
سافر الموسيقار اللبناني إلياس الرحباني، الاثنين، متجاوزاً حدود الدنيا ليعبر إلى مثواه الأخير، من دون أن يركب الطائرة التي كان يخافها. أرداه فيروس كورونا إلى سبات عميق لينام نوماً أبدياً هانئاً بعدما أمتع اللبنانيين والعرب بأعمال محفورة في الذاكرة.
نام "عازف الليل" الحزين وهو الذي كان معروفاً عنه حبّه للسهر والعمل حتى ساعات الفجر في تأليف النوتات الموسيقية وكلمات الأغاني والمسرحيات وقيادة الأوركسترا.
لكن ذاك الرجل الذي حارب الطائفية ونبذ الحرب والاقتتال عبر مئات الأغاني الوطنية، والذي غنّى لبنان الوطن والحب والجمال في نحو 2500 لحن موسيقي، استسلم لحلمه بلبنان الكرامة والعنفوان والحرية كما كتب في أغنية "عم بحلمك يا حلم يا لبنان" لماجدة الرومي، الذي لم يتحقق على مرّ 83 سنة من عمره، قضى آخرها يعاني ألزهايمر.
الخوف على الفن
كان ابن البيت الرحباني وآخر نغمات الجيل الأول من تاريخ هذه العائلة التي أسست لموسيقى لبنانية حديثة، "دائم الخوف على الفن من التجار"، كما قالت لـ"الشرق" الفنانة باسكال صقر، التي صنع حرفتها إلياس يوم اختارها لتغني معه أغنية "Oh Babe" لتفوز بجائزة عالمية في ألمانيا ومن ثم كرّت السبحة لتشارك معه في مسرحيات عدّة ويكتب ويلحن لها مئات الأغاني، مثل "من قلب الدمار" و"اشتقنالك يا بيروت" و"وعد يا لبنان".
لكن الذاكرة الجمعية اللبنانية لن تنسى صاحب "طير الوروار" و"كان عنا طاحون" و"حنا السكران" التي كتبها لفيروز، ولا المشهد المسرحي الموسيقي الشهير بعنوان "أبو مرعي" الذي كتبه الرحباني لوديع الصافي وجورجيت صايغ، والذي صار كمسرحيات شكسبير يدّرس في المدارس اللبنانية للأطفال والمراهقين.
ترك الموسيقار المرن وصاحب نكتة وشخصية دمثة ولطيفة ومحببة، أثراً في نفوس أبناء بلده والدول العربية من مختلف الأجيال، إذ كانت أغانيه تشبع النفس الفني لدى الناس المتعبة من الحروب والسياسة ومشاهد الدمار.
مسيرة حافلة بالعطاء
كانت جملة الراحل الموسيقية بسيطة عصرية يتلقاها القلب قبل الأذن، تجمع بين النخبوية والشعبية والبوب. وقد يعود ذلك إلى تأثره بالموسيقى الغربية والتتلمذ على يد أساتذة فرنسيين بعدما تخرّج في الأكاديمية الموسيقية اللبنانية ومعهد الموسيقى الوطني عام 1958.
وهو من أوائل من أسّس تيار الأغنية اللبنانية الغربية التي تدمج بين الألحان الغربية والشرقية أو اللبنانية الأصيلة، من دون تكلّف. ثم خاض موجة "الفرانكو أراب" ونجح في تأليف أغانٍ فرنسية وإنجليزية نالت جوائز في اليونان وألمانيا وتشيلي وفرنسا.
وجاءت "موسيقاه بسيطة سلسلة تعكس أسلوب السهل الممتنع ويسهل بالتالي على أجيال متلاحقة تردادها وحفظها عن ظهر قلب، وهذا ما كان يميّزه عن أبناء جيله من الموسيقيين"، كما تقول الدكتورة في الموسيقى والكاتبة اللبنانية هالة نهرا.
لم يسجن إلياس الرحباني نفسه في إطار موسيقي واحد، بل كانت أعماله متنوعة من أغاني الأطفال وألحان الإعلانات الأوروبية والأميركية والعربية، إلى المسرحيات وأغاني الحب والوطن والترتيل الدينية والميلادية.
دخل عالم الجاز والبلوز والروك آند رول والموسيقى الكلاسيكية والتراثية. ولا ينسى اللبنانيون كيف لحّن للراحلة صباح "وعدوني ونطّروني" وهي نسخة عن إعلان لبناني للمعكرونة الإيطالية.
بدأ مشواره مع الاحتراف في العشرين من عمره عام 1958، حين استدعاه مكتب "هيئة الاذاعة البريطانية" (بي بي سي) في بيروت، وتعاقد معه على تلحين 40 أغنية و13 برنامجاً، فكان ذلك أول عمل رسمي له. كان اسم العمل "صياد الحلوين" ويروي مغامرات شابين ومقالبهما الطريفة.
وفي 1961، غنّى له وديع الصافي أوّل ألحانه "يا قمر الدار" قبل أن يدخل "الإذاعة اللبنانية" في العام 1962 التي كانت محطة رئيسية في حياته، حيث بدأ التعامل مع مغنين مهمين ومعروفين مثل نصري شمس الدين، الذي لحّن له أول أغنية "ما أحلاها".
في الإذاعة التي بقي فيها حتى العام 1972، تولى رئاسة قسم الموسيقى الغربية التي يفقه بها جيداً، وكذلك تعرف إلى زوجته نينا خليل التي أنجب منها الفنانين غسان وجاد.
وفي هذا العام، قدّم مسرحية "أيام صيف" مع وديع الصافي ونصري شمس الدين وهدى (أخت فيروز) وجورجيت صايغ ومروان محفوظ وملحم بركات، وهي المسرحية التي أطلقت ملحم بركات إلى العالم العربي مع الأغنية الشهيرة "10، 11، 12 دقت الساعة بالليل وأنا وحدي" التي كتبها لبركات وأصبحت من أغاني الفولكلور.
كما لحّن لوديع الصافي أغنية "طاير طاير"، ولنصري شمس الدين "لما شفتا عشقتا لحقتا"، ولجورجيت صايغ "نطّرني عالشباك"، في سبعينات القرن العشرين.
السينما
اشتهر إلياس الرحباني، بالموسيقى التصويرية للأفلام اللبنانية والمصرية أيضاً، التي لاقت انتشاراً واسعاً، مع العلم أن الجمهور في حينها لم يكن يحب الموسيقى الخالصة من دون شعر أو قصيدة وكلام مغنّى.
ومن هذه الأفلام "حبيبتي" لهنري بركات من بطولة فاتن حمامة، وفيلم "دمي دموعي وابتسامتي" إخراج حسين كمال، إضافةً إلى موسيقى مسلسل "آلو حياتي" الشهيرة التي يحفظها جيل الستينات والسبعينات والثمانيات في بلاد الشام عن ظهر قلب.
في خضم الحرب الأهلية في لبنان، سافر مع عائلته إلى باريس التي كان مولعاً بفنها وثقافتها العريقة، لكن اتصالاً هاتفياً من أخيه منصور "الأب الروحي" طلب منه المشاركة بحفلة لفيروز في الشام، أعاده إلى ربوع الوطن الذي خسر لأجله عروض عمل عالمية كان ستُخوّله قيادة فرق أوركسترا عالمية. وقال في تصريحات صحافية حينها: "كان الحنين إلى لبنان ينتهشني وكنت أريد حجة للعودة".
لقّب الفرنسيون إلياس الرحباني بـ"المعلّم" عندما سمعوا نشيد الفرنكوفونية الذي ألّفه وهو النشيد الوحيد الذي استطاع مؤلف وكاتب أغاني أن يصنعه ليجمع بين 70 دولة تتآلف وتجتمع تحت سقف لغة موليير.
الشقيق الثالث
الشقيقان منصور وعاصي اللذان يكبران إلياس بـ15 سنة، هما من أيقظا في أخيهما الصغير قبس الموسيقى وشعلة العزف وإتقانه، وهما من وجّهاه في مسيرته واستقطبا المدرّسين الفرنسيين لتعليمه فقه الموسيقى. لكنه عندما كان يُسأل الشقيق الثالث للرحابنة لماذا بقي خارج ثنائي "الأخوين رحباني"، يرجع الأمر إلى فارق عمر تجاوز 15 عاماً.
استطاع إلياس أن يشقّ طريقاً وأسلوباً مختلفاً عنهما، وإن تقاطع في مساحات مسرحية ولحنية خصوصاً في تلحينه لصباح وفيروز. فهو كان يحبّ فيروز كثيراً، وقال في إحدى مقابلاته: "فيروز كانت رأس حربة موسيقى الأخوين رحباني التي أصابت. هما مفكران وهي كانت تسمع منهما. وإذا قيل لي: إن عدت إلى الحياة مجدداً فماذا تطلب؟ أقول أطلب فيروز مرّة أخرى".
الملكية الفكرية
رحل إلياس الرحباني الذي حارب الطائفية عبر شاشات التلفزيون والراديو والمسرح، التي كان نجمها في إطلالات مميزة، خصوصاً في برامج الهواة، حيث ترأس لجان تحكيم فيها مثل برنامج "سوبر ستار" على تلفزيون المستقبل و"ستار أكاديمي" على تلفزيون المؤسسة اللبنانية للإرسال.
وطلب من الرئيس رفيق الحريري الراحل أن يشترك شخصياً في برنامج "سوبر ستار" كي يقرّب الجمهور من المحطة، كما صرح شخصياً.
كان قريباً من جيل الشباب ويشجّع أصحاب الموهبة الصغار والمبتدئين، منذ البدء في عالم الموسيقى. وله الفضل في صناعة نجوم كبار مثل ملحم بركات وباسكال صقر وعبير نعمة وغيرهم، وهكذا بقي حتى اعتزاله الفن منذ سنوات قليلة، يوم غلبت عليه الشيخوخة وأمراضها في النسيان.
لكن إلياس توفي وهو يحمل همّاً كبيراً لم يكن في الحديث عنه، ألا وهو اختراق قانون الملكية الفكرية في لبنان وتزوير الأسطوانات وسرقة الألحان، التي حاربها في حياته وكان يطلب من الدولة ملاحقة السارقين، معتبراً أنه "لن يحترم دولة لا تحترم عقول شعبها ولا تضع حدّاً للتزوير".
جوائز
تلقى إلياس الرحباني العديد من الجوائز، منها جائزة مسابقة شبابية في الموسيقى الكلاسيكية 1964، وجائزة عن مقطوعة La Guerre Est Finie في مهرجان أثينا عام 1970، وشهادة السينما في المهرجان الدولي للفيلم الإعلاني في البندقية عام 1977، والجائزة الثانية في مهرجان لندن الدولي للإعلان عام 1995، والجائزة الأولى في روستوك بألمانيا عن أغنية Mory، وجوائز في البرازيل واليونان وبلغاريا. وفي العام 2000 كرّمته جامعة بارينغتون في واشنطن بدكتوراه فخرية، وكذلك جامعة أستورياس في إسبانيا.