رغم فشل الديمقراطيين للمرة الثانية في تمرير قانون في مجلس الشيوخ الأميركي يحمي حق المرأة في الإجهاض، إلا أنهم يعتقدون أن خسارة حقوق الإجهاض المتوقعة مع صدور حكم جديد من المحكمة العليا خلال أسابيع، سيُنشط قاعدتهم الحزبية، ويساعدهم على الفوز بالمناطق المتأرجحة في الانتخابات النصفية للكونجرس.
وفي المقابل، يقول الجمهوريون إنَّ ناخبيهم المناهضين للإجهاض أكثر كثافة ولا يزالون متحمسين.
وتعتبر هذه القضية "ساخنة" جداً في الولايات المتحدة، وخير دليل على ذلك، خروج عشرات الآلاف للتظاهر السبت، في ولايات عدة، للدفاع عن حق الإجهاض.
لكن ما السبب الذي جعل قضية الإجهاض نقطة ساخنة في الولايات المتحدة على مدى نصف قرن، ولماذا يُعتقد أنها ستستمر صراعاً بلا نهاية مع تصاعد حدة الانقسام السياسي والديني والجغرافي بمرور الأيام في المجتمع الأميركي؟
وقد يكون الجمهوريون على وشك تحقيق انتصار قانوني بعد نشر مسودة رأي مسربة من قاضي المحكمة العليا صمويل أليتو، تشير إلى أن الأغلبية داخل المحكمة تعتزم خلال أسابيع، إلغاء الحكم السابق الذي أصدرته عام 1973 في قضية "رو ضد وايد"، والتي ربطت حق المرأة دستورياً باختيار إنهاء الحمل بأن يكون الجنين قادراً على الحياة خارج الرحم، وكانت تصل آنذاك إلى 28 أسبوعاً، قبل تقليصها إلى 23 أسبوعاً.
ابتهاج وتحفظ جمهوري
وأثار الحكم المرتقب ابتهاج الجمهوريين والمحافظين في المجتمع الأميركي، نظراً لكونه سيعهد بمسألة تنظيم الإجهاض إلى العملية السياسية عبر المشرعين في الولايات الأميركية، بما يعد تتويجاً لحركتهم النضالية بعد 49 عاماً من المحاولات اليائسة.
ومع ذلك، فإن مرشحي الجمهوريين ليسوا في عجلة من أمرهم للحديث عن قضية الإجهاض خلال الحملات الانتخابية التي بدأت تزداد سخونة، وخاصة أن عشرات المناطق الانتخابية المتأرجحة في بعض الولايات، قد تتأثر بحملة الديمقراطيين لجعل القضية محورية وحاسمة في اختيار من سيصوت له الناخب يوم 8 نوفمبر المقبل، وهو موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أنَّ هناك دلائل على أنَّ الجمهوريين ليسوا مستعدين للتداعيات السياسية الشائكة للأجواء السياسية في فترة ما بعد صدور الحكم، إذ نصحت مذكرة من اللجنة الوطنية الجمهورية لمجلس الشيوخ مرشحي الحزب بالابتعاد عن القضية، وفي حالة الضرورة، أن يحاولوا بناء توافق ومهاجمة الديمقراطيين لدعمهم عمليات الإجهاض المتأخرة وتمويل دافعي الضرائب لها.
ويأمل الجمهوريون أن تسيطر القضايا الأخرى على الصراع الانتخابي ضد الديمقراطيين، فعلى سبيل المثال، يرى السيناتور جون باراسو وهو ثالث أهم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، أن الناخبين سيكونون أكثر تركيزاً على الهجرة والجريمة والاقتصاد، بعدما بلغ التضخم أعلى مستوياته على الإطلاق، وأن الناس سيتخذون قرارهم الانتخابي وفقاً لمدى تأثر حياتهم الشخصية.
كما اعتبر السيناتور الجمهوري جوني إرنست، أن تغيير حكم "رو ضد وايد" حول حق الإجهاض، سيكون بمنزلة نقطة صغيرة في البيئة السياسية الحالية، وليس نقطة قرار للناخبين الذين سيعيدون الجمهوريين للسيطرة على مجلس الشيوخ.
رهانات الديمقراطيين
في المقابل، يرى الديمقراطيون فرصة سياسية جيدة قبل الانتخابات، عبر نجاحهم في إجبار الجمهوريين على السير بشكل رسمي ضد حق الإجهاض، خاصة بعدما أظهرت استطلاعات الرأي أن معظم الناخبين يفضلون بعض الإجهاض القانوني على الأقل.
وقال موقع "أكسيوس" الأميركي، إن الديمقراطيين يخططون لاستخدام الهزيمة كفرصة لإثبات أن الجمهوريين "متطرفون"، وأن الطريقة الوحيدة لحماية الحقوق الإنجابية وغيرها من وسائل الحماية الحيوية، هي انتخاب المزيد من الديمقراطيين.
ولا يزال تشاك شومر زعيم الأغلبية الديمقراطية في المجلس ينظر إلى التصويت الذي تم الأربعاء الماضي، باعتباره أهم الخطوات التي اتخذها الحزب على الإطلاق، لأن الناخبين سيعتبرون أن المشرعين الديمقراطيين يقاتلون من أجل الحقوق الإنجابية، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
واعتبر الرئيس جو بايدن في بيان له بعد التصويت، أن الجمهوريين الذين رفضوا بالإجماع إقرار مشروع القانون الذي يوسع حق الإجهاض، يقفون في طريق حقوق الأميركيين، بشأن اتخاذ أكثر القرارات الشخصية بشأن أجسادهم وعائلاتهم وحياتهم.
وقال بايدن إن الناخبين يحتاجون إلى انتخاب المزيد من أعضاء مجلس الشيوخ المؤيدين لحق الاختيار، والاحتفاظ بالأغلبية المؤيدة لهذا الحق في مجلس النواب، حتى يتمكن الكونجرس من تمرير هذا القانون في يناير المقبل، ليتمكن من توقيعه ويصبح قانوناً فيدرالياً.
هل القانون الفيدرالي الحل؟
ويعني إصدار قانون فيدرالي صادر عن الكونجرس ويوقعه الرئيس، أنه سيكون ملزماً لجميع الولايات، حسبما تقول ليندا ماكلين، أستاذة القانون في جامعة بوسطن لموقع "ياهو نيوز".
لكن إذا كانت العملية الديمقراطية غير مؤاتية، فسيواجه الراغبون في دفع مشروع القانون صعوبات عديدة، وهو ما حدث مرتين حول حقوق الإجهاض، حيث نجح الجمهوريون في المجلس بمنع قانون حماية صحة المرأة المقترح، وإذا خسر الديمقراطيون الأغلبية في مجلس النواب أو فشلوا في الحصول على مقاعد أكثر في مجلس الشيوخ، فإن فرص تمرير أي تشريع يحمي حقوق الإجهاض ستبدو ضئيلة للغاية.
وحتى إذا تمكن الديمقراطيون من الإبقاء على سيطرتهم في مجلس النواب، وزيادة مقعد أو أكثر قليلاً في مجلس الشيوخ، فإن ذلك لا يضمن إقرار القانون إلا عبر إنهاء آلية التعطيل أو المماطلة المعروفة باسم "فوليبيستر"، والتي تتطلب موافقة 60 صوتاً في مجلس الشيوخ لتمرير التشريعات، الأمر الذي يرفضه بعض الديمقراطيين الوسطيين مثل السيناتور جو مانشين.
كما يتردد ديمقراطيون آخرون في استخدامها، لأنها تفتح الباب للجمهوريين لاستخدام الأسلوب نفسه وتمرير ما يرونه من تشريعات، حال سيطرتهم على مجلس الشيوخ.
عقبة المحكمة العليا
وفضلاً عن ذلك، إذا كان الكونجرس قادراً على تمرير قانون يكرس الحق في الإجهاض لجميع الأميركيين، فستظهر مشكلة أخرى، إذ من المؤكد أن بعض الولايات المحافظة ستسعى إلى إلغاء القانون مثلما تفعل الآن، بدعوى أن الحكومة الفيدرالية تتجاوز سلطتها.
وإذا تم رفع القضية إلى المحكمة العليا، فمن المفترض أن القضاة المحافظين وعددهم حالياً 6 مقابل 3 ليبراليين، سينظرون بشكل غير مواتٍ إلى أي محاولة لتقييد حقوق كل ولاية، عندما يتعلق الأمر بالإجهاض، كما أن أي محاولة لوضع قانون فيدرالي يقيّد الإجهاض للجميع، قد يتعارض مع موقف المحكمة العليا بأنه ينبغي ترك الأمر للولايات لاتخاذ القرار.
وفي حين أشار الديمقراطيون من قبل، إلى أنهم قد يتجهون إلى زيادة مقاعد المحكمة العليا أو تحديد فترة ولاية خدمة القضاة بسنوات محددة بدلاً من البقاء في مقعدهم مدى الحياة عبر إصدار قانون يقره الرئيس، وبما يسمح بإنهاء سيطرة المحافظين على المحكمة وانضمام قضاة ليبراليين أكثر إليها، إلا أن أغلبيتهم الضئيلة جداً في مجلس الشيوخ (50 – 50) واعتراض السيناتور مانشين، لم يُمَكنهم من ذلك.
وفي هذه الحالة، لن يكون بمقدور نائبة الرئيس كامالا هاريس كسر التعادل لإقرار القانون، لأن تعادل الأصوات لن يحدث من الأساس.
هل من كلمة أخيرة؟
ولا يعني هذا أنه لا يمكن حماية حق الإجهاض من خلال قانون، ولكن فقط أن العملية السياسية الآن أصعب بالنسبة إلى الديمقراطيين، كما أنه ليس هناك ما يضمن أن التشريع الذي يقره أي كونجرس، لن يتم إلغاؤه من قبل المشرعين في وقت لاحق.
وبحسب ماكلين، فإن الحقوق بشكل عام تتمتع بحماية أكثر استمرارية، إذا حكمت بها المحكمة العليا، إذ إن لها الكلمة الأخيرة بشأن ما يحميه وما لا يحميه الدستور في ظل نظام الولايات المتحدة، حيث يُنظر إلى بعض الحريات على أنها أساسية للغاية، بحيث لا ينبغي ترك حمايتها لأهواء تغيير الأغلبية في نظام الحكم الديمقراطي.
ومع ذلك، كان يُنظر إلى ما تقرره المحكمة على أنه كافٍ لحماية الحق الدستوري، لكن رأي المحكمة العليا الذي تم تسريبه ونشرته صحيفة "بوليتيكو" أخيراً، يشير أيضاً إلى أن أحد حدود تلك الحماية ليست دائمة، لأن المحكمة العليا قد تلغي أحكامها السابقة.
وهذه ليست المرة الأولى على ما يبدو، حيث يشير القاضي أليتو في مسودة رأيه المسربة، إلى أن المحكمة العليا ألغت عام 1937 سلسلة كاملة من أحكام سابقة في قضايا تحمي حق الحرية الفردية ضد تشريعات فيدرالية للصحة والرعاية الاجتماعية.
ما الذي سيحدث؟
إذا ألغت المحكمة العليا حكم قضية "رو ضد وايد"، فستكون جميع الولايات الخمسين حرة في وضع قواعدها وقوانينها الخاصة، ما يؤدي إلى أميركا منقسمة، يكون فيها الإجهاض قانونياً في نصف الولايات تقريباً، ومحظوراً بشكل قانوني في النصف الآخر.
