يحتاج فيه المكتب إلى إرسال مسعفين لمكان ما، وبما أن عدد من المسعفين قد لقوا مصرعهم بالفعل على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي، فإن مهدي يحاول بقدر الإمكان منع ذلك من الحدوث مرة أخرى.

الشخصية الرابعة هي نسرين (كلارا خوري) المسئولة عن الصحة النفسية للعاملين في المكتب، والتي تحاول حمايتهم طوال الوقت من الانهيار العصبي أو الانفعالات الزائدة أو حتى التشابك فيما بينهم!

ولعل أبرز ملاحظة هنا هي أن التمثيل طبيعي يكاد يخلو من مهارات ومظاهر الحرفة، خاصة مع الوضع في الاعتبار قسوة الموضوع والتجربة التي يمر بها الممثلون وهم يعيدون اختبار هذه المشاعر القاسية، واستماعهم إلى صوت هند رجب الحقيقي طوال الوقت.

ومن الواضح أن بن هنية كانت تحرص على وضع ممثليها في الموقف المطلوب وإتاحة الفرصة لهم للتعبير والانفعال الحقيقي بالموضوع، فهناك قدر من الارتجال والارتباك أحياناً، ولكنهما يضفيان المصداقية والطبيعية على الأداء.

طريقة بن هنية

المكون الثالث لفيلم "صوت هند رجب" هو الأسلوب، أو الكيفية، التي تم بها مزج الجانبين الوثائقي والمؤلف، والذي يعتمد بالأساس على صوت هند رجب الحقيقي الذي يشارك في الفيلم كشخصية مع تنويه على الشاشة، في كل مرة نستمع فيه إلى الصوت، بأنه الصوت الفعلي الذي سجلته أجهزة مكتب الهلال الأحمر للمحادثات الهاتفية الطويلة التي أجروها مع الطفلة المحاصرة، على أمل التخفيف عنها وطمأنتها حتى وصول سيارات الإنقاذ إليها.

هذا المزيج يعطي للفيلم تأثيره الفريد، ذلك أن المعالجة الوثائقية المجردة قد تجعل العمل يشبه التقارير والأخبار التي يتعرض لها المشاهد يومياً على الفضائيات، أما المعالجة الروائية لحدث بهذا الحضور فقد يجعل المشاهد يستقبل العمل كما يستقبل الأفلام الخيالية ويتصور أن ما يراه لم يحدث في الواقع بهذا الشكل.

الصيغة التي توصلت إليها بن هنية هي تكثيف المادة الوثائقية (التي تقتصر على المكالمات) ومنحها جسداً حياً، نرى فيه تفاصيل ماحدث في مكتب الإسعاف والجهات التي تم التواصل معها خلال اليوم المشئوم، كما نلقي نظرات أعمق إلى عقل ومشاعر الشخصيات الرئيسية، ونتماهى معها كما يحدث في السينما الروائية، ومن خلال هذه الصيغة يتم تلقي العمل بالعقل والوجدان معاً.

تبلور كوثر بن هنية الأسلوب الذي يميز مسيرتها في المزج بين الوثائقي والروائي واستكشاف وكسر الحدود بينهما، كما فعلت في فيلمها الأول "شلاط" وفيلمها السابق "بنات ألفة".

بجانب الطابع الوثائقي للفيلم تستخدم بن هنية أدوات من السينما الروائية، لمزيد من شحن الفيلم بالتشويق مثل بناء القنبلة الموقوتة، أو الساعة التي تدق في انتظار لحظة الإنقاذ واسلوب أفلام التشويق.

ورغم أن المشاهد يعلم، غالباً، بالنتيجة المأساوية لهذا الانتظار، إلا أن حالة الترقب والأمل التي يشيعها هذا البناء تصيب المشاهد بالتوتر والمقارنة غير الواعية بالفارق بين السينما الخيالية الشعبية والواقع القاسي.

كذلك تستخدم بن هنية التصوير بالكاميرا المحمولة التي تتحرك طوال الوقت، ما يزيد من التوتر، والشعور بثقل الزمن والعجز الذي ينتاب الشخصيات (والمشاهد في قاعة العرض) من عدم قدرتهم على فعل شيء لمنع الكارثة.

صوت غزة

"صوت هند رجب" ليس فيلماً بقدر ما هو صرخة من أعماق القلب، تضج بالحزن والغضب واليأس، في حوارها لمجلة Sight & Sound (ديسمبر 2025) تقول كوثر بن هنية عن اللحظة التي فكرت فيها في صنع هذا الفيلم:  "عندما سمعت صوت هند لأول مرة تملكني الحزن الشديد والغضب والإحساس بالعجز، يتساءل المرء في موقف كهذا: ما الذي يمكن أن أفعله؟ أنا أصنع أفلاماً، وهكذا كان الخاطر الأول هو الرغبة في صنع فيلم عنها".

