يقطع مجموعة من المراهقين طول البلاد، من أجل الحصول على قطعة أرض ورثها أحدهم من جدته، بعد أن أخرجتهم منها المليشيات المتناحرة وقت الديكتاتورية العسكرية.
وترغب مجموعة أخرى في رفع علم بلدهم المحتل فوق مدرستهم التي يدرسون في مناهجها التاريخ كما كتبه المنتصر.
بينما تحتل مجموعة من المراهقات منزلاً قديماً ليصنعن منه مساحة خاصة أقرب لدولة صغيرة تخصهن بعيداً عن كل ما يقشر الطفولة عن بشرة أرواحهم، في الوقت الذي تمزق فيه رافعة صماء لحم شجرة بالقرب من أخر المربعات الخضراء التي تملكها أسرة لا تريد سوى أن تقطف ثمار الشجر دون الاضطرار لمغادرة جنتها.
هذه لمحات من حكايات الأفلام التي عُرضت ضمن فعاليات الدورة الـ44 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والتي يبدو أن ثمة خيط معلن وسميك يربط فيما بينها، على الرغم من كونها تنتمي إلى مدراس وأجيال وخلفيات ثقافية وعرقية مختلفة عبر قارات العالم، فهل هذا تأثير الحرب الروسية أم تبعات ما بعد الوباء؟.
سؤال العائلة والأرض
قبل كورونا، ظهرت موجة من الأفلام التي كانت العائلة والعلاقة ما بين الآباء والأبناء، تقوم بدور المسرح الأساسي للسرديات الإنسانية والاجتماعية والسياسية.
وكان تتويج أفلام مثل الكوري Parasite (طفيلي) بجائزة مهرجان كان، ثم الأوسكار، أقرب الدلائل على أن ثمة مظلة ضخمة قرر الجميع بدون اتفاق رسمي أن يصطفوا أسفلها لمراقبة العالم، أو التقاط الأنفاس استعداداً لجولة جديدة من التقلبات الوجودية، حتى جاءت كورونا ومن بعدها الحرب والأزمة الاقتصادية، لتثبت أن حدسهم لم يكن مخطئاً تماماً.
ما هو العالم بالنسبة لشخصيات فيلم قررت أن تقاوم الانتزاع، أو ترفض الخروج، أو تقاتل حرمانها من الاحتفاظ والإرث؟
في الفيلم الايطالي Alcarràs (ألكاراس) الحاصل على جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين في دورته الأخيرة، تمر عائلة المزارعين على هذا السؤال فينشب مخالبه في عظامها، لمجرد أن الأرض التي يزرعوها منذ أجيال لم تسجل، فلا يحق لهم إذن أن يعترضوا على تجريفها من أجل زراعة بطاريات الطاقة الشمسية.
وكأن العالم لم يعد في حاجة إلى ثمرات الفاكهة الضخمة الملونة، التي تتدحرج في مشاهد الفيلم هنا وهناك لأن أزمة الطاقة أهم من طرح الأشجار.
يرتدي الفيلم ثوب الواقعية المشحونة بدلالات مباشرة، يبدأ مع عربة قديمة يلعب مجموعة من أحفاد العائلة بداخلها أنها تمثل خيالهم اللانهائي المبني على تراث عائلتهم، يبدو كتراث قديم متهالك لكنه في الحقيقة أكثر حياة وقوة بحضور الأطفال.
يبدأ الفيلم معهم وينتهي معهم، هم سؤال العائلة والأرض، هل سيكبرون ليصبحوا مزارعين؟، وهل ستظل هناك أرض ليزرعونها، أم أن الحفار الضخم سوف يلتهم ما تبقى منها كم في مشهد النهاية الموتر؟.
كنوز الأرض
تلعب الأشجار والثمار وكنوز الأرض دوراً رئيسياً، في الربط ما بين أفلام هذه التيمة، في الفيلم الهولندي The Woodcutter Story (قصة الحطاب)، المعروض بالمسابقة الدولية، تضيع الملامح الإنسانية لأهل إحدى البلدات، بعد أن يتم بيع الغابة التي يعيشون من وراء أشجارها.
يقول لهم المستثمر، إن زمن صناعة الخشب من الأشجار قد انتهى، نحن هنا في عالم ما بعد الثورة الصناعية، عالم رقمي مؤذي للروح لا سبيل فيه للتوأمة بين ما يصعد من الأرض وما يهدر فوقها من أصوات الماكينات.
لا يعود هناك سوى السُكر وعلاقات الحب المحرم وجرائم القتل، تموت القيم التي هذبتها الحضارة وتنشأ قيم جديدة أقرب للفوضى، خاصة مع الشعور بأنه لا سبيل للدفاع عن الأرض أو حماية الأشجار من أن تظل مصدر دفء العالم.
وفي الفيلم الكندي The Young Arsonists (المنحرفات الصغيرات)، الذي عُرض في مسابقة أسبوع النقاد، تتحول الأرض الواسعة إلى سجن ضيق، فتهرب الفتيات اللواتي يأتيهن الطمث للمرة الأولى بالتزامن، إلى منزل قديم يتخذونه حصناً من كل شياطين الواقع التي تطاردهم، وملاذاً آمناً لأجسادهم التي لا تدري كيف تتهيأ لمواجهة الحياة.
يموت واحداً من أخوات الفتيات أسفل ماكينة الحصاد، فيعتزل الأب الزراعة ويتيبس البيت، وتفقد الأرض اتساعها، تتعمد واحدة من الفتيات أن تشوه وجهها الأخضر بكاوتشوك السيارة التي تسرقها من أباها، كأنها تعلن غضبها من اللون الأخضر الذي لا يطال نفوس أهل البلدة الصغيرة، وأولهم أباها الذي نعلم ضمنياً أنه يعتدي عليها جنسياً.
وتصبح نهاية الأب عقب القتل على يد الفتيات أن يتم حرقه مع البيت القديم، لأن الأزمة ليست في الأرض نفسها ولكن في ساكنيها التي يجب أن تتطهر منهم بالنار.
السكان الأصليين
وفي فيلم EAMI (إيامي) من باراجواي، والذي عُرض ضمن برنامج "العروض الخاصة"، نتابع قصة متكررة في دوامة شعرية من الحكي والشطحات السريالية المختلطة بلقطات وأصوات حقيقية، عن عملية تهجير بعض السكان الأصليين من القبائل الأمازونية على يد الغزاة، ولكن ليس قبل قرن أو اثنين، بل قبل أقل من ثلاثين عاماً فقط 1994.
أجل، لا يزال الرجل الأبيض يطارد السكان الأصليين عبر صفحات التاريخ الحديث، ولا تزال الرغبة المدمرة في التطهير العرقي وتجريف الأرض من أصحابها شهوة ملحة على أصحاب النفوذ، سواء كان بالمال أو السلاح.
تتداخل الأصوات في الفيلم ما بين الرواة كأنهم كلهم راوي واحد، ثمة حكاية عن واحد من الأطفال المصابين في تلك الواقعة، لكنها تأتي كخلفية بعيدة، الغرض منها فقط أن يتم تسهيل الطريق لحضور الشعر، كي يربط على جراح لا تزال تنزف من أجساد تريد فقط أن تُدفن حيث وُلدت.
لقد أصيب "إيامي" الطفل الصغير وقت أن هجم البيض على أرض قبيلته، وعالجه ساحر القرية الذي هرب معه، لكنه رغم كل هذه السنوات لم يكبر، ظل صغيراً لأنه لم يستطع أن يكبر بعيداً عن أرضه.
ربما هي ذاكرته التي تحكي وربما هو خياله الذي يشطح، ولكن ما نعرفه أن أباه ظل هناك حياً لأنه رفض الخروج، أما من خرجوا فقد صاروا في مرتبة الحيوانات لدى من طردهم.
ثمة فيلمين آخرين عن تشبث السكان الأصليين بأرضهم، حكايات تروى على أكتاف المراهقين والأطفال، لأن الذين طُردوا أو قاوموا، جاء أبنائهم وقد وعوا الدرس جيداً، وقرروا أن يعيدوا مد الجذور التي انتزعت من لحم الأرض.
الأولى يرويها الفيلم الكولمبي The Kings of the World (ملوك العالم)، الذي عُرض خارج المسابقة، عن مراهق من مريدي الشوارع يتم استدعائه ليتسلم أرض جدته، التي أكلت خيرها المليشيات المسلحة، والآن عادت بحكم محكمة -سوف نعلم أنه صوري- إلى ملكية عائلته.
يصطحب أصدقائه في رحلة إليها، وحين يصلون إلى الارض يجدون أن هناك من سبقهم لها من المشردين أمثالهم، فدائرة الميليشيات لا تنتهي، والأرض هي أثمن ما يتنازع عليه البشر، والأجيال الجديدة عليها أن تقاتل من أجل أن تجد لها مكاناً، أو أن يظل هناك من يذكر حتى أنها كانت هنا.
مقاومة
هكذا نرى في الفيلم الفلسطيني الفائز بالهرم الذهبي "علم"، يرغب طلاب المدرسة الثانوية من عرب 48، أن يرفعوا علم دولتهم في ذكرى النكبة فوق صاري المدرسة.
يخططون لذلك على اعتبار أنها عملية مقاومة، ثم يفشلون لأسباب تخص هشاشتهم النفسية، يحتاجون إلى ما هو أكثر من استفزازات دروس التاريخ كما يدرسه لهم الصهاينة.
تدريجياً ينضمون إلى مجموعة مقاومة مدنية، يخربون على الإسرائيليين طقوسهم المدنسة لتاريخ الأرض، حيث يذهبون إلى واحدة من الغابات التي يمارس فيها عجائز صهاينة التأمل بالاستماع إلى صوت الأشجار، التي يقول مدربهم أنها تهمس لهم بالعبرية، رغم أنها أشجار عربية.
وفي النهاية يدركون أن رفع العلم فوق صاري المدرسة ليس هو المطلوب، فالمطلوب أن يتحولوا هم أنفسهم إلى الصاري، ويرفعون علم بلدهم حول رقبتهم وفي أيديهم تماماً كما استشهد زميلهم.
وأن عليهم أن يحرقوا الأشجار حتى لا يدعي الإسرائيليين أنها تهمس بالعبرية، وساعتها فقط كما في مشهد النهاية سوف يهطل المطر ليس فقط ليطفئ النار، ولكن ليروي ظمأ الأرض إلى الحرية.
* ناقد سينمائي