لماذا أحب الجمهور "عمر أفندي" موديل 1943؟

time reading iconدقائق القراءة - 14
الملصق الدعائي لمسلسل "عمر أفندي" - المكتب الإعلامي لمنصة شاهد
الملصق الدعائي لمسلسل "عمر أفندي" - المكتب الإعلامي لمنصة شاهد
القاهرة -رامي عبد الرازق*

في عام 2016، قدمت منصة Hulu مسلسلاً من 8 حلقات بعنوان 11.22.63 عن رواية ستيفن كينج، وبتوقيع تلميذ سبيلبيرج "جي جي إبرامز"، وبطولة جيمس فرانكو، عن شاب يعبر سرداب زمني مخبأ خلف خزانة ملابس، فينتقل إلى عام 1963 قبيل مقتل الرئيس الأميركي جون كيندي، ويكون عليه أن يحول دون حدوث واقعة الاغتيال، لكنه في كل مرة يعود، يفشل في تغيير الماضي، لأن فرضية المسلسل قائمة على مبدأ فلسفي هو أن الماضي لا يريد أن يتغير، وكلما حاولنا تغييره فإنه يقاوم.

على ما يبدو أن السيناريست المصري مصطفى حمدي، التقط فكرة السرداب العابر بين زمنين يمكن التنقل بينهما، وقرر أن يعيد صياغتها في مسلسل "عمر أفندي"، انطلاقاً من فرضية نفسية لا علاقة لها بالنص الأصلي ولا بالجانب الفلسفي أو السياسي فيه، بل اعتماداً على عنصر سيكولوجي بسيط، وهو أن الجمهور يحمل حنين قوي إلى الماضي، خصوصاً فترة ما قبل 1952، حيث كان العالم لا يزال حتى في شروره وحروبه وإمبرياليته أكثر طيبة ورحمة من شرور وأزمات الحاضر اللعين.

لا يدّعي مسلسل "عمر أفندي"، المعروض على منصة "شاهد"، أي عمق، بل لو أن عناصر بنائه الدرامية والبصرية مقصودة بالشكل التي ظهرت به، يمكن اعتباره تجربة جيدة على مستوى البارودي (المحاكاة الساخرة) من ناحية، أو على مستوى اللعب على مبدأ "النوستالجيا"، ليس فقط من باب العودة إلى عام 1943، ولكن بتأمل حجم المرجعيات والتماثلات التي تعلن عن نفسها صراحة، نكتشف أن العمل في مجمله هو كولاج كبير (لوحة مجمعة) من عدة مواقف وأحداث وتفاصيل تخص أعمال سينمائية -مصرية بالأساس وأجنبية أحياناً- تنتمي في مجملها إلى حقبة الأبيض والأسود، أو على أقل تقدير الثمانينيات وبداية الألفينات.

"البعكوكة"

"البعكوكة"، هي مجلة مصرية ساخرة، هزلية، صدرت عام 1937، وكانت تحتوي على مواد نقد اجتماعي وسياسي وفني في إطار كاريكاتوري ضاحك، ولو جردنا "عمر أفندي" من أي نوايا أو مظاهر نقدية، سوف نجد أن الكاتب استغل الأربعينيات في رسم شخصيات هزلية بصورة كاريكاتورية مضخمة، ساهمت بشكل كبير في تحقيق الجاذبية والارتباط الشعوري والعاطفي بين الجمهور والمسلسل.

الحبكة تبدأ بسيطة جداً، "علي" فنان موهوب، متزوج من فتاة جميلة من عائلة غنية جداً، تعمل في مجال "التطوير العقاري"، وكعادة كل الفنانين الذين يتزوجون من الجميلات أصحاب المال وأبناء الآباء المنتفخين بأموال موروثة يدعوا أنها من سلسال أزرق نبيل، نكتشف فيما بعد أن جد الفتاة كان مجرد نشال صغير كسب ورقة يناصيب بـ300 جنيهاً في الأربعينيات، ومنها حققت العائلة ثروتها، ولونتها بأرستقراطية زائفة.

حين يموت أبو "علي"، وفي أثناء مراجعته لتراث أبيه يكتشف السرداب الزمني، فينتقل إلى عام 1943، لتبدأ مغامراته مع مجموعة الشخصيات التي تمثل عنصر أساسي من عناصر الجاذبية والتعلق الجماهيري، خاصة مع حرص الكاتب على المسحة الكاريكاتورية الهزلية الجريئة التي تختلط فيها مخيلة الأربعينيات اللغوية (المأخوذة من أفلام الأبيض والأسود)، مع كم لا بأس له من الأفيهات الجنسية +18.

وفي مقابل ضحالة وسخف كثير من شخصيات الزمن الحاضر، وعلى رأسهم بالطبع الحما الغني الشرير، والصديق أو سنيد البطل الذي لا يصدق أنه ينتقل زمنياً، والذي يبدو أنه مجرد (مُحَلَل إيقاعي) لكي يتم حشو العمل بخط إضافي يسمح بتمدد الحلقات إلى رقم 15، رغم أنها كان من الممكن والأفضل جداً أن تنتهي في حوالي 10 فقط.

نقول أنه في مقابل ضحالة وخفة -بالمعنى السلبي- شخصيات الحاضر، نجد مجموعة طيبة وطريفة من الشخصيات التي يمتلئ بها عام 1943، وهي الشخصيات التي شكلت جسراً لمرور الحنين إلى الماضي ذهاباً وعودة من وإلى الحاضر الكئيب.

أولاً، "علي" في شخصية "عمر أفندي"، الاسم العبثي المأخوذ من واجهة سلسلة المتاجر الشهيرة التي أنشئت في منتصف القرن التاسع عشر، واكتسبت الروح المصرية شكلاً ومضموناً خلال سنوات القرن العشرين، يبدو "علي" أكثر طرافة وحكمة وكاريكاتورية في الأربعينيات منه في الزمن الحاضر، صحيح أن هذا طبيعي ومنطقي بحكم الفارق الزمني الهائل -80 سنة- لكنه أيضاً يعكس مدى حلاوة الأيام القديمة، التي أتيح له أن يتشرب بساطتها وسهولة الحياة فيها –يقول "علي/ عمر" في النهاية لـ"زينات" حبيبته، أن أزمة الزمن الحاضر هو أن الناس يعيشون مضغوطين، يلهثون في سباق لا ينتهي، لا يشعرون بمعنى الحياة رغم مكسبات الطعم التكنولوجية الكثيرة، والتي تسهل التواصل، لكنها لا تمنح الدفء، ولا حميمية الحضور الإنساني البراق والممتع.

أضف إلى "عمر"؛ رفيق رحلته الزمنية الذي يوازي صفية في الزمن الحاضر، لكنه يفوقه حضوراً وطرافة وكاريكاتورية "دياسطي/ مصطفى أبو سريع"، في ثاني تجلي مميز له بعد ترينده الشهير "المال الحلال أهه" في مسلسل "العتاولة" الذي عُرض في رمضان الماضي.

ضع "دياسطي" بجانب "دلال صاحبة البنسيون/رانيا يوسف" التي اعتزلت الرقص، وأورثت موهبتها لابنتها "زوزو / آية سماحة"، بضحكتها البلهاء الجميلة ورقصها المتخشب، ثم تضم القائمة "مرعي النجس/ محمد عبد العظيم"، صاحب ومدير بيت الدعارة الذي ينتهي عنده الطرف الثاني من السرداب، ومعهم "أباظة / محمود حافظ"، مدير التياترو الشرير الذي يطارد زينات وأمها بديون مستحقة من أجل أن يحصل على ست البنات.

ولا يخلو عام 1943، من شخصية مستوحاة من شيلوك شكسبير، أو كما يدعى "هنا شلهوب/ محمد رضوان"، الجواهرجي اليهودي العاجز جنسياً، والذي يذكرنا أيضاً بشخصيات وحيد حامد من فيلم "النوم في العسل".

وفي الخلفية نرى "الشبح" وهو الفدائي، رغم أن اللقب ليس في موضعه الصحيح تماماً على مستوى التاريخ، لكن لا يهم، والميجور الإنجليزي ممثل جيش الاحتلال، وفتيات بيت الدعارة راشيل، وسنية التي لا تستحم، وشافعي النشال الصغير بائع اليانصيب، والمعلمة شهيرة التي تقود عصابة من أطفال الشوارع.

شخصيات بلا تطور

هكذا صنع النص (بعكوكته) الخاصة بإصدار عام 1943، وأصبحت مجموعة الشخصيات ذات الأحجام الكاريكاتورية في صراعاتها الساذجة، بحكم الزمن البسيط، محط محبة الجمهور رغم تكرار الدوائر التي يتحركون فيها من دون نمو حقيقي ولا تطور يذكر، فـ"مرعي النجس" هو القواد خفيف الظل من البداية إلى النهاية، و"شلهوب" هو اليهودي الخسيس الدنيء الطماع من دون أي تطور، و"أباظة" هو الشرير الخام أو محمود مليجي المسلسل، وحتى "دلال" المعتزلة نفسها، لا تحمل شخصيتها أي تطور أو نمو من أي نوع باستثناء حزنها على موت "تهامي" أبو "علي" وزوجها، ويمكن أن نضيف كساد النمو إلى "زوزو" أيضاً، رغم قصة الحب الأربعينية الجميلة التي تعيشها مع "عمر أفندي".

الشخصيات الوحيدة التي تطورت بشكل فيه ملمح من النضج أو تراكم خبرات التجربة هو "علي" بالطبع، بطل الحكاية، ومعه سنيده وشريكه "دياسطي"، الذي تنمو شخصيته بالفعل بصورة ربما أقوى من "علي" نفسه، وهو أطرف شخصيات المسلسل وأكثرها عمقاً في الوقت نفسه، بل إن رحلة "دياسطي" تدعو حقاً للتأمل، بداية من كونه يحمل بداخله الطفل الصغير الذي كان أقرانه يتنمرون عليه بإشارة "العبيط أهه" وصولاً إلى تأمله في معنى البطولة والوطن والحب والفداء والتضحية، بجانب كونه أصلاً مستلهم من قصة الكاتب المصري يحيى حقي الشهيرة، وفيلم حسين كمال الأشهر "البوسطجي"، الذي كان يفتح خطابات أهل القرية ليتلصص عليهم، بينما بوسطجي "عمر أفندي" يفتحها كي يحول دون وصول الأخبار السيئة إلى المرسل إليهم، كل هذا يجعل من شخصية "دياسطي"، باسمه الطريف صاحب التنويعات المضحكة، أهم وأفضل شخصية في المسلسل ككل.

وترتبط كاريكاتورية الشخصيات بعنصر آخر مهم من عناصر الجذب الجماهيري، وهو الإفهيات المكررة الغريبة، واللاذعة في الوقت نفسه، والتي تنتمي في شكلها الخارجي أو محتواها إلى زمن الأربعينيات بمخيلته البدائية، أبرزها بالطبع "زفة الإنجليزي في العشة" و"حاجة 13 خالص"، الأولى تخص السخرية من المحتل، والتي تبدو إهانة بمغزى جنسي واضح، والثانية تخص تفخيم القيمة المضافة إلى أي شيء أو شخص، وتعني القطعة الثالثة عشرة في "دستة" الحلويات خلال حقبة ما قبل 1952.

صنعت هذه الإفهيات حالة مرح شعبوية على طول المسلسل، خصوصاً مع تداولها على ألسنة الكل، وإن ارتبطت "حاجة 13 خالص" بشخصية "زينات"، وأصبحت لازمة لها في مداعبتها لعمر أفندي.

وفي مقابل إفيهات الزمن الجميل، لدينا طرافة استخدام "عمر" لكلمات ومصطلحات الزمن الحالي "أنكشك مثلاً"، والتي تبدو غير مفهومة بالنسبة لأهل الأربعينيات، وإن كان ذلك العنصر منقول على مستوى تكنيكات الكوميديا من فيلم "سمير وشهير وبهير" كجزء من حالة النوستالجيا التي سبق وأشرنا إليها في البداية.

محاكاة أم حنين

بالطبع لا يمكن الجزم بأن أسلوبية العمل على مستوى الكتابة وبعض مساحات الإخراج، لعبد الرحمن أبو غزالة في أول أعماله، اعتمدت بصورة أساسية على بث روح الحنين في المسلسل، ولكن مع تكرار العناصر بصورة أكثر من مجرد التأثر، أصبح من الضروري أن نشير إلى حضور عنصر المحاكاة والمماحكة الدرامية والتأثر والاستلهام والنقل عبر مجمل الحلقات، وتحول هذا العنصر إلى قيمة إيجابية مضافة، رغم تباري الجمهور في محاولة رد كل مشهد أو لقطة أو إفيه أو حدث إلى أصله السينمائي القديم أو الحديث نسبياً.

يمكن أن نضرب أمثلة عديدة، بداية من شخصية "دياسطي" التي أشرنا إلى كونها مأخوذة عن شخصية شكري سرحان في الفيلم الشهير، ثم لدينا شافعي الصغير الذي يذكرنا بـ"بلية" في فيلم "العفاريت"، و"شهيرة" ميمي جمال التي تقدم نفس دور نعيمة الصغير في الفيلم.

ولا يمكن أن نزيح عن بالنا شخصية محمود عبد العزيز "ابن فانطازيا" في فيلم "درب الهوى"، الذي كانت أحداثه تدور في بيت دعارة، وكيف تأثر بها المسلسل في رسم شخصية "مرعي النجس" مدير البيت الأحمر، وحتى على مستوى الزمن الحاضر، لدينا اقتباس شهير لمقطع مستشفى المجانين، وهو واحد من أشهر المقاطع الكوميدية في أفلام الخمسينيات والستينيات، إسماعيل يس بالكامل ومعه رشدي أباظة في "عروس النيل" وعبد المنعم إبراهيم في "طاقية الإخفاء وغيرهم".

ولا يفوتنا تذكر مشهد المزاد في الزمن الحاضر والمأخوذ عن مشهد المزاد الطريف في مسلسل "نيللي وشريهان"، وحمية شخصية سيف في تعلية السعر، دون أن يكون لديه المال الكافي للشراء.

ولا بأس من إعادة مشهد تلقين كمال الشناوي لعمر الحريري في فيلم "سكر هانم" عبارات الغزل، كما نرى في الموعد الغرامي المزدوج بين "دياسطي" وحبيبته، وعمر وزينات، مع إضافة لمسة من فيلم "سمير وشهير وبهير" للثلاثي، باستخدام كلمات أغنية عمرو دياب (يا قمر لو فيه اتنين منك) - في الفيلم الأصلي استخدم شيكو كلمات أغنية "يا سلام" لإيهاب توفيق، وعرضها على عبد الحليم حافظ.

ولا مانع من مشهد مأخوذ من فيلم "في الصيف لازم نحب"، مشهد تطعيم عبد المنعم مدبولي بإبرة ضخمة، وانتقاله إلى الأربعينيات ليصبح ادعاء "عمر" و"دياسطي" أنهما أتو لتطعيم "شهيرة" وعصابتها من الأطفال من أجل تخديرهم وسرقة ورقة اليناصيب الرابحة، وطبعا عمامة الهندي التي يرتديها "عمر "هي نفسها عمامة صلاح ذو الفقار في "الرجل الثاني" بشكلٍ صريح.

تبقى الإشارة إلى استخدام المسلسل لأسلوب الإفهيات الدائرية، وهو انطلاق الإفهية من شخصية ودورانه وعودته إليها مرة أخرى، وأبرز مثال هو استخدام إفيه "الشارع اللي وراه"، حيث يطلق "عمر" الإفيه الشهير في وجه "أباظة" الذي لا يفهمه بالطبع، بحكم اختلاف الزمن، لكنه في النهاية يعيد إطلاقه في وجه "عمر" عندما شعر بأنه دلالة "انتصار" أو رد اعتبار، بعد أن تعرض للتهزيق أمام "زينات" وأراد أن يرد الإهانة لـ"عمر" وهكذا.

وأسلوب الإفهيات الدائرية، واحد من أكثر الأساليب التي يستخدمها الكاتب في النص، بالإضافة إلى أسلوب كوميديا العكس، حيث يختلف فعل الشخصية عن قولها أو قولها عن فعلها -كثيراً ما يستخدمه مع "شلهوب" في مشاهد ضعفه الجنسي- وكلها أساليب بسيطة وتكنيكات إضحاك كلاسيكية، لكن من الواضح أن الجمهور استجاب لها بشكلٍ تفاعلي جعلته يتغاضى عن أي ركاكة في البناء أو تكرار في خطوط الشخصيات أو نمطية حركتها.

يكفي أن كل مشاهد بيت الدعارة، عبارة عن مشهد واحد مكرر في كل حلقة بشكل مستهلك جداً، ناهينا عن مشاهد "شلهوب" وعجزه الجنسي، وابتزاز "أباظة" لـ"زينات" و"المعتزلة"، ومحاولات "دياسطي" اللانهائية، لأن يصبح بطل وطني، وغيرها من التكرارات التي أضرت كثيراً إيقاع العمل، ومتانة الكوميديا، وشوهت من طيبة الزمن الجميل وملاحة أيامه التي كان لا يزال فيها شجر في الشوارع، وابتسامات صافية على الوجوه لا يغبرها الأسمنت، أو يزعجها مكالمات سماسرة العقارات.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك