لكل شيء نهاية، مهما طال عمره، رحلت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية عن 96 عاماً، مخلفة وراءها ذكريات عقود من تاريخ العائلة المالكة وبريطانيا والعالم. وها هو مسلسل The Crown الذي يروي بعضا من هذا التاريخ الطويل قد حان له أن ينتهي أيضاً، مع نهاية الحلقة العاشرة من الموسم السادس والأخير من المسلسل.
المسلسل الذي أنتجته نتفلكس، وشارك فيه عدد كبير من نجوم التمثيل، تحت قيادة الكاتب بيتر مورجان والمخرج ستيفن دالدري (مع عدد من الكتاب والمخرجين الآخرين)، أثار على مدار سنوات اهتمام الملايين من المشاهدين، وكثيراً من الإعجاب، وكثيراً من الملاحظات أيضاً، التي انصب معظمها على المقارنة بين "التاريخي" و"الدرامي"، خاصة حين راح صناع العمل يطلقون لخيالهم العنان في بعض حلقات المواسم الأخيرة.
الجزء السادس تحديداً سبقه كثير من الترقب والتوقع؛ نظرا لأنه يتعرض لوقائع قريبة، نسبياً، حاضرة بقوة في وسائل الإعلام وأذهان الناس، مثل مصرع الأميرة ديانا الغامض، وزواج تشارلز وكاميلا، وصعود شعبية الأميرين ويليام وهاري، وتحول زواجيهما إلى مادة يومية للصحافة وأخيراً موت الملكة الذي ترقبه الناس لعقود، ثم صدموا عندما حدث أخيراً.
ركز الجزء الأول من الموسم على قصة ديانا ودودي الفايد، وانتهى بالحادث الأليم في 4 حلقات، بينما يتكون الجزء الثاني من 6 حلقات تتنوع في موضوعاتها وشخصياتها بشكل مرتبك إلى حد ما.
تحمل الحلقة الخامسة عنوان Wilimania أو "الهوس بويليام"، وتركز على صعود شعبية الأميرين الصغيرين عقب وفاة أمهما، وبالتحديد الابن الأكبر ويليام، ولي عهد المستقبل، الذي يجد صعوبة كبيرة في التعامل مع وفاة والدته، يرفض التعبير عن مشاعره، ويتهم والده بأنه السبب في وفاتها، ومع الوقت ونصائح الجد فيليب يبدأ ويليام في التعامل بمزيد من العقلانية مع المأساة.
قليل من السياسة
على مدار مواسمه الست كان مسلسل The Crown ينسج خطوطه الدرامية بين القصص الشخصية للملكة وعائلتها، والقضايا والأحداث السياسية والاجتماعية العامة، ولكن الموسم السادس يكاد يتجاهل الشؤون العامة، ويركز على القصص العاطفية لأبطاله.
وبينما انصبت الحلقات الأربعة الأولى على علاقة ديانا بدودي وتشارلز بكاميلا، تحاول بقية الحلقات أن تعيد التوازن، نسبياً، من خلال تصوير العلاقة المركبة بين الملكة ورئيس الوزراء توني بلير، الذي اكتسب شعبية هائلة جعلت الملكة تشعر بالتهديد حينا، وبالرغبة في الاستفادة من هذه الشعبية حينا، وتروي الحلقة السادسة بعضا من هذه التفاصيل مع المرور بشكل عرضي على تحول بلير لتابع لأمريكا، ومتورطا معها في الحرب على العراق، ما يؤدي إلى انهيار شعبيته في النهاية.
لكن الفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه الحلقة (وبقية حلقات الموسم الأخير)، هي مناقشة معضلة وجود العائلة المالكة في زمن لم يعد يتعرف بالحقوق الإلهية أو الموروثة للحكام، ولا بالطقوس والشعائر الأسطورية التي غالباً ما تحيط بحياة الملوك.
وفي سعيها من أجل تدارك تراجع شعبية العائلة المالكة تطلب الملكة من بلير أن يسدي إليها بعض النصائح، ولكنه، على طريقة السياسيين البراجماتيين، يطلب منها التخلي عن كثير من "المظاهر" المحيطة بالملكية، أي التحول إلى شخصية سياسية عادية، ولكن إليزابيث تدرك، أثناء مراجعة هذه الطقوس، أنها جزء من تاريخ وهوية العائلة المالكة البريطانية، ومن ثم تاريخ وهوية بريطانيا نفسها، وأنها لو تخلت عن هذه "المظاهر" فسوف تنهار الملكية، وبالفعل ترفض نصائح بلير.
يؤكد المسلسل من خلال هذه الحلقة، وغيرها، على فكرة أن العائلة المالكة التي لم تعد تحكم قد تحولت منذ زمن إلى رمز وأسطورة يحتاج الناس إليها، كنوع من التشبث بقيمة غير مادية تتجاوز مصالح وسياسات الحياة اليومية.
صراع الأشقاء
ينتقل The Crown إلى شخصية أخرى هي الأميرة مارجريت، التي تعيش حياة بوهيمية تتناقض كلية مع حياة أختها الملكة، وتصاب في نهاية حياتها بسلسلة من الأزمات القلبية، وعلى عكس الأجزاء القديمة التي كانت تبدو فيها العلاقة بين الشقيقتين متوترة، يبدو أن الاثنتين تتصالحان في نهاية حياتيهما، إذ تدرك كل منهما أنها تكمل الأخرى، وتشبهها، بالرغم من أن الظروف حتمت أن تلعب كل منهما دوراً مختلفاً.
من مارجريت نعود إلى ويليام، لنتعرف على قصة حبه بالأميرة كيت، ويختلق المسلسل لقاء خيالياً بين ويليام وكيت حدث في مراهقتيهما بحضور الأميرة ديانا، ليبني عليه قصة الحب وكأنها قدر كتب عليهما، فيما يبدو أنه تأثر من صناع المسلسل بالجو الأسطوري!
وبدلا من المنافسة بين إليزابيث ومارجريت التي شغلت الكثير من المواسم القديمة، ننتقل إلى المنافسة بين ويليام وهاري والعلاقة الشائكة بينهما، فيما يبدو أنه عزف من صناع المسلسل على لحن وسائل الإعلام الرائج هذه الأيام عن توتر العلاقات بين الأميرين وزوجتيهما.
يحمل العمل تقديرا وإعجابا كبيرين بالأمير ويليام، ويركز على العلاقة العميقة التي ربطته بجدته الملكة، كما يجيد رسم قصة حبه لكيت ميدلتون.
ولا يفوت صناع العمل أن يعرجوا على قصة محمد الفايد وصراعه ضد العائلة المالكة البريطانية، متهما إياها بتدبير حادث موت ديانا، لمنع زواجها برجل مسلم، وهي الادعاءات التي فندتها أجهزة التحقيق، وكالعادة يمعن صناع العمل في تقديم الفايد بطريقة مثيرة للسخرية.
أشباح الملكة
ينتهي The Crown بالحلقة العاشرة التي تحمل عنوان Sleep Baby Sleep، والذي يشير إلى الأغنية الفلكلورية التي أرادت الملكة أن تعزف في جنازتها، وتدور الحلقة حول مباركة إليزابيث لزواج تشارلز بكاميلا وتفكيرها في التنازل عن العرش، وتراجعها عن القرار في اللحظة الأخيرة، بعد ظهور شبحين من شخصيتها القديمة (بأداء كلير فوي وأوليفيا كولمان اللتين لعبتا شخصية الملكة في الأجزاء الأقدم)، ليتناقشا معها حول ضرورة أن تتمسك بـ"واجبها الملكي" حتى الموت.
ترحل مارجريت، ثم الملكة الأم، ثم الأمير فيليب لتلحق به الملكة إليزابيث، ليبدأ عهد جديد، ليعيد التاريخ دورته بشكل آخر.
بالرغم من تهافته الدرامي، لكن الحلقات الأخيرة من المسلسل تحمل جرعة عاطفية مركزة، تعبر عن الشعور بالحنين إلى عصر ولى.
ينتهي المسلسل بالملكة وحيدة تخاطب أشباحهها مرة أخرى، تتأمل حياتها، وتنتظر لحظة الرحيل.
* ناقد فني