إذا كان لا يمكن أن نفكر في التطوّر السينمائي في المملكة العربية السعودية، بمعزل عن الحراك المجتمعي والثقافي الضخم الذي تشهده البلاد، فإن الأمر الأكثر دلالة على اتجاه بوصلة هذا الحراك هو عنوان الفيلم السعودي الجديد "قوارير"، الذي عُرض خلال الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي (6-15 ديسمبر)، بتوقيع خمس مخرجات سعوديات قدمت كل منهن فيلماً قصيراً، لتشكل الحكايات الخمس فيلماً طويلاً عرضه المهرجان بنجاح كبير.
تجربة الأنطولوجيا النسائية تكررت من قبل في فيلم "بلوغ" الذي عُرض أيضاً في مهرجان البحر الأحمر، بعد إطلاقه في مهرجان القاهرة السينمائي، لكن "قوارير" يبدو هنا تجربة أكثر دلالة على الصعيد المجتمعي، أولاً لعنوانه الذي يحمل إشارة واضحة للرغبة في طرح التراث للمساءلة بحرية وانفتاح، وثانياً لموضوعه الذي اختارت المخرجات فيه سرد قصص خمس نساء محتجزات – بشكل أو بآخر – وراء الأبواب، أي أن ربط الوعّاظ الحاكم لحياة المرأة كان بالتأكيد في الأذهان عند صياغة الفيلم، أو للدقة الأفلام الخمسة القصيرة اللاتي أنتجتها رغيد النهدي وسارة مسفر بمشاركة لجين بخشوين.
مأزق شرقي
في الحكاية الأولى، أو في "الباب الأول" كما يُسمي الفيلم فصوله، تروي المخرجة نورة المولد مأزقاً شرقياً بامتياز: الأب الرافض لانخراط ابنته حتى في الأنشطة المدرسية البسيطة. فتاة موهوبة لا يمكنها أن تستمتع بموهبتها داخل الإطار المدرسي دون أسباب مقنعة، سوى رغبة الأب الممثل لكل ما تحمله الذكورية والأبوية من استمتاع بالسلطة حتى إن كانت مفرّغة من جوهرها.
وعندما تقرر البطلة أن تتمرد جزئياً بحثاً عن أبسط حقوقها، نرى معها كيف يمكن أن يكون الشارع مساحة مرعبة لمن اعتادت الاحتماء خلف الأبواب.
الباب الثاني يخفي وراءه حكاية شيقة صاغتها نور الأمير، تحمل داخلها تعبيراً عمّا يعرفه الجميع ويسكتون عنه: الاحتجاز لا يمنع شيئاً، كل ما في الأمر أن الأشياء تحدث خلف الأبواب المغلقة. شابة يموت زوجها لأسباب تبدو غير واضحة، تجد نفسها في لحظة مضطرة للتعامل مع ما تركه الراحل وراءه من أسرار، بل وتتورط في قرار لحظي قد يتسبب لها في كارثة، أي أنها لم تمتلك الوقت الكافي للاستمتاع بحياتها مع الرجل، لكنها صارت مضطرة لاستكمال حياتها بإرثين: إرث القيود المجتمعية على الأرملة وإرث ما تركه الزوج وراءه من أسرار.
على هامش العالم
حكاية أبسط ترويها رغيد النهدي في الباب الثالث، مجدداً حول الحرمان من الحقوق الطبيعية. فتاة صغيرة ذكية وموهوبة تحلم بكل ما يحلم به من في عمرها: أن تتعلم بشكل طبيعي وتحتك بالبشر والحياة. وبينما كل ما تحلم به يوجد حرفياً على بعد أمتار، في صورة معلم يعطي دروسه في البناية نفسها، إلا أن المطلوب منها أن تكتفي بالعيش على هامش العالم، أن تتعلم وصفات الاعتناء بالجسم وطرق التعامل مع ملل البقاء خلف الأبواب، وتسترق السمع للدروس محاولة التعلم سماعياً، في صورة صارخة للطاقة المهدرة باستبعاد المرأة من التعليم والحياة العامة.
القصة الأكثر أملاً تأتي في الباب الرابع من إخراج ربى خفاجي، التي لا تنكر هي الأخرى حجم الضغوط الواقعة على كل شابة راغبة في أن تعيش حياتها بصورة طبيعية، لكنها تؤكد ضمنياً ليس فقط على قدرة الحالمات على النجاح، بل أيضاً على أن التغيير مسألة وقت لا أكثر، فالجميع مقتنع بأن الوضع لا يمكن أن يظل كما هو، ومساحة التفتح والقناعات العصرية تظهر ليس فقط من خلال خالة عُرفت بالتمرد، ولكن حتى في العريس الآتي بصورة تقليدية، ففي النهاية لا يمكن لقوة مهما كبرت أن تقف في وجه مسار الحياة الطبيعي.
"التحرش الجنسي"
أما فاطمة الحازمي فتقدم أجرأ الحكايات، بل أحد أجرأ حكايات السينما العربية في عامنا الحالي، عندما تتعرض في فيلمها لظاهرة التحرش الجنسي من قبل الأقارب، والذي يأتي دائماً من أشخاص محبوبين لطيفي المعشر بما يجعل الشك فيهم بعيداً واتهامهم عسيراً على التصديق.
أي أن الضحية في أغلب الحالات تجد نفسها مضطرة للتعايش مع الوضع والاستسلام للوجود في حيز اجتماعي واحد، يفترض أن يكون آمناً، مع مرتكب الجريمة. بل يصل الأمر كما في حالة الفيلم أن يكون من الوارد أن تضحى فتاة واعدة بمستقبلها، فقط لأنه الحل الوحيد للهروب من المأزق.
يقدم لنا "قوارير" خمس حكايات متنوعة، ذكية وصادقة وصادمة أحياناً، أجمل ما فيها أنها تأتي من صانعات أفلام يعرفن جيداً تلك الحياة، خضنها بأنفسهن وجاء الوقت ليشاركنا إياها. متمتعات بانفراج فني وثقافي وحضاري كان حتى وقت قريب يبدو أقرب للوهم منه للحقيقة. الآن، صار من الممكن أن تخرج من السعودية أصوات سينمائية موهوبة وجريئة، تطلق عملًا كل ما فيه يقول بوضوح أن زمن العيش كـ "قوارير" قد ولّى دون رجعة.
*ناقد سينمائي مصري