علاء الدين كوكش.. رحيل درامي لـ"مخرج البسطاء"

time reading iconدقائق القراءة - 6
المخرج علاء الدين كوكش - وكالة الأنباء السورية
المخرج علاء الدين كوكش - وكالة الأنباء السورية
بيروت-رنا نجار

حزن عميق خلفه رحيل المخرج السوري علاء الدين كوكش وسط الساحة الفنية والثقافية السورية، ضاعفه استحضار المشهد الدرامي الواقعي الذي عاشه في آخر أيامه رجل يوصف بشيخ المخرجين، ومؤسس تيار الدراما الشعبية. 

في رثائه يتذكر من عرفوه وتابعوا مسيرته كيف قضى الراحل سنواته الأخيرة في عزلة، وحيداً في غرفة بدار للمسنين، بعيداً عن زوجته وأبنائه الذين اضطروا لترك البلاد جراء الحرب الدائرة، خصوصاً بعد سجن ابنته الممثلة سمر لخمس سنوات.

ورغم الجدل الذي أثاره الراحل في محطات كثيرة من حياته، اشتكى فيها التضييق والرقابة، إلا أن أهل الفن والثقافة بمختلف أطيافهم، بما فيهم المقربون من الحكومة والمناوئون لها، نعوا صاحب "أبو كامل" و"رجال العزّ" و"أهل الراية" الذي كان أحد أعمدة التلفزيون السوري في ستينيات القرن الماضي.

نصوص مميزة

كان كوكش مثقفاً بالمعنى السارتري (نسبة إلى الفيلسوف والكاتب المسرحي جان بول سارتر). فقد عرف بتقاطعه مع سارتر في ثقافته الواسعة التي ورثها عن أبيه، الذي يُحكى أنه كان يملك مكتبة ضخمة وكان قارئاً نهماً. 

درس كوكش الفلسفة متماهياً مع معلّمه، قبل أن يمتهن الإخراج والتمثيل، ويعمل في التلفزيون السوري منذ افتتاحه عام 1960، وقبل أن يسافر الى ألمانيا الديموقراطية في عام 1966. فعاد حاملاً رسالة "تحرير الدراما العربية من النخبوية والثراء الفاحش في المشاهد، خصوصاً في المسلسلات المصرية الرائجة في الستينيات، حيث كانت غالبية المسلسلات تصوّر في القصور والفلل الفخمة ويظهر العزّ على أبطالها"، وذلك كما يقول صديقه المخرج السوري مأمون البني.

يلاحظ الناظر بتمعن في مسلسلات كوكش أنه كان صاحب ذوق أدبي رفيع، إذ يختار نصوصاً لكتّاب مميزين، مثل سعدالله ونوس الذي أخرج له مسرحياً "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" و"فيل يا ملك الزمان" وغيرها من قصصه الشعبية، فضلاً عن صدقي إسماعيل الذي حوّل روايته "الله والفقر" إلى مسلسله البديع والاستثنائي "الورّاق"، إضافة إلى الأديب عادل أبو شنب الذي كتب مسلسل "حارة القصر" وهو من أبرز أعماله. 

نجومية الفقراء

أسّس كوكش تياراً درامياً فريداً، ويعتبر من كلاسيكيات المسلسلات في بلاد الشام، من حيث انحيازها للفقراء والحارات الدمشقية العتيقة والشوارع الضيّقة وحميمية البيوت القديمة التي تتوسطها بحرة (بركة مياه) وتدخلها الشمس من كل حدب وصوب. فكانت الشام القديمة ملعبه والاستوديو الخاص بأعماله، وقصصها الشعبية وبساطة العيش فيها وآلام الناس اليومية زاده في الدراما وفي مجموعته القصصية "إنهم ينتظرون موتك" وفي روايته "التخوم". فقد بنى علاقة قوية مع المكان في أعماله وفي حياته اليومية. 

