لم تكن السينما حليفاً قوياً للفلسطينيين طوال القرن العشرين، بالرغم من أن اثنين على الأقل من رواد السينما المصرية (بدر وإبراهيم لاما) كانا فلسطينيين.
ولكن بسبب الحرب التي اضطر الفلسطينيون لدخولها منذ ثلاثينات القرن، أو ربما منذ وعد بلفور المشؤوم في 1917، والتي أسفرت عن إعلان دولة إسرائيل في 1948، لم يكن من الممكن أن تقوم صناعة سينما، أو إنتاجاً منتظماً بأي شكل من الأشكال، خاصة وأن السينما تحتاج إلى مؤسسات ودور عرض في مدن حديثة وهادئة، وجمهور ينتمي إلى جماعة بعينها ومتجانس إلى حد ما، وبالمناسبة لم تنشأ في إسرائيل صناعة سينما أيضاً، وكل ما هناك هو بعض الأفلام الدعائية البائسة التي صنع معظمها على يد أميركيين.
ويحدد المؤرخون بداية السينما الفلسطينية بنهاية الستينيات، عندما أسست منظمة التحرير الفلسطينية، الوليدة حديثاً، وحدة لإنتاج الأفلام (الوثائقية غالباً) من أجل الدعاية للقضية، ولكن الناتج جاء قليلاً عددياً وهزيلاً فنياً، مع قليل من الاستثناءات، ولأسباب يطول شرحها تأجل ظهور موجة متماسكة ذات معالم واضحة لسينما فلسطينية إلى نهاية الثمانينات، وانطلقت مع الألفية الجديدة، على يد عدد كبير من الشباب والشابات من الجيل الثاني والثالث للدياسبورا (أو التغريبة) الفلسطينية.
فيما يلي بعض من أفضل الأفلام التي صنعها فلسطينيون، مرتبة زمنياًَ، تم اختيارها بناء على معيارين: الجودة الفنية العالية، وقدرتها على كسر أحد الحواجز الكثيرة التي واجهها الصوت الفلسطيني لكي يصل إلى العالم.
"عُرس الجليل" (ميشيل خليفي - 1987)
يعتبره الكثيرون أول فيلم فلسطيني روائي، والحقيقة أن هناك محاولة سبقته تعود إلى 1946 للمخرج صلاح الدين بدرخان وفيلمه المفقود "حلم ليلة".
"عُرس الجليل" هو ثاني أعمال المخرج ميشيل خليفي، المقيم في بلجيكا، بعد فيلم وثائقي عن فلسطين أيضاً، وتعود أهمية الفيلم إلى أنه ليس فقط روائياً، ولكنه عمل فني متكامل ومميز، فرض نفسه على المهرجانات والمحافل الدولية، وكالعادة سار على خطى الأفلام غير الدعائية في إثارة اتهامات بالتطبيع وخلافه.
يدور الفيلم في مدينة الجليل بالأرض المحتلة، حيث يرغب كبير القرية بتزويج ابنه في عُرس تتحدث عنه الناس، وبما أن التجمعات الكبيرة مرفوضة، يضطر إلى دعوة الحاكم العسكري الإسرائيلي للعرس، وتتباين ردود الأفعال داخل القرية على هذا القرار، هناك من يرحب، ومن لا يبالي، ومن يقاطع العُرس، ومن ينوون استغلال قدوم الإسرائيليين لتدبير هجوم عليهم.
يأتي الجنود وضابطهم، وقبل نهاية العُرس يسرقون حصان عربي يعجبهم، ويضل الحصان طريقه وسط حقل ألغام، ويتعاون الجميع لإنقاذه، لكن في نهاية الأمر يودعون المحتلين بوابل من الحجارة (سبق الفيلم ثورة الحجارة، أو الانتفاضة الأولى بعدة أشهر).
"حتى إشعار آخر" (رشيد مشهراوي - 1994)
ولد رشيد مشهراوي في أحد مخيمات غزة، وشق طريقاً صعباً ليصبح سينمائياً، ويصنع أول أفلام تنتج وتدور داخل الأراضي المحتلة. وبعد عدة أفلام قصيرة صنع فيلمه الروائي الطويل "حتى إشعار آخر"، الذي يدور على مدار يوم واحد في غزة، ويرصد معاناة أهلها الممتدة تحت وطأة الاحتلال.
حقق الفيلم نجاحات كبيرة في المهرجانات العالمية والعربية، ما مهد الطريق إلى فيلمه التالي "حيفا" (1996) الذي شارك في مسابقة مهرجان "كان" باسم فلسطين لأول مرة، كما حصل على عدد كبير من الجوائز والمشاركات الأخرى.
"يد إلهية" (إيليا سليمان - 2001)
بعد أكثر من عشر سنوات قضاها إيليا سليمان في نيويورك هرباً من قهر سلطة الاحتلال في مدينة "الناصرة" (داخل حدود 1948)، يعود إلى مدينته ليصنع أول أفلامه الروائية الطويلة "سجل اختفاء" الذي يحصل على جائزة العمل الأول من مهرجان فينيسا، 1996، لتصبح أول جائزة من مهرجان كبير يحصل عليها فيلم فلسطيني.
