جدل حول قائمة أفضل فيلم في تاريخ السينما

time reading iconدقائق القراءة - 9
البلجيكية شانتال أكرمان مخرجة فيلم Jeanne Dielman في مهرجان فينيسيا السينمائي - 2 سبتمبر 2011. - AFP
البلجيكية شانتال أكرمان مخرجة فيلم Jeanne Dielman في مهرجان فينيسيا السينمائي - 2 سبتمبر 2011. - AFP
القاهرة-عصام زكريا*

منذ أيام أعلنت مجلة "Sight & Sound" التي يصدرها معهد الفيلم البريطاني، وتعد من أقدم وأكثر المطبوعات السينمائية في العالم، نتيجة استطلاعها، الذي ينظم كل 10 سنوات بين النقاد، لأفضل 10 أفلام في تاريخ السينما. 

وجاءت نتائج الاستطلاع هذا العام مفاجأة وصادمة وفي أفضل الأحوال مدهشة، إذ احتل صدارة القائمة فيلم عمره يقترب من نصف قرن لا يعرفه الكثيرون، ولمخرجة لا يعرفها الكثيرون، متفوقاً على مئات الأفلام لكبار صانعي السينما عبر التاريخ. 

الفيلم بعنوان "Jeanne Dielman, 23 Commerce Quay, 1080 Brussels" (جين ديلمان، 23 رصيف التجارة، 1080 بروكسيل)، ويُطلق عليه اختصاراً "Jeanne Dielman" فقط، من إخراج وتأليف صانعة الأفلام البلجيكية شانتال إكرمان، التي توفت منذ عدة سنوات.

صحيح أن الفيلم له عشاقه ومريديه، وأن مخرجته واحدة من المجددات الجريئات، لكنه كان دوماً محصوراً ضمن تصنيف الأفلام "الخاصة"، "النخبوية"، التي ينقسم حولها الناس بين معجبين متيمين وكارهين ساخطين. 

هذا الانقلاب في المعايير والأذواق الذي كشف عنه استطلاع المجلة ربما لا يُشكل مفاجأة، بقدر ما يعكس التغيير الثقافي الكبير الذي يشهده العالم منذ بداية القرن الـ21، وبالتحديد خلال العقد الأخير، كما يعكس بالأخص المد النسوي الهائل الذي شهدته صناعة السينما العالمية حديثاً. 

الكم قبل الكيف

شهد الاستطلاع هذا العام توسعاً غير مسبوق، إذ وصل عدد المشاركين فيه إلى 1639 ناقد ومبرمج أفلام وفعاليات ومتخصص في الأرشيف وأكاديمي، بعد أن كان يقتصر على عدد محدد ومميز من النقاد.

وبجانب أن مبرمجي المهرجانات والفعاليات وحافظي الأرشيف ليسوا بالضرورة متذوقين أو نقاد جيدين، فإن العدد الكبير للمصوتين رغم وجهه الديموقراطي، كثيراً ما يؤدي إلى نتائج ذات معايير "متوسطة"، تستبعد الأعمال المثيرة للجدل، وتتأثر بالرأي العام السائد.

ومع ذلك، فزيادة وتنويع أعداد المشاركين أمر له منطقه ووجاهته، وهو ينتشر، كما رأينا في جوائز الأوسكار التي ضاعفت أعداد المصوتين على الجوائز خلال السنوات القليلة الماضية، إذ يرجع ذلك جزئياً إلى الرغبة في مواكبة عصر الـ"سوشيال ميديا" و"يوتيوب" و"تيك توك" وذوبان الحدود بين "النخبوي" و"الشعبي"، واعتماد الكم مقياساً وحيداً للنجاح.

كما يرجع جزئياً إلى حملات "الصوابية السياسية" المتواصلة لتحرير الأحكام النقدية من "عنصريتها" وانحيازها للرجل الأبيض، وزيادة أعداد النساء والملونين والأعراق الأخرى. 

ويتزامن حصول "Jeanne Dielman" على المركز الأول في استطلاع "Sight & Sound" مع الصعود المتزايد للحضور النسوي في صناعة ومؤسسات السينما، وفي المهرجانات الدولية.

ولا شك أن حصول امرأتين على أوسكار أفضل مخرج لعامين متتاليين، وتأثير حركات ثقافية مثل "النصف بالنصف" التي تستهدف تشغيل نصف العاملين في السينما من النساء، وحركة "أنا أيضاً" التي تسعى لاسترداد كرامة النساء في أماكن العمل، بجانب ظواهر نسوية عديدة أخرى، كلها ساهمت في حشد عدد كبير من أصحاب الأصوات في الاستطلاع لاختيار فيلم نسائي - نسوي. 

ترحيب وغضب 

اختيار "Jeanne Dielman" أثار موجة واسعة من ردود الفعل تتراوح بين الترحيب والاستياء، ومن الذين أعربوا عن استنكارهم بعد ساعات من إعلان النتائج المخرج وكاتب السيناريو بول شريدر الذي كتب أكثر من "تغريدة" قال فيها: "لعقود كان استطلاع "Sight & Sound"، أداة يعتمد عليها، إن لم تكن مثالية لقياس إجماع وأولويات النقاد، كانت الأفلام تتحرك صعوداً أو هبوطاً في القائمة، ولكن ذلك كان يستغرق وقتاً. أما الظهور المفاجئ لفيلم "Jeanne Dielman" في المركز الأول فيهدم مصداقية استطلاع Sight & Sound". 


وأضاف "يبدو كما لو أن هناك شخص ما وضع بصمته على الميزان، وهو ما حدث في ظني، وكما قال توم ستوبارد في صحيفة (جامبرز)، في الديموقراطية لا يهم من الذي أدلى بصوته، ولكن الأهم هو من يعد الأصوات، إن التوسع في أعداد المشاركين واعتماد أسلوب النقاط في استطلاع هذا العام يعكسان ليس فقط السياق التاريخي ولكن أيضاً تمدد الصوابية السياسية، فيلم شانتال إكرمان من أعمالي المفضلة، إنه فيلم عظيم وفارق، ولكن حصوله المفاجئ على المركز الأول ليس أمراً في صالحه، وسوف يذكر "Jeanne Dielman" من الآن فصاعد ليس فقط كعمل مهم في تاريخ السينما، ولكن كنموذج لصحوة رد اعتبار مختلة". 

تحفة فنية.. ولكن 

كما أشار بول شريدر، فإن الدهشة من نتيجة الاستطلاع لا تعني بالطبع أن فيلم "Jeanne Dielman" ليس جيداً كفاية، فهو أحد روائع السينما، وعمل رائد ترك بصمة وتأثيراً على أجيال، ولكن السؤال هل هو فعلاً أعظم فيلم في تاريخ السينما؟ ولو كان كذلك، لماذا لم ينتبه له النقاد المشاركون في الاستطلاع على مدار العقود الـ4 الماضية؟.

أقل ما يوصف به فيلم "Jeanne Dielman" هو أنه "غير تقليدي" على كل المستويات، ولمن لم يُشاهده يكفي أن يعرف أن مدته تصل إلى 200 دقيقة، وتدور أحداثه حول 3 أيام من حياة أرملة اسمها "جان" متوسطة الحال تعيش مع ابنها الوحيد الطالب بالثانوي، تقضي يومها في شئون المنزل من طبخ وتنظيف وإصلاح، وتستقبل كل يوم من أيام الأسبوع رجلاً يقضي معها بعض الوقت مقابل قليل من المال الذي تعيش عليه.

وهو روتين لا يتغير كما هو واضح، غير أن مزاج "جان" يتغير تدريجياً في اليوم الثاني، فتكتسي ملامحها بالحزن والاكتئاب، ما يدفعها منتصف اليوم الثالث إلى ارتكاب فعل لا يمكن تصوره. 