يؤكد مأمون البني أن البيئة الشامية كانت "بطلة أعمال كوكش في الإخراج، كما في النص الذي كان يتدخّل فيه ويقدم فيه رأيه بكل موضوعية"، ويضيف: "رسم كوكش مع مجموعة من أبناء جيله مثل سليم قطايا وغسان جبري ورياض دياربكرلي وغيرهم، صورة الدراما السورية الحقيقية الأقرب إلى الواقع، حملت همّ الفقراء في ستينيات القرن العشرين، وكانت أعمالاً جماهيرية بامتياز، إذ صار الفقراء وعامة الناس بأزيائهم البسيطة وحواراتهم الشعبية نجوم الشاشة". 

"صراع الرقابة"

المخرج السوري مأمون البني، الذي درس في باريس يعتبر كوكش أستاذاً "فتح الباب لكثير من المخرجين الذين درّبهم، ولكثير من الأكاديميين السوريين مثلي"، مؤكداً أنه كان "مدرسة لجيل كبير من المخرجين". وقد كان كوكش من أوائل من قدم أعمالاً عربية مشتركة في دبي وعجمان شارك فيها ممثلون من مختلف الجنسيات العربية، بحسب البني.

عُرف كوكش بمعارضته الشرسة للرقابة على الفن. كان يعتبر أن "الفن له دور بنّاء في نقد الظواهر السلبية في المجتمع والحياة، وإذا سلبناه هذا الدور لم تبق له أي قيمة أو رسالة"، كما صرّح لمجلة سيّدتي في العام 2014 بعدما قصّت أجهزة الرقابة أهم مشاهد مسلسله الأخير "القربان" التي تناولت  قضايا الحرية وانتقاد القضاء السوري وممارسات حزب البعث، فشوّهته وأفرغته من مضمونه السياسي تقريباً.

وفي العام 1968 عندما أخرج مسرحية "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" التي كتبها سعدالله ونوس، أوقفت أجهزة الرقابة المسرحية التي تناولت أثر هزيمة حزيران على الشارع العربي. 

وكان الراحل قد صرح للمجلة نفسها: "مشكلتي قديمة جدّاً مع الرّقابة، وللأسف الرّقابة على الأعمال الفنيّة موجودة في كل زمان ومكان، الرّقيب يجب أن يكون ذوّاقاً ذا ثقافة عالية وصدر رحب يستوعب النّقد، ولكن القائمين على أجهزة الرقابة في سوريا "شرطة أكثر من كونهم أدباء ومثقفين".

عزلة فرضها الواقع 

"ومنذ ذلك الحين انكفأ كوكش بتاتاً عن العمل في الدراما لأسباب عدّة، منها الرقابية ومنها تقدمه بالعمر ومنها تراجع مستوى شركات الإنتاج السورية التي أصبحت أهدافها تجارية" كما يقول البني، مؤكداً أن اعتزال كوكش "لم يكن قراراً شخصياً بل فرضه الواقع السياسي والمهني الهزيل".

وأضاف البني: "انعزل كوكش كلياً ولم يخض أحاديث في السياسة بعد ذلك، مع أنه أسرّ لي عندما التقينا في بداية الثورة أنه لطالما كان مع الفقراء والمظلومين وحرية التعبير وأيّد الانتفاضة في صمت، فاعتقال ابنته أدماه وعطّل كل شيء في حياته". 

رفض كوكش مغادرة البلاد، بعدما قررت زوجته وأبناؤه الرحيل، إذ كان يقول "لا يمكنني العيش بعيداً عن الشام وبيتي وكتبي ولا أريد الموت خارج هذه البيئة"، كما يحكي صديقه البني، الذي يكشف أن المخرج الراحل استأجر في آخر سنوات حياته غرفة صغيرة في دار للمسنين مع اثنين من أصدقائه هما المخرج رياض ديار بكرلي والرسام ممتاز البحرة، وعندما توفيا قبل نحو سنة دخل كوكش في اكتئاب وانقطعت أخباره، إلى أن رحل في صمت.