وبعد 5 سنوات قدم رائعته "يد إلهية"، الذي تتجلى فيه معظم خصائص سينما إيليا سليمان، وعلى رأسها ربط الذاتي بالعام والوثائقي بالخيالي وروح الكوميديا التي تسري في كيان العمل. شارك الفيلم في مهرجان "كان" وحصل على جائزة لجنة التحكيم وجائزة لجنة النقاد.
"أحلام المنفى" (مي المصري - 2001)
شاهدت فيلم "أحلام المنفى" للمخرجة مي المصري، في إحدى دور العرض العامة بمدينة مونتريال بكندا، كان الفيلم، الذي يرصد أحلام ومخاوف الأطفال في المخيمات، قد نال استقبالاً عالمياً ملحوظاً، بالنسبة لفيلم عربي فلسطيني، وكان من الأعمال التي فتحت عيون الكثيرين في الغرب على أشياء لا يعرفونها بشأن الاحتلال الإسرائيلي.
وبجانب موضوعه الجديد والمتميز فالفيلم يتمتع أيضا بخصائص فنية عالية، وهو لا يشبه معظم الأفلام الوثائقية التي كانت تصنع عن القضية، إذ يحوي بناء سردياً حديثاً يبعد عن الدعاية، ويركز على القصص الإنسانية.
"الجنة الآن" (هاني أبو أسعد - 2005)
في 2002 صنع المخرج الشاب هاني أبو أسعد أول أفلامه "عُرس رنا" من إنتاج وزارة الثقافة الفلسطينية، وحقق نجاحات مرموقة في مهرجانات عالمية وعربية. أتذكر، حين عُرض الفيلم في مهرجان "القاهرة"، جاءت النجمة الإنجليزية الشهيرة فانيسا ريدجريف لحضور الفيلم وتأثرت كثيراً.
وفي 2005 قدم أبو أسعد فيلمه الثاني "الجنة الآن" الذي كان فتحاً عالمياً للسينما الفلسطينية، بما حققه من جوائز كبرى (منها وصوله إلى القائمة النهائية للأوسكار، وفوزه بالجولدن جلوب)، بجانب ما كتب عنه من مئات المقالات، وأيضا بما حققه من توزيع عالمي.
وبجانب مستواه الفني الرائع يعالج الفيلم موضوعاً في غاية الأهمية، وهو تحليل سيكولوجية الإرهاب من الداخل، حيث يرصد قصة شابين فلسطينيين يكلفان بإنجاز عملية انتحارية، ما دفعهما إلى ذلك؟، وكيف سيتصرفان عندما تحين اللحظة المميتة؟
لهاني أبو أسعد فيلم جميل آخر هو "عُمر" (2013) الذي وصل أيضا إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
"ملح هذا البحر" (آن ماري جاسر - 2008)
للمخرجة آن ماري جاسر عدة أفلام جيدة حصلت على جوائز ومشاركات عالمية مهمة، مثل "واجب" و"لما شفتك"، ولكن يظل هناك طعم وروح خاصان لفيلمها الأول "ملح هذا البحر"، بإمكانياته البسيطة وروحه المستقلة وفكرته الطريفة (حول فتاة أميركية من أصل فلسطيني، تعود إلى مسقط رأس جدها في يافا، لتسأل عن حساباته البنكية التي اضطر إلى تركها عقب تهجيره في 1948، ولكن تكتشف أن سلطة الاحتلال صادرتها، فتقرر أن تقوم بعملية سطو على البنك.
"أمريكا" (شيرين دعبس - 2009)
يُكتب عنوان هذا الفيلم بالإنجليزية Amreeka، ليبرز النطق العربي لاسم أمريكا. وهو عنوان يعبر عن معنى الفيلم كأفضل ما يكون.
يروي الفيلم، وهو أول أعمال مخرجته، قصة سيدة فلسطينية مسيحية مطلقة تعيش هي وابنها الوحيد بين مدينتي رام الله وبيت لحم، حيث يتعرضان يومياً لتحرشات ومضايقات جنود الاحتلال، وذات يوم يصل خطاب بقبول هجرة السيدة وابنها إلى أميركا، فيشدّان الرحال، بعد تردد، ويسافرا إلى أرض الأحلام. لكنهما يصلان بعد وقت قليل من هجمات 11 سبتمبر 2001، ليكتشفا أن العنصرية تسكن الجانب الآخر من الأطلنطي أيضاً.
أجمل ما في الفيلم هو أسلوب تعبيره المرح عن موضوعه الجاد، ورغم أنه لا يحتوي عنفاً أو حوادث درامية ثقيلة، إلا أنه ينقل بذكاء تأثير الاحتلال والعنصرية على الناس العاديين.
* ناقد فني