هذا بالضبط هو ما ينقله الفيلم إلى المشاهد، بالإضافة إلى بصيص شعاع من الأمل في قدرة أصوات الحق والإنسانية والفن على مواجهة همج العصر ومن يدعمهم، ذلك أن الفيلم نفسه ونجاحه والتفاف الناس حوله رغم كل آلة الدعاية الصهيونية المضادة، وانضمام عدد من كبار صناع السينما في العالم لدعم انتاجه وتوزيعه (براد بيت، واقيم فينيكس، روني مارا، جوناثان جليزر)، وبعد جولاته ونجاحاته المستمرة في كل مكان، هو ما يخفف حدة اليأس التي يشيعها الفيلم في النفس.

استغلال أم تقديس؟

جدير بالذكر هنا أن من شأن الفيلم أن يثير حفيظة المؤيدين العميان لاسرائيل والمتربحين منها، وهؤلاء غالباً ما يلجأون إلى اتهام الفيلم بالاستغلال "غير الأخلاقي" لصوت الضحية، ومع التأكيد بأن صانعة الفيلم حصلت على الموافقة اللازمة من والدة هند، إلا أن الأمر يحتاج إلى مناقشة إضافية، ورداً على هذا السؤال (المتوقع) أجابت كوثر بن هنية في حديثها لـSight &Sound: "تناقشنا كثيراً بشأن ذلك مع المنتج، والتسجيلات كانت موجودة في كل مكان على الإنترنت، فكرنا هل نأتي بممثلة صغيرة؟ ولكن سرعان ما نبذنا الفكرة، فقد بدت خيانة لذكراها.. لقد أصبح صوت هند رمزاً، صوت غزة نفسها".

أما عن سبب تذكيرها للمشاهد في كل مرة يستخدم فيها الصوت بأنه الصوت الحقيقي لهند رجب، فتقول بن هنية: "كنت أخشى أن القصة تتجاوز خيال أي كاتب سيناريو، لدرجة أن الجمهور قد يعتقد أنه فيلم خيالي، حربي أو تشويق، أيضاً لأنه بسبب سذاجتي، كنت أعتقد أن موت هند رجب هو ذروة هذه الحرب، ولكنه لم يكن، والناس لم تزل تقتل كل يوم".

من ناحية ثانية، وعلى العكس، قد يرى البعض أن التمثيل والصياغة الدرامية التشويقية للفيلم وحتى مشاركته وسط أفلام أخرى في موالد المهرجان والسجاجيد الحمراء هو نوع من التطبيع مع الجريمة أو جعلها مستساغة دون قصد، ورغم أن التحفظ مفهوم، خاصة بالنظر إلى الطبيعة الاستعراضية والاستهلاكية لهذه العروض، إلا أن هذه الأماكن نفسها، التي تسعى "اللوبيات" السياسية الاستعمارية والصهيونية للسيطرة عليها، هي المكان الأمثل لتقديم صوت هند رجب ورفاقها من ملايين الضحايا، ولعل وصول 3 أفلام "فلسطينية" المحتوى إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار التي أعلنت منذ يومين هو أكبر إنجاز حققته هذه الأصوات (مثل فوز "لا أرض أخرى" بالأوسكار في العام الماضي) رغم الحملات المضادة للوبي الصهيوني ورفض معظم الشركات الأمريكية توزيع هذه الأفلام!

بدلاً من الاستغلال، أعتقد أن ما نجحت فيه بن هنية هو إضفاء القدسية والخلود على صوت هند، الذي يحفره هذا الفيلم في ذاكرة المشاهد.

ما وراء التمثيل

من ناحية ثانية، ربما يتساءل المشاهد أثناء الفيلم لماذا لم تستعن بن هنية بالشخصيات الحقيقية لأداء أدوارهم على الشاشة، كما نرى كثيراً في نوع الدوكيودراما.

أعتقد، في هذا الفيلم تحديداً، الذي يتجاوز فيه الواقع أي قدرة على تخيل أو "إعادة تمثيل" ما حدث، فإن الاستعانة بالشخصيات الحقيقية ربما كان يمكن أن يضعف الفيلم.. لأن هؤلاء قد لا يستطيعون أن يستعيدوا الأحاسيس وردود الفعل التي كانوا يشعرون بها في ذلك اليوم، ليس فقط لأنهم غير محترفين، ولكن لأن هذه المشاعر أثقل أيضاً من أن يعاد تمثيلها.

في واحدة من أذكى لقطات الفيلم، يتجمع فريق مكتب الهلال الأحمر (من الممثلين) يناقشون أمراً ما، وعلى هاتف أحدهم تقترب الكاميرا لنرى فيديو للشخصيات الحقيقية تم التقاطه يومها، في هذه اللحظة يحدث شيئان متناقضان لدى المشاهد: ينكسر الإيهام وتظهر صنعة الفيلم، وفي الوقت نفسه تمتزج الحدود بين التوثيقي والتمثيلي، وبين صالة العرض وغرفة نجدة الإسعاف في رام الله نهار 29 يناير 2024!

بعد قليل من هذه اللقطة، يبدأ الجزء الأخير من الفيلم الذي يتكون من حوالي 10 دقائق توثيقية تماماً لمكان الحادث وانتشال جثامين هند وعائلتها والمسعفين، مع صورهم ومقاطع أخرى من التقارير الإخبارية يومها.. ليعود بنا "صوت هند رجب" مرة أخرى من "فضاء التخييلي" إلى "أرض الواقع" القاسية!

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك