في المشاهد الأخيرة من فيلم Maria، إخراج بابلو لارين وبطولة أنجلينا جولي، والذي يتناول حياة مغنية الأوبرا الأشهر ماريا كالاس، تتوالى عناوين الفيلم على سلسلة من اللقطات المتداخلة لماريا الحقيقية والشخصية المتخيلة التي تؤديها جولي.
في هذه اللقطات تبدو ماريا الحقيقية جميلة، جذابة، تبتسم وتغمز بعينيها للمصورين، وتشيع بهجة وسحراً في الصور، وعلى النقيض تبدو أنجلينا جولي في شخصية ماريا كئيبة ومطفأة، تخلو من الوميض الذي كان يحيط بكالاس، والذي يحيط بأنجلينا النجمة السينمائية، وهو أمر غريب لا يمكن تفسيره إلا من خلال فحص الاختيارات والقرارات التي اتخذها صناع هذا الفيلم.
ولع النجوم بالنجوم
أنجلينا جولي هي بالتأكيد أشهر اسم يشارك في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، الذي بدأت فعالياته الأربعاء، ومن الطبيعي أن تلاحقها الكاميرات وعيون المعجبين، من لحظة وصولها إلى فينيسيا إلى حفل الافتتاح، وصولاً إلى السجادة الحمراء وفقرة التصوير التي سبقت عرض Maria، المشارك في المسابقة الدولية، والذي شهد عرضه العالمي الأول صباح الخميس.
ينتمي Maria إلى نوعية من الأفلام انتشرت خلال العقدين الأخيرين، تدور حول نجوم يؤدي دورهم نجوم، من نوعية La Mome (La vie en rose) الذي جسدت فيه الفرنسية ماريون كوتيار شخصية إديث بياف، وGrace الذي جسدت فيه نيكول كيدمان شخصية جريس كيلي، من بين أفلام كثيرة نالت اهتماماً واسعاً، خاصة من قبل المهرجانات السينمائية التي تعشق أسماء النجوم المعاصرين والراحلين، وخاصة عندما يجتمع هؤلاء في فيلم واحد.
في Maria تلعب أنجلينا جولي شخصية ماريا كالاس، التي ولدت منذ قرن وثمانية أشهر، وتحولت إلى أسطورة حية خلال منتصف القرن الماضي بفضل عدة عوامل، على رأسها صوتها الساحر، وجمالها اليوناني الأخاذ وارتباطها العاصف بالملياردير وزئر النساء أرسطو أوناسيس، ثم موتها المبكر قبل أن تكمل عامها الخامس والخمسين.
من بين حياة كالاس الممتلئة بالدراما والإنجاز الفني الاستثنائي، قرر صناع فيلم Maria أن يركزوا فقط على الأسابيع الأخيرة من حياة النجمة، وهي أسابيع حزينة راحت فيها النجمة تصارع، مستسلمة، المرض الذي فتك بكبدها وقلبها، وتسعى، دون جدوى، لاستعادة بريق صوتها، مغرقة نفسها في أقراص المسكنات والدخان وأشباح الماضي، وحيدة سوى من خادم وخادمة مخلصين يتحولان إلى كل ما لديها.
فرقة المكتئبين!
هذه الفترة الحزينة من حياة ماريا كالاس العريضة، هي التي اختارها صناع فيلم Maria، كاتب السيناريو ستيفن نايت (كاتب سيناريو فيلم Spencer عن حياة الأميرة ديانا)، والمخرج بابلو لارين (المتخصص أيضا في أفلام السير الشخصية، والذي صنع من قبل بجانب Spencer فيلمي Jackie، عن حياة جاكلين كيندي، التي تزوجت أيضاً من أوناسيس، وتظهر بشكل عرضي في فيلم Maria، كما صنع فيلم El Conde، الذي يتناول في قالب خيالي حياة ديكتاتور تشيلي المخيف أوجستو بينوشيه).
واختيار صناع الفيلم لهذه الفترة تحديداً، بجانب اختيار أنجلينا جولي، التي تميل منذ سنوات إلى تمثيل (وإخراج) أعمال جادة كئيبة، إنما يعكس مزاج هؤلاء الثلاثة، المؤلف والمخرج والبطلة، ولكن لا يجب علينا أن نصدق أنه يعكس مزاج ماريا كالاس، أو أياً من الشخصيات السابقة التي صنعوا أفلاماً عنها.
في أحد مشاهد فيلم Maria تقول كالاس لصحفي شاب متخيل (يؤدي دوره كودي سميت- ماكفي) "كنت أغني بناء على طلب أمي، وتوقفت عن الغناء بناء على طلب أوناسيس، والآن أغني لنفسي".
هذه هي الجملة/الحكمة التي يعتمد عليها الفيلم في بناء فكرته، وهي تقديم ماريا كالاس كامرأة مغلوبة على أمرها، تبيع صوتها وجسدها للنازيين بفعل الفقر والخوف وطمع أمها، ثم كرفيقة حياة (زوجة غير شرعية بحسب الفيلم) لأغنى رجل في العالم، الذي يشتريها بطريقته، ويمنعها من الغناء.
هذه المرأة المريضة التي فقدت جودة ورونق صوتها تقرر الآن أن تثور على الماضي، الذي تحرقه في استعارة سينمائية، حين تخبر الصحفي الذي يجري الحوار معها بأنها أشعلت النار في كل ملابس أعمالها الأوبرالية لكي تتخلص من الماضي.
ملوك وملكات الدراما
تقوم السينما عادة بتحويل الحياة والواقع إلى دراما Dramatize، حتى أصبحت "الدراما" قيمة في حد ذاتها، وحتى صارت كلمة "دراما" تعني المبالغة والتطرف في تجسيد الواقع غالباً، لأسباب "جماهيرية"، تتعلق بجذب انتباه وكسب تعاطف الجمهور، و"فنية"، تتعلق باستعراض مهارات الكتابة وخلق الشخصيات القوية وتطوير الصراع وصنع التشويق والتأثير.
وليس أدل على ذلك من استخدام الناس لكلمة "دراما" لوصف من يبالغون في ردود أفعالهم واستعراض مشاعرهم، وظهور مصطلحات من نوعية "ملكة الدراما" Drama Queen لوصف نوع معين من النساء الهستيريات.
في Maria تحولت ماريا كالاس بفعل أنجلينا جولي والسيناريست والمخرج إلى "ملكة دراما"، والأمر ليس صدفة، ولا يتعلق بشخصية كالاس بقدر ما يتعلق باختيارات هؤلاء الثلاثة.
وحين نتذكر ما فعله ستيفن نايت ولارين في Spencer من تحويل ديانا إلى كتلة من الكآبة، وما فعله لارين في Jackie من تحويل جاكلين كيندي إلى كتلة لا تقل كآبة، يمكننا أن نفهم هذا المزاج والتوجه اللذين عالجا به شخصية ماريا كالاس.
يبرهن Maria على الفكرة القائلة بأن أي عمل تاريخي إنما يعكس "خيال" صناع هذا العمل عن التاريخ وعن واقعهم المعاصر، وصناع الفيلم لم يروا في ماريا كالاس سوى وجه الضحية، ضحية الأم الجشعة والرجال الشرهين من النازيين إلى أوناسيس، وبالرغم من أنها تؤكد في أحد المشاهد أنها ليس لها حياة أو سعادة خارج المسرح، إلا أن الموهبة والإنجاز وعبقرية الإبداع لم ير منها صناع الفيلم سوى المعاناة والفشل، وهو أمر غريب وغير مفهوم من فنانين كبار لا يقل غرابة عن تصرف كالاس، حين أحرقت ملابسها (أو ادعت أنها أحرقتها).
لا يجب أن يصرفنا ادعاء "ماريا" بأن الحياة ليس لها سوى وجه واحد كئيب، وصور كالاس في نهاية الفيلم إنما تعكس وجها آخر للحياة ممتلئ بالإنجاز والثقة والفرح.
* ناقد فني