ترصد الكاميرا ببطء شديد تفاصيل الحياة المنزلية في زمنها الواقعي (بمعنى أن إعداد الطعام وتناوله وغسيل الأطباق مثلاً نراه كما هو دون تكثيف أو اختصار، كما لو أن السينما فقدت عنصر المونتاج)، كما أن الكاميرا دائماً ثابتة لا تتحرك طوال المشهد، وتقريباً لا يوجد حوار (باستثناء كلمات قليلة تؤكد تكرار ورتابة الحياة اليومية، أو حوار من جانب واحد للابن وجارتهم، لا تتفاعل معه "جان" إلا بكلمات باردة محايدة. 

ويعتمد الفيلم على زوايا التصوير والإضاءة لخلق حالة الحصار والسجن النفسي والمادي الذي تعيش فيه "جان"، غير قادرة على مغادرته أو التمرد عليه، تبدو راضية ومستسلمة لمصيرها تماماً، لكن كل من "جان" والفيلم يحملان تحت السطح براكين من الغضب والرعب ينفجران دون مقدمات في نهاية المطاف. 

الاختيار.. بين المخرجين والنقاد 

بالعودة إلى تاريخ استطلاعات "Sight & Sound"، فقد عُقد الاستطلاع لأول مرة عام 1952، وجاء فيلم Bicycle Thieves (سارق الدراجة) للمخرج الإيطالي فيسكونتي في المركز الأول، وبعد النجاح الكبير الذي حققه الاستطلاع، قررت هيئة تحرير المجلة أن تُعيد إجراءه كل 10 سنوات.

وجاء فيلم Citizen Kane (المواطن كين) للأميركي أورسون ويلز في المركز الأول في 5 استطلاعات متتالية: 1962، 1972، 1982، 1992، 2002، ولكن في استطلاع 2012 حدثت مفاجأة بصعود فيلم Vertigo (الدوار) للبريطاني ألفريد هيتشكوك إلى المركز الأول. 

أما استطلاع 2022، فقد جاء Vertigo في المركز الثاني، أعقبه كلّ من Citizen Kane (المواطن كين)، وTokyo Story (قصة طوكيو) للياباني ياسيشيرو أوزو، وIn the Mood for Love (في مزاج الحب) للكوري وونج كار- واي، و 2001: A Space Odyssey (أوديسا الفضاء 2001) لستانلي كوبريك، وGood Job (عمل جيد) للفرنسية كلير دوني، و Mulholland Drive (طريق مولهولاند) لديفيد لينش، و Man with a Movie Camera (رجل يحمل كاميرا) لدزيجا فيرتوف (وهو العمل الوثائقي الوحيد في القائمة)، ثم Singin' in the Rain (الغناء في المطر) إخراج جين كيلي وستانلي دونين (وهو الفيلم الشعبي الوحيد في القائمة). 

جدير بالذكر أيضاً أن "Sight & Sound" بدأت منذ عقدين إجراء استطلاع موازٍ لاستطلاع النقاد يشارك فيه مخرجين متميزين من بلاد عدة، وهذا العام شارك 480 مخرجاً، جاءت نتائج استطلاعهم مختلفة إلى حد كبير، إذ احتل فيلم 2001: A Space Odyssey المركز الأول، أعقبه  Citizen Kane وتلاهما The Godfather (العراب) لفرانسيس كوبولا، بينما جاء Jeanne Dielman في المركز الرابع والخامس متساوياً مع Tokyo Story، يليهم Vertigo لهيتشكوك، و ½8 (ثمانية ونصف) لفلليني، و Mirror (مرآة) لتاركوفسكي، وPersona لبيرجمان، وIn the Mood for Love لونج كار- واي، و Close-Up (لقطة مقربة) للإيراني عباس كياروستامي.  

هذه القوائم لا تعني بالطبع أنها أحكام مطلقة، وكل مُشاهد يمكن أن يتفق أو يختلف على الأفلام المختارة، وفي الفن لا يوجد معيار علمي ثابت، ولكن بالنسبة لأي محب للسينما، فهذه على الأقل أفلام يجب أن يشاهدها بتركيز، ولو لمرة واحدة في حياته. 

* ناقد فني

تصنيفات