من بين 7 أفلام تنافست هذا العام على جوائز السوسنة السوداء، خلال فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان عمان الدولي أول فيلم (3-11 يوليو)، استطاع كل من المغربي "عصابات" للمخرج كمال لزرق، واليمني "المرهقون" لعمر جمال، أن يقتنصا الجوائز الأربعة الرئيسية لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، من خلال شبه مناصفة متوازية، حيث فاز "عصابات" بجائزة أفضل فيلم، وفاز أيضاً بتنويه لأفضل ممثل رجال (عبد اللطيف المستوري)، بينما فاز "المرهقون" بجائزة لجنة التحكيم، وتنويه لأفضل ممثلة نساء (عبير محمد).
بينما أنصف الجمهور الأردني تجربة مواطنهم أمجد رشيد، مانحين إياه جائزة الجمهور التي ذهبت لفيلمه "إن شالله ولد" من تأليفه وإخراجه.
وكانت المسابقة قد شهدت هذا العام تنافساً بين 5 دول أساسية، هي المغرب بفيلمين "عصابات"، و"أنيماليا" إخراج صوفيا العلوي، وفيلم آخر بالاشتراك مع تونس هو "كواليس" لعفاف بن محمود وخليل بن كيران، وتونس بفيلم "ما وراء الجبل" لمحمد بن عطيه، ومصر بفيلم "وحشتيني" للسويسري المصري الأصل تامر روجلي، واليمن بـ"المرهقون"، وأخيرا الأردن بـ"أنشاء الله ولد".
ثلاثة آباء
لدينا في قائمة الجوائز ثلاثة آباء من ثلاثة مدن تبدو ظاهرياً مختلفة، مدن متخمة بالتوقف كل عند مرحلة ما من عمرها الطويل، يأكل شوارعها خوف مقيم، وتتنوع جرعات القلق الساكن فيها، وتتشكل توابعه حسب تهديدات مختلفة وسافرة.
في فيلم كمال لزرق "عصابات"، لدينا الأب الذي يعمل مع إحدى العصابات، التي تشكل مصارين المجتمع التي لا يرغب أحد في معرفة وجودها، حيث يتورط في جريمة قتل مجانية فيضطر إلى أن يصطحب ابنه- بدلا من تركه عاطلاً- معه إلى العالم السفلي، حيث تزول الفروقات بشكل عبثي بين الإنسان والحيوان – تبدأ الأزمة بكلب يُقتل، وتنتهي بكلب آخر يحمل ذراع الجثة التي تم حرقها هارباً إلى بعيد، حيث يمكن أن يكتشف كل شيء بصدفة قدرية.
وفي مقابل غرائز الحيوان الواضحة المتسقة مع طبيعته أياً كان (كلب بيتبول متوحش أو حمار طيب يقطع الطريق)، نجد ثمة ذلك الالتباس في تحديد غرائز الإنسان، خاصة عندما يصبح الدم أسهل وسيلة لدرء الخوف وتحقيق النجاة من الخطر المستمر.
يتورط الأب (عبد اللطيف المستوري) في محاولة التخلص من جثة أحد أفراد عصابة تسكن ما تحت الأرض في الدار البيضاء، يبدو لرزق متأثراً بواحد من أصحاب الفضل في اصطحاب الجمهور إلى قلب المدينة الأسود (المخرج نور الدين لخماري)، صاحب "كازانيجرا" و"الزيرو"، هنا يبدو الزمن كليل واحد طويل بلا نهار، وتبدو محاولة التخلص من جثة محمولة في سيارة أصعب من فعل القتل نفسه، والجثة نفسها تبدو أقرب لجثة المدينة التي فقدت الرحمة والعدل والنور، ولم يعد سكانها سوى مجموعة من العصابات التي تقتني الكلاب من أجل مباريات الرهان الدموية، وحماية مصالح التجارة المحرمة والتخلص من الأعداء.
وفي الفيلم اليمني "المرهقون"؛ ثمة أب ثان، هو ابن المدينة التي استهلك النزاع على السلطة ثوبها المزكرش، حتى تهرأ وصار بقايا من بقع لا تستر سكانها، نحن في عدن عام 2019، حيث يتولى مسؤولية أسرته المكونة من زوجه وثلاثة أطفال في ظل هبوط طبقي عنيف وإجباري، لقد كان موظفاً في التليفزيون القومي المغفور له، لكنه الآن لا يجد عملاً سوى سائق سيارة أجرة لا تكفل له أن يستمر في السكن، ضمن منظومة الطبقة المتوسطة المتداعية حد التلاشي، ولكن الأسوأ من كل هذا أنه ليس مضطراً فقط لأن يغادر وأسرته شقته القديمة نحو بيت آخر، متآكل الجدران، يطل على المكان الوحيد الحقيقي الذي يعبر عن المدينة كلها (المقابر)، ولكنه في حاجة ملحة لأن يتخلص من ابنه القادم، لأن الوضع لم يعد يحتمل أن تزداد الأفواه بفم جديد يطلب الماء والحياة.
أما الأب الثالث فهو الغائب الحاضر -في الفيلم الأردني-هو الأب الذي غادر تاركاً زوجين من الإناث في مجتمع يملأه "تستوستيرون" التفضيل الذكوري المقدس؛ أرملته وابنته اللتان تقفان بمفردهما في مواجهة عراء قواعد الميراث، التي لا تحميهم من رغبة العم في طردهم من منزل الأب الراحل إلا في حالة واحدة، أن يعلن رحمها أن بذرة الأب الاخيرة التي تركها فيه ان شاء الله تأتي بالولد.
ورغم أن الأب يغادر سريعاً في بداية الفيلم، إلا أنه لا يغادر ذاكرة أرملته وابنته، ولا يغادر ذاكرتنا كمشاهدين وشاهدين على فداحة الأزمة التي يبدو كل عنصر فيها هو مؤامرة ضد الأم، لكي تتخلى عن ابنتها وتبحث لها عن حياة أخرى، ليست جديدة ولا طازجة بعد أن صارت اقرب لليتم منها للترمل.
الأم الوحيدة
يمسك الأب العدني ذراع زوجته في الشارع، لائماً إياها على التأخير عند الطبيبة، التي رفضت أن تتحدث معها في شأن إجهاض الطفل القادم، مسلطاً نقمته الوجودية عليها، ودافعاً إياها لغضب مكتوم سوف يتراكم ضمن إرهاقات كثيرة تصهرها من داخلها.
يحمل الفيلم اليمني الحائز على تنويه بأفضل ممثلة (المرهقون)، عنواناً شعرياً باللغة الإنجليزية وهو "المُثقَلون"، وهو عنوان لا يقل في جماليته الدلالية عن لفظ المرهقون، بل يمتد بشكل ناضج ومثير لحاسة التوحد والتعاطف لدى المتلقي لغالبية تفاصيل العمل البصرية والحركية والدرامية، تبدو الشخصيات كلها مثقلة بعبء خفي وظاهر في نفس الوقت، حركتها بطيئة، وإيقاعها يستغرق وقتاً أطول من العادي، سواء في الفعل أو في ردود الأفعال، كل الأمور – خاصة مسألة الإجهاض- تستهلك عمراً من أجل أن تحدث، الثقل الذي يعبئ الصورة بتقشفها اللوني والصوتي على حد سواء، يعكس مدى العزلة التي تعيشها كل شخصية على حدا، فلا أحد بقادر على أن يتشارك أثقاله مع الآخرين لأن الكل مثقل حد الإنهاك.
تقف الزوجة/الأم وحيدة في مواجهة قرار الإجهاض، كأنها من حملت بمفردها في الجنين غير المرغوب في فمه الجديد، تستسلم لكل المحاولات بما فيها إحضار قابلة بدائية لإجهاضها – رغم كونها تعاني من فقر دم مما يعني أن اي نزيف يمكن أن يودي بحياتها- تقف وحيدة أمام سخرية أمها من زوجها الذي لا يتمكن من احضار الفاكهة إلى غداء العائلة، والذي لم يتمكن من أن ينضم إلى أي من وظائف القنوات الجديدة التي تسبح بحمد الأنظمة المتصارعة لمجرد أنه رجل صاحب مبدأ.
وأخيرا تقف وحيدة أمام أختها الطبيبة المتدينة، التي لا ترغب في اجراء عملية الإجهاض لها، خشية من شبهة حرمانيه رغم وجد فتاوى تبيح ذلك حتى الأسبوع السادس.
من الملفت في جوائز المهرجان هذا العام أنه في مقابل هذه الأم التي يتم إجبارها على أن تتخلص من جنينها خشية إملاق حقيقي وواقعي، ثمة أم أخرى وحيدة أيضا لكنها ترجو من السماء ان يكون رجمها ممتلئاً بولد يقيها فاقة العوز إلى جدران تسترها، وهي الأم والأرملة في "إنشالله ولد"، الحائز على جائزة الجمهور.
كلا المرأتين تصطدمان بقواعد التشريع، وبالموبقات الاجتماعية البالية الموروثة عبر أجيال لا تصل في أزماتها إلى هذا الدرك الأسفل، وسواء كنا في عدن أو عمان، بل أن أرملة "إن شالله ولد"، تتأمر مع فتاة تريد أن تتخلص من جنينها – الشرعي- لكراهية الزوج بأن تتفقان على الحصول عليه من أجل أن تحل أزمتها، وكأن الفتاة التي تنتمي إلى عائلة غنية لكنها تعاني من نفس القهر الاجتماعي، الذي لا يفرق بين الإناث مهما كانت طبقتهم، نقول أن الفتاة تشبه إلى حد ما الأم اليمنية، التي يراد لها أن تتخلص من حملها، لأنه فوق طاقة الواقع على القبول به.
أول فيلم
تشترك الأفلام الثلاث الفائزة في مسابقة الدورة الخامسة لمهرجان عمان هذا العام، في كونها تنتمي إلى بيئات أسرية وقضايا اجتماعية وإنسانية تبدو متوحدة في الجهامة والهموم، والمهرجان المعني بالأعمال الأولى لصناع السينما (كتابة وتمثيل وإخراج)، يملك من رحابة الرؤيا ما يجعل أفلاماً من صناعات سينمائية لا تزال في طور التشكل أو التطور، كما السينما اليمنية أو الأردنية تنافس بصورة عادلة مع تجارب من صناعة سينمائية راسخة ومتجذرة مثل السينما المغربية.
كلا الفيلمين الأردني والمغربي انطلقا من مهرجان كان الماضي 2023، بينما سبقتهما رحلة "المرهقون" اليمني التي بدأت من برلين من نفس العام، مما يجعل من مهرجان عمان فرصة رائعة للوقوف على البذور التي تنمو متمهلة وناضجة في حاضر السينما العربية ككل، ويجعل من تخصصه النوعي (أول فيلم) مصفاة مهمة تمكن جغرافيا المنطقة من التلاقي على شاشة واحدة، وتمنحنا مهلة التدقيق فيما تفرزه المواهب الشابة، والقدرة على الفهم الظاهري والمعمق لما يمكن أن يكون متوازياً في حدوثه بصورة ملفتة، على الرغم من مجازية المسافات بين عدن، وعمان، وكازابلانكا.
* ناقد فني