مذكرات نادية لطفي (10): انهارت السينما المصرية بعد انفتاح السادات.. فانسحبت 

time reading iconدقائق القراءة - 14
الفنانة المصرية نادية لطفي - الشرق
الفنانة المصرية نادية لطفي - الشرق
القاهرة-أيمن الحكيم

في الحلقة العاشرة والأخيرة، تنشر "الشرق" مذكرات الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937 - 2020)، والتي اختارت الكاتب الصحافي أيمن الحكيم، لكتابتها قبل نحو 18 سنة.

وعلى امتداد هذه السنوات الطويلة، تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت، وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى، قبل 5 سنوات.

وبحكم تلك العلاقة، تجمعت لدى الحكيم عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها، وهو ما يُعدّ شهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.

المذكرات التي نشرتها "الشرق" في حلقات متتالية حصرياً، تأتي مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى.

ويكتب الحكيم تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها، وفيما يلي نص الحلقة الأخيرة، التي تحدثت فيها نادية لطفي عن ظروف انسحابها من الوسط الفني.. ورؤيتها لوضع السينما في فترة الثمانينات والتسعينات، وتجاربها الأخيرة التي قدمت فيها مخرجين كباراً للسينما المصرية.

 

وعي فني

أعظم ما قدّمته لي السينما لم يكن الشهرة، وإنما علمتني أن أقول "لا"، وأن يكون لي موقف ووجهة نظر ولا أفعل سوى ما أقتنع به وأوقن أنه الصواب، علمتني أن الفن ليس وظيفة، وأن الفنان ليس موظفاً مطلوباً منه أن يستيقظ من نومه ليذهب إلى الاستوديو، وأنه ليس "فواعلي" عليه أن يسعى إلى "أكل عيشه" وتحصيل رزقه ليبقى على قيد الحياة. علمتني كيف تربح نفسك حتى لو خسرت العالم.

هذا الوعي لم يُولد عندي فجأة ولا صدفة، بل جاء بتراكم الخبرة وسنوات التجربة، فأدركت أن الفن اختيار، وأن عليّ أن أختار القيمة وليس المكسب، أختار ما يضيف إلى رصيدي الأدبي وليس رصيدي في البنوك، والوصول إلى هذه القناعة كان أمراً شاقاً وصعباً وممتعاً في النهاية.

تجارب جديدة

في مرحلة الاختيار، كنت أبحث عن التجارب الجديدة الطازجة، والشخصيات التي تستفز موهبتي، والأفلام المختلفة والمدهشة، بعيداً عن الربح التجاري وشباك التذاكر والحسابات الضيقة، ولو مع شبان جدد لديهم الموهبة الحقيقية والطموح الجارف و"الجنون الفني".

ولم أندم قط أنني خُضت مغامرات سينمائية لم يُكتب لها النجاح التجاري، لكنها كانت سبباً في تدشين أسماء لمخرجين جدد، لم أتردد لحظة في أن أكون بطلة أفلامهم الأولى وأحلامهم المجنونة.

 

جاءني مثلاً يوسف فرنسيس، يحمل سيناريو فيلم "زهور برية"، كنت أعرفه كرسام وكفنان تشكيلي، ولم يكن له سابق تجربة في الإخراج السينمائي، وحكى لي عن قصته، وعن تصميمه على أن يُجري التصوير في أماكن جديدة على عين المشاهد، وأنه اختار أماكن طبيعية في منطقة مطروح، ولمحت الموهبة في عينيه والصدق في نبراته، فلم أتردد في الموافقة، (عرض الفيلم في شتاء 1973 وشاركني بطولته حسين فهمي ومشيرة إسماعيل).

وجاءني مثلاً المخرج الشاب هشام أبو النصر بفيلم "الأقمر"، كان هشام وقتها قد عاد للتو إلى القاهرة بعدما حصل على درجة الدكتوراه في الإخراج السينمائي من أكبر المعاهد الأميركية، لكنه قوبل بحالة عداءٍ غريبة بدعوى أنه "خواجة" ولن يستطيع إخراج فيلم تدور أحداثه في حارة شعبية، وكان السيناريو مأخوذاً عن قصة لإسماعيل ولي الدين أحد أبرز الروائيين الذين كتبوا بصدق، وعن تجربة، عن الحارة المصرية.

شعرت بالتعاطف مع هذا المخرج الجديد في أولى خطواته السينمائية، كما شعرت بأن الدور يستفزني كممثلة، وعليّ أن أثبت فيه أنني كذلك لست "خواجاية" وقادرة على أداء شخصية بنت البلد، (عُرض الفيلم في شتاء عام 1978 وشاركني بطولته نور الشريف ومحيي إسماعيل وصلاح منصور).

وجاءني مثلاً المخرج الشاب خيري بشارة، يحمل سيناريو "الأقدار الدامية" المأخوذ عن مسرحية يوجين أونيل الشهيرة "الحداد يليق بالكترا"، ولمست في خيري بشارة موهبة واعدة ورؤية مختلفة، فوافقت بلا تردد، ورغم أنّ الفيلم لم يحقق النجاح الجماهيري المتوقع فإنني لم أندم قط على أنني قدمت إلى السينما مخرجاً اسمه خيري بشارة (عُرض الفيلم في صيف عام 1982 وشاركني بطولته يحيى شاهين وأحمد زكي).

ولا أريد أن أقف طويلاً عند تجربتي مع شادي عبد السلام في "المومياء"، وحماسي لفيلمه، ودوري في خروجه للنور، ويقيني بأنه سيكون من علامات السينما رغم الهجوم العنيف الذي قوبل به في بداية عرضه، إلى أن أصبح من الأيقونات في تاريخ السينما العالمية كلها.

قُمت ببطولة "المومياء" مجاناً ولم أتقاضَ عليه أجراً، وفي مرحلة "الاختيار" كنت أبحث عن التجارب التي تدخل "مزاجي" أولاً ولا تشغلني الفلوس رغم حاجتي إليها، فالفن هو مصدر رزقي الوحيد.

 

اعتذار لـ"فريد شوقي"

وحدث أن عرض عليّ صديقي العزيز وزميل العمر فريد شوقي فيلمين من إنتاجه، وعلى ما أتذكر كان عنوانهما "حكمت المحكمة" و"أمي دفعت الثمن"، ووافقت مبدئياً ثقة في اسم فريد شوقي وطلبت منه أن يرسل لي السيناريو، فلماً قرأته لم أجد ما يستفزني كممثلة وأرسلت إليه اعتذاراً رقيقاً، لكنه ظن أن الأجر الذي عرضه عليّ لم يُعجبني وأنني أطمع في زيادته، فأرسل إليّ عبر صديق مشترك موافقته على أن يعطيني الأجر الذي أحدده أنا، وأفصحت للصديق عن سبب رفضي بأن "الورق" لا يعجبني، وأنني لن أمثل والسلام، ولأنه كان يعرف ظروفي سألني: "لكن أنتِ كده (هتموتي) من الجوع"، وبلا تردد قلت: "ربنا يرزق الطير في السماء".

وبعد فيلمي رقم 70 "الأب الشرعي" مع محمود ياسين وشكري سرحان، من إخراج ناجي أنجلو في عام 1987، وجدت نفسي أنسحب من الساحة احتراماً لتاريخي ومحافظة على رصيدي.

الهجرة إلى بيروت

والحق أنني لم أعتزل، فالفن بالنسبة لي يعني الحياة، والسينما عندي تعني الجمال والسمو والإنسانية، ولا يمكنني أن أعتزل الحياة أو أتنازل عن الجمال والسمو والإنسانية، فقط أجبرتني "سينما البوتيك" على الانسحاب، وحتى تفهم ما أقصده فإن عليّ أن أشرح ببعض التفصيل ما جرى للسينما في مصر.

بدأت السينما عندنا "فردية"، بمعنى أنها اعتمدت على جهود الأفراد أو القطاع الخاص، فظهرت شركات إنتاج لها اسمها وثقلها ودورها مثل "دولار فيلم"، و"الشرق"، و"العهد الجديد"، و"مصر الجديدة" و"جبور"، وبرزت أسماء منتجين كبار في وزن رمسيس نجيب وحلمي رفلة وآسيا، كما تنافس كبار النجوم في الإنتاج، فكانت لدينا أفلام فريد الأطرش، ومحمد فوزي وأنور وجدي.

واستمر الحال هكذا حتى جاءت ثورة يوليو 1952، وكان تأثيرها سريعاً وقوياً وشاملاً وامتد إلى كل المجالات والنواحي وبينها السينما بالطبع، إدراكاً من النظام الجديد لدور السينما كأداة مهمة في التأثير والتغيير، فكان الاتجاه إلى تأميمها لتكون الدولة هي جهة الإنتاج الأهم والأقوى والمسيطرة على سوق السينما، فظهرت "مؤسسة السينما" شركة الإنتاج الحكومية التي أصبحت لها اليد الطولى، وكانت الدولة من الذكاء أن حاولت استيعاب أصحاب الخبرات من صُنّاع السينما الخاصة، فأصبح واحداً مثل حلمي رفلة من بين مسؤولي المؤسسة الجديدة.

وللإنصاف، فإن الدولة من خلال "مأسستها" للسينما تحمست لإنتاج أعمال جادة ما كان لتتحمس لها شركات إنتاج خاصة يهمها الربح التجاري، ويمكنني أن أضرب عشرات الأمثلة، ولكني أختار منها على سبيل المثال: "شيء من الخوف، والأرض والمومياء". ولا أنكر أيضاً أن الفساد الحكومي تسرب إلى المؤسسة، فضربتها المجاملات، وأنتجت أفلاماً أقل ما توصف به أنها بلا قيمة.

وجاءت نكسة 1967، لتضرب كل شيء في مصر، وبالطبع امتد تأثيرها إلى السينما، فتراجعت عجلة الإنتاج بشدة وتقلصت الميزانيات واضطر أغلب النجوم للهجرة إلى بيروت بحثاً عن فرصة، واضطر بعضهم للمشاركة في أعمال أساءت إلى تاريخهم أو قل لم تكن تليق بمكانتهم، فقد وصلت جرعات الجنس والعري والهزل في أفلام تلك الفترة إلى مستويات غير مسبوقة، وكأنها كانت "مخدراً" للجمهور لينسى بها مرارة الهزيمة وعلقم الواقع. 

 

وبعد سنوات من التخبط وعدم الاستقرار جاء نصر أكتوبر، واستردت مصر كرامتها وأرضها وروحها، وكان الأمل قوياً في أن تسترد السينما عافيتها وأن تعود لسابق عهدها، وفعلاً بدأ مؤشر الإنتاج يرتفع وعادت الطيور المهاجرة وحشدت الدولة إمكاناتها لإنتاج أفلام عن النصر، وعاد الجمهور إلى دور العرض من جديد، وبدأ التفاؤل يعود والانتعاش يتجدد، ولكننا فوجئنا بأن تلك الشعلة التي توهجت بالأمل في نفوسنا بعد الحرب سرعان ما انطفأت، ودخلت السينما في دوامة من الهبوط والتردي والسقوط وخيبة الأمل.

ومثلما كانت مصر على موعد مع عهد جديد وزمن مختلف اشتهر باسم الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات، فإن السينما كانت هي الأخرى مع مرحلة جديدة كان الانفتاح هو عنوانها وشعارها، حيث كل شيء قابل للتجارة والمساومة والتنازل.

تجلى ذلك في أن رفعت الدولة يدها عن الإنتاج وأغلقت مؤسسة السينما، ودخلت إلى سوق الإنتاج والتوزيع جهات وشخصيات هم أقرب إلى "السماسرة"، لا فرق عندهم بين صناعة السينما وصناعة "مكسبات الطعم"، فالمهم هو الربح المادي أولاً وأخيراً، وظهر جيل جديد من جمهور السينما، من تلك الطبقات التي طفت إلى السطح في زمن الانفتاح، جمهور يمتلك المال ويفتقد الثقافة والوعي، ولا يعرف عن السينما سوى أنها "كباريه"، وبدأ هذا الجمهور الجديد يفرض ذوقه وثقافته، وبحكم قانون السوق "الجمهور عايز كده"، أصبحت شركات الإنتاج تصنع سينما بمواصفات جديدة لجمهور جديد.

وهي مواصفات لم يتقبلها أغلب نجوم جيلنا، إذ كانت ضد ضميرهم الفني والأخلاقي، فراحوا ينسحبون من الساحة واحداً وراء الآخر، مخرجون في قيمة كمال الشيخ وحسين كمال وصلاح أبو سيف، جلسوا في بيوتهم بلا عمل، مصورون عظماء في قامة وحيد فريد ووديد سري لم يعد أحد يطلبهم، نجوم مثل محمود مرسي ويحيى شاهين وشكري سرحان لم يعد لهم مكان في السينما الجديدة.

وسادت "سينما البوتيك" كما أحب أن أسميها، حيث تساوت أفلام السينما مع بنطلونات "الجينز" و"أقلام الروج" وغيرها من البضائع التي تباع في "البوتيكات"، وفي سينما البوتيك أصبح الزبون دائماً على حق، وعلى صاحب البضاعة أن يقدم له ما يروق لمزاجه ما دام سيدفع الثمن، فلم يكن من المستغرب في سوق بتلك المواصفات وجمهور بتلك الصفات أن تروج أفلام الجنس والمخدرات والتفاهة.

ومن احترم نفسه من المبدعين والصُنّاع الحقيقيين للسينما، سواء الكتُاّب والمخرجون والممثلون، كان عليهم إما الانزواء وإما الاتجاه إلى الدراما التلفزيونية التي بدأت تستقطب الكثير منهم وتغريهم بأموالها، ومنهم من استجاب تحت ضغط الحاجة بل وهاجر إلى الاستديوهات الجديدة في الخليج واليونان حيث مراكز صناعة الدراما.

 انسحاب وليس اعتزالاً

وبالنسبة لي فقد اخترت أن أحترم نفسي وأن أنسحب من مناخ شعرت بأنني غريبة فيه، مناخ مناقض تماماً لمنظومة القيم التي تربيت عليها وعشت فيها وآمنت بها وأيقنت بصوابها.

عِشت السينما حين كان مخرجوها في موهبة يوسف شاهين وحسن الإمام وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ وحسام الدين مصطفى وشادي عبد السلام وحسين كمال، وصولاً إلى جيل الشباب خيري بشارة وعلي عبد الخالق ومحمد عبد العزيز، وحين كان مؤلفوها في قيمة علي الزرقاني، وأحمد عباس صالح، والسيد بدير، ومحمد مصطفى سامي، وعبد الحي أديب وجليل البنداري، وحين كان نجوم شباكها محمود مرسي، وفريد شوقي، وأحمد مظهر، وعمر الشريف، ورشدي أباظة ويحيى شاهين، وحتى جيل نور الشريف، وأحمد زكي وحسين فهمي، وحين كان منتجوها في وعي رمسيس نجيب، وحلمي رفلة، وآسيا، السيدة العظيمة التي رهنت بيتها وكادت تدخل السجن لكي تنتج فيلماً في قيمة "الناصر صلاح الدين" إيماناً منها برسالة السينما ودورها.

أما وقد وصلنا إلى مرحلة سينما البوتيك وأفلام المقاولات فلم يعد لي دور، واللافت أن حبيبة عمري سعاد حسني مثلما كان دخولها إلى السينما متزامناً مع بداياتي في أواخر الخمسينيات فإنها اتخذت قرارها بالانسحاب معي في التوقيت نفسه تقريباً، فلم نعتزل، بل كان علينا الانسحاب حتى لا نفقد رصيدنا في قلوب الناس وفي تاريخ السينما. 

لم تعد السينما الجديدة توافق "مزاجي" وقد اعتدت ألا أفعل شيئاً في حياتي إلا بمزاج، حتى الحزن والغضب.