في فيلم "آخر سهرة في طريق ر".. وماذا بعد كل هذا التغيير؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
مشهد من الفيلم السعودي "آخر سهرة في طريق ر" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
مشهد من الفيلم السعودي "آخر سهرة في طريق ر" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
القاهرة -رامي عبد الرازق*

يبدو المخرج السعودي محمود صباغ من المولعين برصد اللحظات الفارقة بين الحقب والأزمنة، ومنذ فيلمه الأول "بركة يقابل بركة"، الذي أنجزه عام 2016، ظهر أنه من الجيل الذي كتب عليه أن يعيش التحولات الكبرى في مجتمعه المتغير والاستثنائي، الجيل الذي عاش يغذي خياله سراً على أمل أن يسترد طائر الفن أجنحته، التي انتزعت ألوانه سنوات الصحوة الجافة. 

يمكن القول أن مشروع صباغ مهموم بالتوقف أمام لحظات بعينها، وإعادة تفتيتها من أجل الاستيعاب وطرح أسئلة المستقبل، هكذا يمكن أن نربط بسهولة بين أولى تجاربه "بركة" وبين أحدث إنتاجاته "آخر سهرة في طريق ر"، الأول يأتي كشهادة ساخرة على السنوات الأخيرة لزمن الصحوة المتشقق، من خلال شخصيات يلعب الفن دوراً محورياً في بقاء شغفها بالحياة داخل نطاق الخدمة؛ سواء "بركة" الشاب الذي يقوم بأدوار الفتيات في المسرحيات التي كانت (الهيئة) تحرم تمثيل النساء بها، أو "بركة" الفتاة، التي تريد أن تصبح ممثلة، لكنها لا تتمكن حتى من كشف وجهها على إنستجرام لأسباب اجتماعية قبل أن تكون شرعية، وكأن كلاهما كيان مزدوج الجندر، يحمل هموم الذكور والإناث في قفة أحلام واحدة. طارحاً السؤال الأهم في زمن ما بين الحقبتين (وماذا بعد؟).

ثم يأتي "آخر سهرة" كما يبدو من عنوانه، ليستكمل حالة التوثيق، ويكرس الجانب المُر في السؤال، من خلال شخصيات تعيش في العالم السفلي للغناء الشعبي، والذي كان إحدى مظاهر الخيال السري والمتع المختلسة طوال سنوات التسعينيات وبداية الألفينات، في ليلة طويلة تكاد تكون من دون نهاية حيث نرافق في شوارع جدة المتغيرة ما تبقى من فرقة المطربة غائبة الجسد حاضرة السيرة (كاكا)، أو كما يطلق عليها الجمهور الأخير لتلك السهرات (نصف فرقة)، يقودها "نجم البحري" وكنيته (أبو معجب/ عبد الله البراق)، ومعه عازف الأورج السكير مدمن الحبوب (سيلفر/ سامي حنفي) ساحباً خلفه "سولا"، المطربة الطموحة التي تحفظ تراث أمه (كاكا/ مروة سالم) في أداء تمثيلي وغنائي لافت، على نغمات عازف العود الأعمى "طرفي"، ودلالة اسمه تؤكد تبعيته المطلقة.

يأخذنا صباغ في رحلة كاشفة، لنكون شهوداً على الليلة الأخيرة لعالم ينتهي قبل أن يصعد فجر عصر جديد في اليوم التالي، كما في مشهد النهاية، مستعيناً بأداتين أساسيتين؛ هما الكوميديا السوداء على مستوى النوع، والحوار العفوي اللاذع التراشقي، الذي يعكس ثقافة مجتمعية نابعة من زخم أصوله الجداوية، ومعاشرته لأهل مدينته ذات الأطياف المعقدة على المستوى الطبقي والنفسي والإنساني. 

يقول "أبو معجب"

"أبو معجب" هو بطل الليلة بكل ملحميتها، بطل درامي يحمل صفات العناد والمكابرة، ورفض الاعتراف بأن زمنه انتهى، كمن يحاول أن يعيد إصبعه لمكانه بعد أن تم قطعه، هكذا يرهص صباغ بنهاية "أبو معجب" بعد أن يقطع تاجر المخدرات إصبعه، ويلقيه بجانبه في الحارة لتلعقه قطط النفايات، هو صاحب السيارة التي سوف نركبها في نموذج ناضج وحيوي لنوعية أفلام الطريق، الأفلام التي تتحرك بين أماكن وشخصيات مختلفة خلال حيز زمني معين، وعبر المحطات التي سوف يسعى لها "أبو معجب"، من أجل أن يُحصل مبلغ الدين الضخم الذي يدين به لتاجر المخدرات، والذي يمده بالحبوب التي تساعده وفرقته على الحركة المكوكية طوال ليل جدة الطويل، سوف تتشكل أركان العالم القديم المتداعية، وصولاً إلى لحظة الفقد الكامل في الصحراء البعيدة.

يبدأ الفيلم من بداية الليلة الأخيرة وينتهي بنهايتها، تحمل الشخصيات تاريخها بالكامل في مؤخرة السيارة، كما نراه في ألبوم الصور التي يتصفحه "أبو معجب"، بحثاً عن أي من الشيوخ القدامى الذين كانت تكفي سهرة واحدة عندهم لضمان مستقبل الفرقة بالكامل، وينقل لنا الحوار التراشقي لمحات من هذا التاريخ، عبر جمل تفوح منها الجرأة والقدرة على التعبير عن مخيلة كل شخصية وهزائمها وطموحها.

في البداية نحضر معهم عيد ميلاد بدائي رخيص، يحصلون منه على فتات النقود، فلا يجدون سوى قفص دجاج لسرقته كمقابل – دلالة على انحدار حالهم وعودتهم إلى ما قبل عصر "كاكا"، حيث كانت مئات الألوف من الريالات تلقى تحت أقدامها وهي تغني- ثم ننتقل إلى الإذاعة لشراء سماعات قديمة، لكن "أبو معجب" يرفض أن تسجل المطربة أي أغنية ضمن برامج اكتشاف المواهب، حرصاً منه على نقاء سيطرته عليها، وخوفاً من أن تنفلت إلى عوالم الشهرة التي لم يعد يستطع أن يفك شفرتها، تماماً مثلما يحدث عندما يذهبون لحضور واحدة من الحفلات الجديدة، التي تقام في حرية كاملة بعد زوال عصر الهيئة، والانتقال من أقصى اليمين إلى ما بعد اليسار، يجد "أبو معجب" نفسه وفرقته مجرد ديكور تراثي في لوحة تريد أن تكون حداثية، يملأها الجيتار الكهربائي والرقص والدي جي، بما لا يدع مكاناً للآهات ولا سلطنة الطرب القديم.

 ومن بعدها زيارتهم الأهم لأحد الحيتان القدامى، على حد تعبيره، وهو ثري مصاب بلوثة عقلية بعد أن حاول أهله تجريده من أمواله ومنعه من السفر والتبذير الذي يعشقه، مما جعله يفكر في الانتحار، بينما تعزف له الفرقة القديمة طالباً من "أبو معجب" أن يضع رصاصة في رأسه الأصلع مقابل 200 ألف ريال.

وفيما بين فواصل المحطات المتلاحقة والهستيرية والمؤذية لنفوس الجميع وأجسادهم، نرى "أبو معجب" يتحدث مع السماء تارة، ومع شبح "كاكا" في مخيلته تارة، ومع طيف الصياد الذي يتراءى له مثلما تراءى شبح الأب الملك لهاملت، خاصة قبل أن يكتشف في المحطة التالية أن أمه "كاكا" لم تكن مجرد (طجاجة) شهيرة، ولكنها كانت تدرب فتيات الكورس، ومن بينهم "سولا" على سرقة الثمين والغالي من بيوت الزبائن، وأن ما نرى "سولا" تفعله طوال الوقت من اختلاسات للأشياء القيمة، ما هو إلا نتيجة لما تعودت عليه طويلاً في زمن "كاكا" المنتهي.

وماذا بعد؟

ينجح صباغ بشكل لافت في تكثيف التداعيات الكثيرة للانهيار داخل حيز الليلة الواحدة، يسيطر على الإيقاع، ويمنح كل محطة ما تستحقه بالضبط من زمن لكي يتشبع المتفرج بحالة الانهيار المتوالي، ويتشرب النماذج التي تسقط واحدة تلو الأخرى ضمن سياقات النهاية القادمة بقوة، وصولاً إلى المحطة الأخيرة في مخيم واحد من الشيوخ الكبار الذي يجلبه من أجل تسلية ضيوف الدرجة الثانية والثالثة، بعد أن كان وقت أمه "كاكا" نجماً – اسما وصفة- للخيمة الكبيرة والراعي الأول لمزاج الشيخ، لكن تشبثه المستميت وغير المفهوم بتفاصيل الماضي جعل يؤخره إلى أسفل الصفوف، إلى أن جاء موسم الرياض وليالي كورنيش جدة والدي جي كي يمحوا ما تبقى من تفاصيل عالمه، ويتركوه من دون "سليفر" – الذي تزهق روحه بجرعة زائدة- ولا "سولا" التي تحقق حلمها أخير بالمغادرة إلى الرياض، حيث المسالك العالية نحو الشهرة وجواز السفر الذي سيمحو عنها صفة (البدون).

