في نهاية الفيلم الإيطالي الرائع An Endless Sunday (يوم أحد أبدي) للمخرج الشاب آلان باروني، الحائز على جائزة "الفيبريسي" من النقاد الدوليين، بمسابقة آفاق في الدورة 80 لمهرجان فينيسيا، يقف واحد من المراهقين الثلاثة أبطال العمل في وسط شوارع روما المختنقة بزحام جحيمي، ويصرخ طالباً أن يمد أحدهم إليه يده، لكي يعاون صديقته الصغيرة التي تعاني في السيارة من آلام الوضع المبكر (أرجوكم.. عمري 16 عاماً فقط وأحتاج إلى المساعدة).
يبدو هذا النداء اليائس المفعم بالشجن النوعي والخاص بالمرحلة العمرية التي يعيشها الفتى، يبدو أقرب لعباءة مجاز واسعة يمكن أن تضم معظم الأفلام المشاركة في مسابقة آفاق خلال هذه الدورة، ثمة أكثر من 20 فيلماً ضمن المسابقة يمكن أن نستمع فيها لهذه الكلمات، سواء عبر اللغة المنطوقة أو النظرات المعذبة أو الصمت المشتعل بالكبت والغضب الساطع.
أبناء المدينة
في تجارب مثل الإيطالي An Endless Sunday، والسويدي Paradise in Fire (الجنة تحترق)، والمنغولي City of wind (مدينة الرياح)، ثمة عنصر شبه أساسي مشترك بين مراهقو هذه التجارب، أن خلفياتهم الأسرية مبهمة وغير واضحة أو مرتبة بصورة دقيقة، فنحن لا نعلم مثلا أين ذويهم أو أسرهم، أو من أين أتوا، أو لماذا تبدو الصلة منقطعة مع أبويهم؟.
في An Endless Sunday يبدأ الفيلم بالاحتفال بعيد ميلاد واحد من الشلة المكونة من مراهقين وفتاة، كأنها لحظة ميلادهم جميعاً، يتجولون في سيارة أحدهم بسرعة خارقة كأنهم يريدون أن يسبقوا الزمن الساكن الذي يعيشونه، ويضرموا الاضطراب في المدينة التي تلفظهم بينما تستقبل آلاف السواح/ الغرباء كل يوم.
وباستثناء جدة الفتاة (رمز ما تبقى من الأهل أو المدينة أو المجتمع) التي ترعى حملها من صديقها، أو من كلا الصديقين حيث يتفرق دم الطفل بينهم، فلا أثر لأي من ذوي المراهقين الأخرين، بل أن ثلاثتهم يقيمون في منزل الجدة الذي يقع خارج حدود مدينة روما، كأنه هامش بعيد يؤكد اغترابهم المكتمل.
وفي السويدي Paradise is burning يبدأ الفيلم باختفاء الأم الشابة ومحاولات الفتيات الثلاث أن يتعايشوا مع كونها لم تعد موجودة، فيرسمون الخطط للحصول على الطعام خلسة من السوبر ماركت، ويتركون أنفسهم للمرح واللعب احتفاءً بكونهم أحرار من أي سيطرة، لكن المجتمع الذي لا يمكن أن يترك طفلة ومراهقتين دون عائل أو مربي يسعى لأن يستعيدهم ضمن سياقاته المضبطة، ومن هنا تبدأ رحلة بحث أكبرهم، عن بديلة تمثل دور الأم أثناء زيارة الشئون الاجتماعية للمدينة، دون أن تدري البدائل أكثر قسوة من الأصل، وأقل صلابة من أن تحتمل علاقة طبيعية كعلاقة الابنة بأمها.
أما في المنغولي City of wind فثمة وجود مادي محسوس للأهل، حيث يراعون المراهق الذي من المفترض أن روحاً مقدسة تلبسه، بجانب كونه طالب متفوق فإن عمله الأساسي هو استدعاء الروح عبر طقس تراثي يرتدي فيه من الملابس الغريبة، ويضرب على طبلة من جلد الحيوانات، لكي يشير على زبائنه بما يحتاجونه من تطمينات غيبية أو استشارات روحانية.
ورغم ذلك ثمة شعور يتأصل عند الفتي وينتقل إلينا، بأنه وحيد تماماً في مواجهة الحب ورغبات الجسد وأصوات الغواية، حتى أن المدينة نفسها تتلاشى من حوله، كأنها صارت مدينة من رياح شفافة عابرة، كما يبدو من عنوان الفيلم، وهو ما يجعله فريسة سهلة لقصة رومانتيكية تبدأ بخشونة وتمر بنعومة الفخ، خاصة فيما يخص العلاقة الجسدية التي تفسد عليه روحانيته، ثم تنتهي بأن يدرك أن فهم العالم يحتاج إلى ما هو أكثر من تجلي أي روح مقدسة في جسده، بل أن هذا الجسد عليه أن يتدرب على خوض الحروب المادية والأثيرية المختلفة كي يفك شفرة الحياة، صحيح أن الروحانية مطلوبة لكن الجسد هو أساس الحركة في الوجود من حولنا.
حوض السباحة
من أكثر التفصيلات التي تتكرر في العديد من أفلام مسابقة آفاق، هو مشهد تسلل أو اقتحام المراهقين إلى البيوت الكبيرة، الزخمة بالتفاصيل المادية الثمينة، والنزول إلى حوض السباحة في احتفاء طبيعي بالأجساد والمرح والشباب القادم إلى الحياة.
مشهد التسلل والسباحة وشرب الخمور والتحرر من أي عقد اجتماعي، هو مجاز لثورية الجيل الجديد ورغبته في التحلل من أي قيود، خاصة في مرحلة التكوين، قبل أن ينجح المجتمع في صياغتهم كأرقام وألقاب وقوالب.
في الفيلم المجري Explanation for every thing (تفسير كل شيء)، وفي السويدي Paradise is burning، يتكرر مشهد التسلل إلى حمام السباحة والتجول داخل البيوت التي يكاد يوقن المراهقون أبطال الأفلام أنهم لن يمتلكوا مثلها ذات يوم، ليس فقط لأن ذويهم منقطعي الصلة مع هذا القدر من الغنى الفاحش أو البراق، ولكن لأن واقعهم لا يحمل أي مؤشرات من ناحية التعليم، أو العمل أو الثقافة أو الفرص، والتي يمكن أن تحقق حلمهم بمثل هذا المنزل ذات يوم.
نحن إذن أمام أكثر من مجاز تدعمه المشاهد المتكررة في أفلام المسابقة هذا العام، أولها أن المنازل الفخمة التي يقتحمونها هي رمز الحلم المستحيل سواء مادياً أو معنوياً، ثانياً أن حوض السباحة الذي تتكرر مشاهد المرح والغوص والطفو فيه هو مجاز أخر لفكرة التحرر والطيران، فالطفو فوق الماء هو أقرب لوضع الطيران مع اختلاف الوسيط البيئي وتماثل الأداء الجسدي، وما بين الاستحالة والتحرر أو اليأس والتوق للخروج والانفلات يتحرك أبطالنا الصغار، دون أن يكون ثمة جواب على السؤال الوجودي الذي لم يختاروا أن يُلقى عليهم (هل نحن مرحب بنا في هذا العالم؟).
واقع مهتز
في تجارب تتحدث عن المراهقين وتندرج تحت نوعية البلوغ أو أفلام النضج واكتشاف الحياة، من الصعب ان نتصور أن تظل الكاميرا ثابتة أو مفعمة بالسكون الدافع للتأمل والتفصيل، ولهذا يبدو من البديهي أو المنطقي أن تصاحب الكاميرا حركة المراهقين وهم يتقافزون هنا وهناك، بين أماكن ترفضهم ومواقع يحتلونها بصخبهم وكهوف نفسية معتمة يتخبطون في ظلمتها وظلالها المراوغة.
العديد من أفلام مسابقة آفاق تعتمد هذا العام على الكاميرا المحمولة المرتجلة، التي تبدو عشوائية الحركة بحكم عشوائية العنصر البشري الذي تتابعه، كاميرا مُنهكة تلاحق في تعب أجساد مفعمة بالطاقة التي تبحث عن مكان لها تحت شمس الواقع أو المدينة أو الحياة.
هكذا لا يبدو مستغرباً في الفيلم الإيطاليAn Endless Sunday أن تصبح الكاميرا أقرب لمراهق رابع يتجول بنفس عبثية وشقاوة المراهقون الثلاث، مراهق صامت بعينين تحاولان رصد ما يفعله أصدقائه لكي يحكي لنا عن أثارهم التي يحاولون أن يتركوها فوق جسد الواقع.
ويمكن أن ندرك هذا لو ركزنا على مجموعة مشاهد المراهق الذي سبق وأن اشرنا له في بداية حديثنا، والذي وقف ليصرخ طالبا المساعدة، هذا الفتى تحديداً هو أكثر الثلاثة فوضوية وعبثاً وتدميراً، لا يترك شيئا قائماً إلا اتلفه، ولا نظيفاً إلا افسده، يحمل مطواة لا عمل لها سوى خدش جلد المكان الذي يتواجد فيه، في محاولة لترك الأثر كما سبق وأشرنا، بل إن تمرده يصل إلى حد أن يشكك صديقه في أن حبيبته ربما تحمل في طفل ليس من نطفته، وهو شك في محله لو أننا اعتبرنا كلا الفتيان وجهان لعملة واحدة، وبالتالي يمكن تقبل أن صديقتهم تحمل في رحمها الجديد ابنهما.
لكنه وقت المواجهة الحقيقة، يجد نفسه يرتد إلى عمره الحقيقي أو ربما إلى الطفل الذي لا يغادره بعد، والذي يحتاج مثل كل طفل إلى المساعدة لكي تطول يده كف العالم، من أجل أن يتشبث به في رحلته، تزلزله معطيات الواقع المهتز الذي لا يمنح الكاميرا فرصة للثبات أو التقاط الأنفاس.
إن مجموعة الأفلام التي عرضتها مسابقة آفاق بمهرجان فينيسيا الـ80 هذا العام لهي أقرب لدراسة حالة معمقة وشيقة ومهمة لأحوال الأجيال الجديدة، والتي تبدو في هذه اللحظة التاريخية بكل سياقها المضطربة، أجيالاً غير مرحب بها، وكأن الحياة توشك أن تنتهي، وكأن الأجيال الحالية سوف تستمر في صياغة العالم على شاكلتها الذهنية والسياسية والإنسانية إلى الأبد.
* ناقد فني
اقرأ أيضاً: