"وكل شيء بينسرق منّي.. العمر من الأيام.. والضي من النني".. (شجر الليمون - أغنية مصرية).
ماذا لو أن هناك مدينة أصبحت الحيوانات تحاول الفرار منها؛ لأنها لم تعد صالحة للحياة! فما بالنا بالبشر!. من هذا السؤال/الأزمة، ينطلق الفيلم المصري الذي شارك في الدورة الـ81 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي هذا العام "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج خالد منصور.
"السيد رامبو" بالمناسبة هو كلب بلدي خفيف الظل لديه إمكانيات تمثيلية عالية، لكنه يعيش في عزلة مع صاحبه "حسن".
هو حيوان، لكنه ربما أكثر إنسانية من أهل المدينة نفسها! فقد واحدة من عينيه إثر تعرضه لمحاولة تصفية بغرض الانتقام، بعد أن دافع عن صاحبه، في عراك مفتعل وغير متكافئ، إن "السيد رامبو" هو محاولة كلب أعور وصاحبه الفرار من المدينة الملعونة.
"شجر الليمون"
يعتمد البناء في فيلم "السيد رامبو" على فكرة الاستعادة المتوالية، ليس فقط للذكريات أو التاريخ الشخصي أو العام، ولكن حتى على مستوى تلقي الفيلم نفسه.
ينتهي "رامبو" على جلوس "حسن" وأمه مطرودين من رحمة المدينة التي من دون قلب، بينما في الخلفية نسمع أغنية "شجر الليمون" للمطرب المصري محمد منير، كلمات عبد الرحيم منصور، وألحان أحمد منيب، "وكل شيء حواليا ينده لي.. جوايا بنده لك.. يا ترى بتسمعني".
هذه الأغنية التي اختارها صنّاع الفيلم لتصبح صوت المرثية الحزينة، التي شهدنا عليها مكتوفي الأيدي من دون قدرة على مساعدة "السيد رامبو" وصاحبه، تتحدث بالأساس عن الافتقاد المكسو بيأس عظيم، لكنه مبطن بأمل خارق مدفون في أعماق اللحظة التي يمكن أن يستعيد فيها شجر الليمون، وهو الشجر الذي يذبل، لكنه لا يموت حيث ينهض مخضراً مرة أخرى لو طاله الارتواء ولمسته العناية والمحبة.
يمكن للمتلقي أن يستعيد كامل رحلة الفيلم بتأمل واجب في محطاتها، من اللحظة التي تحتل فيها الأغنية شريط الصوت في النهاية، تتطلب اللحظة استعادة متأنية لطبيعة الأزمة وأسبابها الفجة السوداء، وساعتها ينضم المتلقي نفسه إلى قائمة أبطال الفيلم -المهزومين بقسوة وجبروت- الذين مروا خلال محطات الفرار بحالات من الاستعادة الصلبة لواقع لم يعد رفيقاً، ومستقبل ليس فيه من الليونة ما يغري بالاستمرار في الحياة أو الوجود.
ثالثهم كلبهم
في قصة أصحاب الكهف الشهيرة، يجلس قطمير سيد كلاب الدنيا على باب الكهف، يحرس أجساد مجموعة المؤمنين الهاربين بدينهم وأنفسهم من بطش الوثنيين في المدينة، إلى أن يستيقظوا ويخرجوا من ثباتهم، فيواجهون زمناً آخر غير زمنهم، ربما أشد قسوة عليهم من زمن الكفار الذين هربوا منهم، فيقرروا العودة إلى الكهف استجابة لفكرة أن الزمن لفظهم، وأن المدينة التي عاشوا زمن كفرها كانت أكثر حنواً عليهم.
في الفيلم لدينا "حسن" الفنان عصام عمر، وأمه التي تُجسد شخصيتها سماء إبراهيم، وثالثهم كلبهم "السيد رامبو"، الذي سمي على اسم الشخصية الثمانينية الشهيرة التي قدمها سيلفستر ستالوني في سلسلة أفلام أميركية عن جندي مارينز خارق يدعى "رامبو" يمكنه أن يهزم العالم كله.
يعيش "حسن" مع أمه في كهف ضيق، منزلهم متآكل الجدران في حي شعبي صغير في المدينة، مع ملاحظة حضور قدر لا بأس به من التجريد لأسماء الأحياء والشوارع والأماكن.
يعمل حسن كفرد أمن لإحدى المنشآت الصغيرة بحي راقٍ، ورغم ذلك لا نشعر معه بأي قدر من الأمان في علاقته بالعالم الخارجي، حين تحاول أمه أن تدعوه للخروج للاحتفال بعيد ميلاده، فيطلب منها أن تصنع كيك منزلي من أجل احتفالهما السنوي المعتاد في كهفهما الصغير.
يتناقض وضع حسن كفرد أمن وحيد مع كلبه الطيب، وبين التهديدات المستمرة التي تلاحقه وأمه وكلبهما من قبل "كارم"، أحد أوجه الشر في المدينة المتداعية التي تشبه بقايا مكان أنهكته حرب طويلة أو زمن طويل.
يريد "كارم" أن يطرد "حسن" وأمه من شقتهما في منزله المتداع من أجل توسيع أعمال ورشته المكدسة مثل جسده الأسمر اللزج بالشحوم والهباب، والعجز عن ممارسة الضمير أو الذوق أو الرحمة.
وفي مدينة من دون سلطة شرطية، ولا حضور رسمي أو غير رسمي لأي ممثل للقانون أو النظام الحضاري يمكن أن يلجأ إليه حسن وأمه في مواجهة كارم، باستثناء جلسة عرفية تحاول التوفيق بينهم عقب تدخل "رامبو" لإنقاذ "حسن" من براثن "كارم" وعقره في مكمن رجولته الخسيسة.
يمكن هنا أن نتوقف أمام إشارة بصرية مهمة وهي ظهور المدينة بلون رمادي يكسو مسام الشريط الفيلمي من أوله لآخره، والرمادي لون محايد، سخيف، يشبه تطاير ذرات متربة إثر حريق ضخم طال البشر والنفوس.
يمنحنا الرمادي في الفيلم شعوراً بالديستوبيا/عالم ما بعد النهاية، كأن "حسن" وأمه وحبيبته السابقة والممرض المزيف الذي يحاول إسعاف رامبو عقب إصابته بعد هجوم "كارم"، بل و"كارم" نفسه، تشعرنا هذه الشخصيات أنهم بقايا بشر في مدينة حققت نصف نجاة من كارثة رهيبة، ورغم ذلك لم تقض تلك الكارثة المادية أو الروحية على الشر أو غياب الرحمة، بل فاقمت منه، وضخمت من أثره بشكل مأساوي ومهدد لكل روح طيبة حتى روح الكلب الطيب "رامبو".
يبدأ الفيلم بلقطات لشاشة تعرض مشاهد لمجموعة ضباع تلتهم جيفة ممزقة، ثم "حسن" و"رامبو" يلعبان كأخوة في الروح، كل منهما يجذب دمية سوف نعرف فيما بعد أنها لعبة "رامبو" المفضلة، وينتهي الفيلم وقد نجح "حسن" في إخراج "رامبو" من المدينة بعد أن طردهما "كارم"، وأطلق عليهما الرصاص انتقاماً لرجولته المجروحة، بعد أن أصدر المجلس العرفي حكماً بجلب "رامبو" وقتله، وهي أحكام بدائية لا تزال سارية في المجتمع المصري.
حين يتدخل كلب للدفاع عن صاحبه في أي شجار ويصيب أحدهم، يصدر الحكم بقتل الكلب بشكل علني، عبر أكثر الوسائل قسوة وتمثيلاً بجسد الحيوان الأعجم الذي لا يدري ما هي جريرته.
ما بين اللقطة الأولى للضباع وبين جلوس عشرات الكلاب، كأنهم "رامبو" آخر في انتظار البحث عن منفذ لخروجه، حول"حسن" وأمه وهما على قمة الجبل وحيدين بعد أن طردا حتى من كهفهما الصغير، يعبر بنا الفيلم على عوالم المدينة الغريبة، فتارة يذهب بهم الممرض المزيف بحسن وحبيبته السابقة/ركين سعد، إلى حفرة ليلية تجري فيها نزالات للكلاب التي تم (تشريسها) من أجل المراهنات، وتارة يلجأ حسن إلى مأوى للكلاب خارج المدينة تديره سيدة طيبة، تحاول أن تحافظ على ما تبقى من إنسانية الوجود، برعاية أرواح لن تجد لها مكان تحت ظلها الرمادي الباهت.
يمكن أن نشير هنا أيضاً إلى أن أغلب الأماكن والبنايات في الفيلم تبدو متآكلة الجدران، رطبة، شبه متداعية، كأن ما مر عليها أكثر مما سوف تحتمل، سواء بيت حسن وأمه أو المقهى حيث تجرى الجلسة العرفية أو مأوى الكلاب، كما يمكن أن نضيف هذا العنصر إلى عنصر زمني آخر، وهو أن مشاهد الليل في الفيلم أكثر من مشاهد النهار، كأن الشمس لا تشرق كثيراً على المدينة.
في وداع الأب
تتكرر في الفيلم زاوية عين الإله، وهي الزاوية العلوية التي تبدو كأن السماء تنظر إلى الشخصيات الملقاة على الأرض من دون سند ولا معين، يكفي أن نشير إلى اللقطة التي يبدو فيها "حسن" مستلقياً على ظهره من تلك الزاوية أسفل عمود بأحد المساجد مكتوب عليه بعض أسماء الله الحسنى، متشرباً بالضوء الأخضر القادم ربما من قبة علوية، لا حول له ولا قوة ولا معز ولا كبير، كأن شعوره المستمر بكونه يتيم قد اكتمل أخيراً رغم كل محاولات المقاومة، فالأب الذي خرج قبل 10 سنوات متغيباً أو فاراً من المدينة لم يعد، ولم يتبق منه سوى بضع دقائق على شريط كاسيت قديم ينقله "حسن" إلى تليفونه المحمول بشكلٍ رقمي كي يعيد الاستماع إلى صوت الملاذ الغائب.
تتقاطع هنا اللحظة التي يشعر فيها "حسن" ليس بتخلي الأب فقط، ولكن بتخلي السماء نفسها عنه مع تلك المرثية الحزينة للمدينة المتداعية، سواء على مستوى البشر أو الأماكن أو حتى الحيوانات، ففرد الأمن لا يشعر بالأمان.
يحاول "حسن" في مشهد المسجد أن ينزع ملصق كلمة أمن بالإنجليزية المكتوبة على ظهر يونيفورم العمل الخاص به، دلالة على سخريته من الكلمة التي لم يعد لها تحقق في هذه المدينة، والحبيبة السابقة التي دفعتها الظروف إلى أن يتم خطبتها لرجل يكبرها في السن، ولديه ابنة رغم كونها جميلة وراقية، لكنها في النهاية مغتربة، كما نراها في استضافتها لـ"حسن" في بيت المغتربات التي تسكنه، وتحتاج إلى من يؤمنها، ولو جزئياً في هذه الحفرة الديستوبية الصلعاء من أي محبة لأسباب كثيرة، أهمها فقر المادة والروح.
يوازي الفيلم بين الأب الغائب، والأمان المفقود والسماء المتخلية -العين التي تراقب ولا تتدخل- من أجل أن يدفع شخصية "حسن" للنمو الدرامي عبر التحول الشرس لصفاته الحنونة المسالمة الطيبة، معاشرته للكلب "رامبو" جعلت قلبه أكثر رقة ولطفاً، لقد أصيب "حسن" بالشراسة، وهو ما كان يخشى منها على "رامبو" حين طلب صاحب حفرة منازلة الكلاب أن يأويه مقابل ذلك، وقت أن كان الفرار في بدايته قبل إصابة "رامبو" في عينه بالخرطوش إثر محاولة قتله من قبل "كارم" في مأوى الكلاب.
يعود "حسن" إلى الحي شرساً، فقدت طردت أمه من كهفهما، ووجد "رامبو" من يحنو عليه ويخرج به من المدينة إلى كندا حيث (يأكل أحسن أكل، ويعيش أحسن عيشة) ولم يعد صوت الأب القادم من شريط الذكريات مريحاً أو مهدئاً، كأن دقائق التسجيل القصيرة هي أفضل زمن حصل عليه "حسن" في حياته الركيكة الباهتة.
أخيراً تشتعل النيران، ويدور صراع بين حيوانين كانا في الأصل اثنان من البشر "حسن" و"كارم"، لكن فساد الفطرة وغياب النظام لم يترك فيهما سوى أثر بعد عين من الإنسانية.
يبدأ الفيلم بصراع الضباع، وينتهي باثنين من البشر تأكل النار المشتعلة في إنسانيتهم والتقابل واضح ومقصود بالطبع، فقط يبقى الأمل كما سبق وأشرنا أن يلقى النداء البعيد مسمع الغائب، فيرده أو يغويه بالعودة، أو على حد كلمات الأغنية الوجودية الحزينة: "وكل شيء حواليا ينده لي.. جوايا بنده لك.. يا ترى بتسمعني".
* ناقد فني