لا يبدو السؤال الذي يشغل صباغ في الفيلم هو سؤال كيف حدث هذا؟ أو ما الذي أدى إلى انهيار عالم "أبو معجب" بهذا الشكل! بل يبدو السؤال الأكثر تصدراً للمشهد النهائي هو وماذا بعد؟، وهو سؤال وإجابة في نفس الوقت، الإجابة تحمل في طياتها رداً على سبب ما وصل إليه "أبو معجب" وعالمه، وهو رفضه للتطور ومجاراة الزمن بصورة أكثر نضجاً وأقل عشوائية ومادية ودون حبوب وديون وأصابع مقطوعة.

أما السؤال عما بعد، فهو سؤال مفتوح على مستقبل المجتمع كله في ظل عاصفة الانفتاح والتغيير القوية، والتي ربما تشتت الكثيرين عن وجهتهم، أو تغير أماكنهم في السلم الاجتماعي، أو تضيع ما تبقى لهم من إرث وتراث، أو تمحو من ذاكرتهم مساوئ التطرف دون إمعان للعقل- فلو سلمنا أن الصحوة كانت تحمل وجهاً خشناً متطرفاً، فما شاهدناه في ليل جدة بالفيلم من أشكال العالم الجديد، كما في مشاهد الشوارع وتفاصيل الشباب والحفلات، هو أيضاً شكل آخر من أشكال التطرف والعنف، ولكن في الاتجاه المقابل- ويكفي مشهد الفتيات الائي اصطحبن "سليفر" بعد أن أكل سيجارة المخدر بدلاً من تدخينها، لكي يصوره لأنه من وجهة نظرهن يصلح كمحتوى (تريندي). 

يقدم صباغ بمكر إبداعي ودقة في حساب التفاصيل المعروضة والمعلومات المسكوت عنها، أو المشار إليها دون تصريح، ما يمكن اعتباره تدشيناً لأسئلة عالم ما بعد التغيير، وتلك هي اللمحة الفنية الأبرز في تجربته الجديدة، فالحكاية واضحة ومسلية، والطرافة ناضحة بالكوميديا، والحوار لاذع وشرس في واقعيته، والإيقاع سريع ولاهث وجذاب، والمحطات مختلفة وكل واحدة فيها صندوق بندورة جديد غير متوقع، لكن تحت جلد الحكاية، وفي باطن السهرة الأخيرة تكمن الأسئلة الحارة، إلى أن تبزغ مع الشمس الوحيدة التي نراها في الخاتمة عقب انتهاء الليل الأخير، الشمس التي ينظر إليها أبو معجب نظرة السؤال الذي يلسعه، فها قد حصلت على أموال تسد دينك، ولكن سليفر لحق بكاكا وسولا مضت إلى المخيم الكبير لتغني حتى الربيع مع عوادها الأعمى- ودلالة الغناء حتى موسم الربيع لا تحتاج إلى تأويل مفرط- والحيتان كلهم التي كنت تعول على عودتها إلى ساحة المزاج والطرب يا أبو معجب، يا من تحمل روح الصياد- الذي تراءى لك- إما أنها ماتت أو ترغب في الانتحار -وتعبير الحيتان تعبير ينسجم في عضوية رائعة مع فكرة الزمن المولى، لأن الحيتان كائنات تذهب للموت حين تفقد الشريك، أو تشعر بانتهاء زمانها- كل هذه التفاصيل المتراكمة في ثقل وسواد لا يقل قتامة عن سواد آخر سهرة يكثفها صباغ في عينا "أبو معجب"، وهو ينظر إلى الفجر الجديد البازغ، منكسراً بمفرده في صحراء واسعة، كأنها المحطة الأخيرة التي ليس بعدها سوى الفراغ ورمال التلاشي.

لكن على ما يبدو أيضاً أن صباغ لا يريد للجمهور أن يغادر متحسراً فقط على "أبو معجب" وزمنه الغابر، لكنه يريد أن يدس له لسؤال نفسه في رأسه، حين يخرج إلى الشوارع؛ فماذا بعد كل هذا التغيير! وهل هكذا سيكون شكل العالم الجديد، كما شاهدنا، ملمحاً منه في بعض المحطات! أم هناك ما هو أكثر شطحاً وجرأة ومغامرة فيما هو قادم! فماذا بعد؟ وإلى أين! 

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك