شهد عام 2020 تحوّلات على صعيد صناعة الدراما العربية، في ظل نموّ وتطوّر متسارعين لمنصات البثّ الإلكتروني العربية، مثل "شاهد" و"فيو"، والعالمية مثل "نتفليكس" التي وجدت في قصص وسيناريوهات المنطقة مادة خصبة لنوع جديد من المسلسلات، ونوع جديد من الجمهور المحلي والدولي.
وبعد زمن من استحواذ "نتفليكس" على العدد الأكبر من جماهير المنصات، وبعدما قررت الاستثمار في الدراما والسينما في العالم العربي بشكل لافت في 2020، وإنتاج أعمال خاصة لمصلحتها أو عرض أعمال عربية قديمة ومعاصرة، بثّت المنصة الأكثر شعبية في العالم (195 مليون مشترك بحسب آخر إحصاء لها) الحماس في منصات حديثة مثل "شاهد".
واستطاعت "نتفليكس" فرض نمط وأساليب درامية جديدة على صعيد النوعية في التصوير والاخراج والصوت والقصة، وبذلك قدّمت نموذجاً مغايراً للدراما العربية المعهودة العالقة في أغلبيتها في قصص الحب والخيانة والمشكلات العائلية، بينما يميل "التريند" اليوم إلى التشويق والبوليسي والجريمة، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر في منصات عربية مثل "فيو" و"شاهد"، إذ انقلبت الأخيرة رأساً على عقب في بداية 2020، ونشطت بشكل لافت وأضافت قائمتين جديدتين إلى خدماتها، وبذلك بدأت تنتج أعمالها الخاصة ذات المستوى العالمي بمواصفاتها الخاصة.
دراما فتيّة
ويبدو أن المنصات بدأت ترسم نوعاً جديداً من الدراما ذات الإنتاج الضخم، يصفه البعض بالفتيّ لكونه يضجّ بالحياة والقصص الحقيقية والمبتكرة التي يجسد شخصياتها إما وجوه معروفة بقالب جديد، أو وجوه شابة لمعت منذ الظهور الأول، سواء في الكتابة أو التمثيل أو الإخراج، خصوصاً في المسلسلات الخليجية مثل "حنين"، و"كحل أبيض"، و"الديرة"، و"أنصاف مجانين"، والمسلسل المصري "ما وراء الطبيعة"، والأردني "جن"، على سبيل المثال لا الحصر.
تيار درامي جديد
ويبدو أن هذه التجربة بدأت تؤسّس لتيار درامي إلكتروني عربي جديد، بقالب مبتكر يعتمد أنواعاً حديثة من الدراما المبنية على التشويق والخيال العلمي والغموض، والشكل السينمائي من حيث الدقة والاحتراف في التصوير والإخراج والكتابة والتمثيل، ومن حيث عدد الحلقات التي بدأت تتقلص لتصل الى 8 أو 10 حلقات بحد أقصى.
وقليلاً ما نرى مسلسلاً أنتج لمنصة بثّ إلكترونية يصل إلى 30 حلقة كما كانت الأعمال الكلاسيكية المحشوة بالثرثرة وساعات لا طائل لها وغير المفيدة درامياً، فمع اهتمام المنصات بالمسلسلات العربية، باتت شركات الإنتاج نفسها التي تنتج أعمالاً للتلفزيونات التقليدية، تعمل بمواصفات مختلفة كلياً بدءاً من الكاستينغ، وإخضاع كل ممثل للاختبار أمام الكاميرا مهما سطعت نجوميته، وصولاً إلى خوض تجارب القصص الغامضة والمليئة بالمغامرة والتشويق مثل مسلسل "ما وراء الطبيعة"، والتعاقد مع كتاب شباب في ورش جماعية كما حدث مع "الهيبة" مثلاً، وقد تكون بذلك كسرت هالة القدسية عن النجوم.
وتواجهه هذه الشركات كما شركات الإنتاج العالمية، تحديات عدّة اليوم، بعد احتلال المنصات الساحة الدرامية، وفي حال قررت اللحاق بسباق البثّ الإلكتروني لتتوجه إلى جمهور غير محكوم بعوامل الجغرافيا واللغة والقوميات، فعليها مداراة معايير المنصات الصارمة والأكثر مرونة في الوقت نفسه، فهل تعيد منصات البثّ تشكيل خريطة الدراما العربية خصوصاً على صعيد عدد الحلقات والنوع الدرامي والنجوم؟
المشاهد يريد السرعة
يرى المخرج الأردني وصاحب شركة "أي سي ميديا سيرفيسز"، إياد الخزوز، أن "شكل الدراما ومتطلباتها تغير كثيراً مع ظهور منصات البثّ"، واعتبر أن المشاهد العصري صار عجولاً ويريد أن يُنهي المسلسل الذي يتابعه في يوم أو يومين بأقصى تقدير، ولهذا يجب أن يكون العمل مكثّفاً وقصيراً وأبعد ما يكون عن المسلسلات الرمضانية ذات الحلقات الثلاثين.
وأشار الخزوز، إلى أن إيقاع الناس اختلف وصار سريعاً، خصوصاً أن لديهم خيارات كثيرة ومتنوعة، وكل فرد مشبوك على وسائل تواصل ومنصات مختلفة، وليس مضطراً ليرى مشاهد مشبعة بثقل الدم أو ثرثرات لا تخدم المسلسل، فإذا فقد التركيز في مشهد مدّته 10 دقائق سيتركه إلى مسلسل منافس".
من هنا يعتبر الخزوز، صاحب الباع الطويل في الإنتاج التلفزيوني والآن بدأ يتجاوب مع معايير المنصات الصارمة العصرية، أن المعضلة الأساسية تكمن في أن المشاهد لم يعد لديه ولاء أو انتماء لأي شيء، لا لشركة إنتاج، ولا لمحطة تلفزيونية، ولا لمخرج معيّن أو نجم معيّن، الناس تريد أعمالاً مكثّفة جيّدة تتقاطع مع قضاياها أو تثير تشويقها".
منطق صناعي جديد
"وبعد أن طغت الموضوعات الاجتماعية والكوميدية على الدراما العربية لسنوات طويلة، بدأت تظهر اليوم قصص خيال علمي وأعمال بوليسية وكوميدية ذات محتوى فني أفضل من ذي قبل"، بحسب الخزوز.
وأضاف: "المنصات الأجنبية ساعدتنا كي نضع المحتوى في إطار محدّد، وأسهمت في رفع مستوى التفكير في منطق الإنتاج والإخراج والكتابة، لتكون خارج الصندوق، كذلك على صعيد التنفيذ حيث زادت أيام التصوير، لأن كل لحظة تدرس قبل تصويرها، وكل مشهد علينا أن نفكر في ألف بائه، ومحلّه من الإعراب، وكيف يخدم المسلسل، حتى الممثلون الكبار منهم والصغار صاروا يضاعفون مجهودهم ويتعبون أكثر في تجسيد أدوارهم".
واستطاعت شركة "أي سي ميديا" هذا العام، تقديم ملسلسي "النحات" والساحر" بواقع 15 حلقة لكل منهما، كما قدّمت مسلسلات سعودية ناجحة، مثل "حنين" و"اتجاه خاطئ" والديرة" و"كحل أبيض" برز فيها ظهور ممثلين أبطال جدد.
وتابع الخزوز: "العمل الدرامي اليوم لم يعد يقاس بجماهيرية بطله ونجوميته كما كان في السابق، النوع الدرامي اليوم مشغول بالمستوى الفني العالي الذي تفرضه المنصات، خصوصاً على صعيد نوعية الصورة والصوت التي يجب أن تكونسينمائية بامتياز، وبدلاً من أن ندفع 50 أو60% من ميزانية المسلسل أجوراً للممثلين، أصبحنا نعتمد استراتيجية رفع وتطوير المستوى الفني قبل أي شيء، فالأموال التي كانت تُنفق أمام الكاميرا ذهبت إلى ما ورائها، أي للموسيقى والميكساج والمونتاج والألوان والتصوير والإخراج وما إلى ذلك".
وأضاف: "هذه ليست مغامرة أن نختار شبابا وممثلين جدداً أو ممثلين من الصفّ الثاني، لأدوار بطولية، بل هي استراتيجية ناجحة نعتمدها مع الكتاب والمنتجين والعاملين في الشركة ككل، فنحو 70% من العاملين في الشركة، دون سن الثلاثين، الأمر الذي يجدّد خلايا الدراما ويجعلها أكثر حيوية".
الخاص لا يلغي الكلاسيكي
لا يتّفق المنتج صادق أنور الصباح، صاحب شركة "سيدرز آرت برودكشن" (الصباح غروب)، مع الخزوز بأن منصات البثّ تعيد تشكيل خريطة جديدة للنجوم، لكنه يتفق معه على أنها تسهم بشكل كبير في تشكيل خريطة جديدة للدراما والسينما في العالم العربي.
ويرى الصباح، أن "الممثلين النجوم مهما تغيّرت وسيلة البثّ، يبقون عاملاً جاذباً للمشاهد سواء على محطات التلفزيون التقليدية أو على منصات البث".
وأضاف: "لا يمنع أن نبرز على الساحة أسماء ووجوهاً جديدة ليكونوا موجودين في المستقبل القريب والمتوسط في نوعية مسلسلات خاصة مثل (باب الجحيم) و(العنبر 12) التي تعتمد على بطل واحد وممثلين خاضعين لاختبار التمثيل (كاستينغ) بشكل دقيق كي يلبس الواحد منهم دوره لبساً".
ويعتبر الصباح، أن هناك نوعين من المسلسلات التي تعرض حالياً على المنصات، الأول هو المسلسلات الخاصة آنفة الذكر، أما الثانية فهو المسلسلات الكلاسيكية المشغولة بقالب جديد تعتمد بشكل أساسي على النجوم من الصفّ الأول مع عدد حلقات أقل، مثل "أنا" و"لا حكم عليه" و"صالون زهرة" و"ستون دقيقة" التي ستعرض كلها على منصة "شاهد" قريباً".
وأشار، إلى أن عدد الحلقات القليلة يسمح بتقوية نوعية الأعمال وتكثيفها، لكونها غير محكومة بعدد حلقات كبير يستنفد جهود فريق العمل".
وأكد أن شركته مستعدة دائماً للعمل مع ممثلين شباب وهواة ومبتدئين، ليكونوا لاحقاً نجوم مسلسلاتنا في المستقبل، لكن "ذلك يحتاج إلى وقت طويل وتمرّس، كي ينتقلوا إلى مرتبة نجوم الصف الأول".
فرص إنتاجية شبابية
هذا التطوّر السريع الذي تقابله منافسة محتدمة بين المنصات، لم يفرز فقط ممثلين جدداً أو رفع ممثلين من الصفين الثاني والثالث إلى الأول، كما حدث في "ما وراء الطبيعة"، بل هو خلق فرصاً جديدة لشركات إنتاج شبابية.
من هذه الشركات "لاست فلور برودكشن" (Last Floor Productions) للشابين اللبنانيين دانيال بو حبيب، وفراس أبو فخر، اللذين كتبا وأنتجا أخيراً، مسلسلي "شك" و"فيكسر" اللذين عرضا على منصة "شاهد".
ويولي الشابان أولوية للقصة والسيناريو والحوار في أعمالهما، "كي تكون حقيقية غير مبتذلة وقريبة من الشباب العربي والعالمي وتصل إليه بشكل سلس وتلمسه وتؤثر فيه، لأن ما كنا نراه على التلفزيونات التقليدية لم يكن يشدنا نحن كشباب ولا يجذب اهتمام الناس عامة، وخصوصاً الشباب، لذلك هجروا التلفزيونات إلى المنصات"، كما قال أبو فخر.
ويرى أبو فخر، أن "المنصات اليوم تعطي فرصة لمواهب شبابية جديدة كما تعطي فرصة لممثلين معروفين ليؤدوا أدواراً يطمحون إليها خارج النمط التقليدي المعتاد الذي أطرهم في مكان معين لم يخرجوا منه منذ زمن".
وأكد دانيال بو حبيب أن "طبيعة السوق والعمل الخلاق يحتّم التجديد والبحث عن الممثل المناسب للدور بغض النظر عن تاريخه، وقد لا يكون الممثل الذي تتوفر فيه المواصفات للدور نجماً أو ممثلاً مشهوراً".
وأضاف: "هناك مواهب كثيرة في العالم العربي غير معروفة أو لم تصل إلى الشاشة بعد، وهنا يأتي دور شركات الإنتاج ومسؤوليتها كي تؤمن هذه الفرص".
يتحدث بوحبيب بحماسة كبيرة معتبراً أن "منصات البثّ فرضت على الدراما العربية التطوّر لتنسجم مع طلب السوق الذي يعتمد اليوم على القصة بحدّ ذاتها، وعلى النوعية السينمائية في التصوير والإخراج، أكثر من الاعتماد على أسماء النجوم الكبيرة كما كان يحدث في السابق، حيث كان يتحكّم النجم البطل بالعمل، وتُكتب له السيناريوهات على مقاسه، فضلاً عن استحواذه على أغلبية الميزانية"، كما يعتبر أن "الدراما العربية موجودة على منصات في مواجهة إنتاجات يابانية وإسبانية وكورية ضخمة، ما يرفع نسبة المنافسة التي تحتّم العمل باحتراف وجهود مضاعفة ليس مسموحاً فيها الاستهتار أو التساهل كما كان في السابق".