ومنذ تنصيب الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2017، بدأ المشرعون الجمهوريون في ولايات الجنوب والغرب الأوسط، في تمرير قوانين تقيد الإجهاض بشكل متزايد، حيث أقرَّ المشرعون في ولايات مثل ميسيسيبي وكنتاكي وجورجيا، قوانين تُعرف باسم "نبضات القلب" التي تحظر عمليات الإجهاض في وقت مبكر يصل إلى 15 أسبوعاً، وبعضها 6 أسابيع.
ويعتقد مهندسو هذه القوانين أن مثل هذه القيود ستحظى بفرصة أفضل من السنوات الماضية، في المحكمة العليا، وذلك بفضل تعيين ترمب 3 قضاة ذوي ميول محافظة، وهي قوانين يتفق معظم الخبراء على أنها غير دستورية في ظل الحكم الساري في قضية "رو ضد وايد"، لكنها ستكون دستورية وفاعلة فور صدور الحكم الجديد من المحكمة العليا بقلب الحكم السابق وإلغائه.
في المقابل، أقرت الولايات الليبرالية مثل ماساتشوستس، قوانين تقنن الحكم في قضية "رو ضد وايد"، بعد أن عُرفت النيات الواضحة للمحكمة العليا، بهدف الاستعداد لمستقبل محتمل تختفي فيه الحماية الفيدرالية للحق في الإجهاض، وللتأكد بحماية قوانين الولاية لحق النساء في هذه العملية.
خط أحمر
إحدى المشكلات التي تواجه الولايات المحافظة، هي من سيواجه عقوبة انتهاك القانون إذا تم حظر الإجهاض.
وفي حين تؤكد مذكرة من اللجنة الوطنية الجمهورية لمجلس الشيوخ أنَّ الجمهوريين لا يريدون إيداع الأطباء والممرضين والنساء في السجن، وأنها تسعى لحماية الأمهات بموجب القانون، إلا أن عدداً من قوانين الحزب الجمهوري تهدد الأطباء بالسجن، حيث يصبح الإجهاض جريمة يُعاقَب عليها في بعض الولايات بالسجن لفترات قد تصل إلى 15 عاماً وتستهدف بشكل صريح مقدمي ومراكز الخدمة.
لكن بعض الولايات تعاقب النساء اللاتي يسعين إلى الإجهاض أيضاً مثل ولاية لويزيانا، بينما في ولاية كارولينا الجنوبية، يجعل القانون الحالي النساء اللواتي يسعين إلى الإجهاض غير القانوني مذنبات بارتكاب جُنحة، تصل عقوبتها إلى السجن لمدة عامين.
وتشكل هذه العقوبات مشكلة للجمهوريين، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن العديد من الأميركيين ينظرون إلى هذه القضية بوصفها خطاً أحمر.
وأشار استطلاع "جامعة مونماوث" إلى أن 60% من الأميركيين سينزعجون إذا تعاملت الولايات مع الإجهاض غير القانوني على أنه جريمة قتل، ومعاقبة كل من مقدم الخدمة والمرأة وفقاً لذلك، كما قال 77% إنهم سيتضايقون قليلاً من هذا الاحتمال.
الرأي العام
وظل الديمقراطيون يراهنون على أن لديهم رأياً عاماً يساندهم حتى الأيام الأخيرة، عندما كشف استطلاع أجراه "مركز بيو للأبحاث" قبل أيام، أنه في حين عارضت أغلبية قوية من الأميركيين إلغاء حق الإجهاض، إلا أن مواقفهم منقسمة اعتماداً على السؤال المطروح.
وأيّد 19% فقط أن يكون الإجهاض قانونياً في جميع الحالات، بينما أراد 42% أن يكون قانونياً في معظم الحالات، لكنهم سيقبلون بعض الاستثناءات عندما يكون الإجهاض غير قانوني، في المقابل عبّر 8% في عن رغبتهم في أن يكون الإجهاض غير قانوني في جميع الحالات، بينما أراد 29% أن يكون غير قانوني في معظم الحالات، لكنهم سيقبلون بعض الاستثناءات عندما يكون قانونياً.
ويشير الواقع أيضاً، إلى أن القضية تنطوي على أخطار سياسية للديمقراطيين والجمهوريين معاً، إذ تعكس الاستطلاعات أيضاً دعماً واسعاً لبعض القيود على الإجهاض وبالتحديد "الإجهاض المتأخر"، وحظر بعض الإجراءات، وغيرها من العوائق.
وما يزيد من صعوبة تقدير الآراء، أن هناك مجالاً كبيراً بين الناخبين من كل حزب، للفوارق الدقيقة، حيث أوضحت شركة الأبحاث "بيري آندم" أن العديد من ناخبي ترمب عام 2016، عبروا عن إحباطهم من قيود الإجهاض التي تفرضها بعض الولايات.
وفي المقابل، تقول "اللجنة الوطنية للحق في الحياة" المناهضة للإجهاض، إنها تحدثت مع العديد من الديمقراطيين القدامى الذين أخبروا اللجنة عام 2016، أنهم لا يستطيعون التصويت لهيلاري كلينتون بسبب موقفها المؤيد للإجهاض.
انقسام مجتمعي وجغرافي
وعلى مدار سنوات، كانت الولايات المتحدة تبتعد أكثر عن بعضها البعض، ضمن كيانات ثقافية وسياسية متباينة إلى حد كبير، فهناك أميركا حمراء، حيث الأغلبية من المحافظين الجمهوريين، وأخرى زرقاء حيث الأغلبية من الليبراليين الديمقراطيين.
ومع هذين الطرفين ظهرت حقائق متباينة بشكل صارخ عن ارتداء الأقنعة واللقاحات وحقوق السلاح وحقوق التصويت، وشرعية انتخابات 2020.
والآن ستنفتح الهوة على نطاق أوسع، إذا ألغت المحكمة العليا قضية "رو ضد وايد"، كما يبدو واضحاً حتى الآن، حيث سارع حكام الولايات والمشرعون إلى تحديد قيم أميركتين منفصلتين، فبينما تعهد حاكم ولاية كاليفورنيا جافين نيوسوم بتعديل دستور ولايته لحماية حقوق الإجهاض، وقع حاكم ولاية أوكلاهوما كيفين ستيت على تشريع جديد يحظر الإجهاض بعد 6 أسابيع.
وبدا من المواقف المعلنة أن المنطقة الشمالية الشرقية المكتظة بالسكان والساحل الأطلسي الأوسط والساحل الغربي، تشكل كتلة واحدة متشابهة التفكير تؤيد حق الإجهاض، بينما تشكل ولايات الجنوب ومعظم ولايات الغرب الأوسط كتلة أخرى مناهضة للإجهاض.
وينذر هذا الانقسام بتعميق الاستقطاب وفقاً لمايك مورفي، الاستراتيجي الجمهوري المخضرم والمدير المشارك لمركز "دورنسيف" للمستقبل السياسي في جامعة جنوب كاليفورنيا، الذي يصف أميركا بأنها أصبحت قبلية تماماً، حيث لا يوجد خصوم بعد الآن، وإنما أعداء فقط.
الأسوأ قادم
ووجدت دراسات عدة، أن الديمقراطيين والجمهوريين في الكونجرس، أصبحوا أكثر تباعداً من الناحية الأيديولوجية، عن أي وقت مضى في نصف القرن الماضي، كما تعمقت مناطق مجلس النواب بشكل صارم في الاتجاه الليبرالي أو المحافظ، لدرجة أن بعض المناطق فقط ستكون قادرة على المنافسة في انتخابات الخريف المقبل.
وإضافة إلى ذلك، قال 4% من الديمقراطيين والجمهوريين عام 1960، إنهم لن يكونوا سعداء إذا تزوج أولادهم من شخص ينتمي للحزب الآخر، لكن اليوم، وفقاً لمعهد أبحاث الدين العام، ارتفع هذا العدد إلى 35% بين الجمهوريين وإلى 45% بين الديمقراطيين.
وعلى مدى 4 سنوات فقط، وجد معهد دراسات الأسرة، أن الزيجات بين الجمهوريين والديمقراطيين انخفضت بمقدار النصف.
وتشير ليليانا ماسون، أستاذة العلوم السياسية في "جامعة جونز هوبكنز"، في دراسة لها عن عواقب الاستقطاب على الهويات الأيدلوجية، نشرتها فصلية "الرأي العام"، إلى أن الأميركيين لا يريدون حتى العيش بجوار شخص من الطرف الآخر، محذرة من أن تجزئة قوانين الإجهاض في أميركا، لن يؤدي إلا إلى تفاقم هذه الاتجاهات، حيث سعى الناس للعيش في ولايات وافقوا فيها على القوانين الجديدة.
أصل "رو ضد وايد"
ويبدو أن الانقسام حول قضية الإجهاض، كان وسيظل قائماً لفترة طويلة قادمة، كما كان في الماضي، وهو ما يشير إليه تطور وتغير مواقف الأميركيين مع القضية منذ نصف قرن، حينما أصدر قضاة المحكمة العليا في 22 يناير عام 1973، حكمهم بأغلبية 7 أصوات ضد 2 في قضية "رو ضد وايد".
وكتب رأي الأغلبية القاضي هاري بلاكمون، وهو جمهوري من الغرب الأوسط ومدافع عن الحق في الإجهاض، حيث أنشأ القرار التاريخي حقاً دستورياً للإجهاض، وألغى القوانين في العديد من الولايات التي تحظره، معلناً أنه لا يمكنها حظر الإجراء قبل الوقت الذي يمكن للجنين أن يعيش فيه خارج الرحم.
وتعود القضية إلى عام 1970، حين كانت امرأة في تكساس تُدعى نورما مكورفي حاملاً في شهرها الخامس بطفلها الثالث وأرادت الإجهاض، ومثلها محاميتان من دالاس، هما سارة ويدينجتون وليندا كوفي، من أجل تحدي حظر الولاية للإجهاض.
واتخذت ماكورفي اسماً مستعاراً، هو "جين رو"، بينما يشير مصطلح "وايد" إلى المدعى عليه، هنري وايد، الذي كان يشغل منصب المدعي العام في مقاطعة دالاس، بولاية تكساس في ذلك الوقت.
ماذا فعلت القضية؟
أنشأت قضية "رو ضد وايد"، إطار عمل لتنظيم الإجهاض بناءً على شهور الحمل، إذ لم يُسمح في الثلث الأول من الحمل بأي لوائح أو قوانين تحظر الإجهاض، وفي الثلث الثاني، سُمح بقوانين تسمح بالإجهاض لحماية صحة المرأة، وفي الثلث الأخير، سُمح للولايات بحظر عمليات الإجهاض، إلا إذا كانت هناك استثناءات لحماية حياة وصحة الأم.
ورغم أن المحكمة العليا أعادت تأكيد حكم "رو" عام 1992، حينما نظرت في قضية "منظمة الأبوة ضد كيسي"، إلا أن القضاة فرضوا معياراً جديداً لتحديد صلاحية القوانين التي تقيد عمليات الإجهاض وأضافوا شرط إخطار الزوج بالإجهاض.
بداية المواجهة
ومنذ بداية السبعينيات، تحولت قضية الإجهاض إلى نقطة ساخنة في الحملات الانتخابية وفي الأجندة الوطنية الأميركية بشكل عام، خاصة من قبل ائتلاف المحافظين السياسيين مع المحافظين الدينيين.
وأشار موقع المكتبة الوطنية الأميركية للطب، إلى أن تزايد تأييد الأميركيين لحق الاختيار والخصوصية الذي أقرَّته المحكمة العليا، تصدت له القوى المؤيدة للحياة "المناهضة للإجهاض" التي استولت على الأجندات المحلية للجمهوريين من خلال محاولات إصلاح الحزب الجمهوري التقليدي.
وهنا بدأ الجنوب والغرب الأوسط المحافظان تقليدياً في السيطرة على المزيد من المقاعد في مجلس النواب، وعندما أصبح الأميركيون أكثر ثراءً، وبالتالي أكثر اهتماماً بالضرائب والتضخم، حرصت هذه القوى على بذل جهود لجلب المحافظين الاجتماعيين، وخاصة المؤيدين للحياة، إلى الحزب الجمهوري بأساليب مختلفة.
الأغلبية الأخلاقية
وفي أواخر السبعينيات، غضب المسيحيون الأصوليون من قرارات المحكمة العليا التي تحظر الصلاة في المدارس، وتقنين الإجهاض، وقرار الرئيس جيمي كارتر بسحب الإعفاء الضريبي من المدارس الكنسية المنفصلة.
واستغل المحافظون ورجال الدين في القنوات الإذاعية والتلفزيونية هذا الوضع لكسب تعاطف وتأييد أنصارهم، وخاصة الإنجيلي التلفزيوني جيري فالويل الذي استخدم تكتيكات التخويف للترويج لما أسموه "الأغلبية الأخلاقية".
كما حاول اليمين الجديد التواصل مع 50 مليون روماني كاثوليكي، من خلال حركة الحق في الحياة، حيث عمل الأساقفة الكاثوليك بشكل وثيق مع اليمين الجديد في البداية، لكن معظم الكاثوليك العاديين لم يشاركوا معارضة كنيستهم للإجهاض في جميع الحالات.
وعندما فاز رونالد ريجان بالرئاسة عام 1980، سارع اليمين الجديد إلى إعلان الفوز، حيث تحولت مواقف ريجان، والذي كان حاكماً لولاية كاليفورنيا عام 1967، إلى الدعوة في حملته الرئاسية لعام 1980 إلى تعيين قضاة مناهضين للإجهاض.
وعلى مدى السنوات التالية، تمت صياغة سياسات الحزب الجمهوري لإرضاء الجمهوريين الجدد المناهضين للإجهاض، وانضم البروتستانت الإنجيليون البيض إلى هذا التيار، حيث أشارت استطلاعات الرأي، إلى أنهم أكثر الجماعات الدينية مناهضة للإجهاض القانوني بنسبة تأييد وصلت إلى أكثر من 77%.
في المقابل يرى 63% من البروتستانت البيض غير الإنجيليين، أن الإجهاض يجب أن يكون قانونياً في جميع الحالات أو معظمها، كما أن 55% من الكاثوليك يؤيدون الإجهاض القانوني في جميع الحالات أو معظمها، رغم أن معارضة الكنيسة الكاثوليكية القوية للإجهاض ومنع الحمل معروفة جيداً.
وفي خضم هذه الدوافع من أجل قبول عام أكبر للإجهاض، أصبح ترمب رئيساً ووعد خلال حملته الانتخابية بتعيين قضاة في المحكمة العليا لإلغاء قضية "رو ضد وايد"، وقد أوفى بوعده الذي تبلورت نتيجته الآن مع تسريب رأي المحكمة، بمن فيهم القضاة الثلاثة الذين عينهم.
صراع بلا نهاية
ومع تزايد قوة المسيحيين المحافظين الذين يؤمنون بأن الحياة تبدأ عند الحمل، لا يمكن أن يكون هناك حل وسط بشأن مسألة الإجهاض، حسبما يقول ستيفن جرين أستاذ القانون، ومدير مركز الدين والقانون والديمقراطية في "جامعة ويلاميت" في مقال لموقع "ياهو نيوز".
لقد ظلت قضية الإجهاض أولوية بين المحافظين بطريقة لا يشاركها الليبراليون، ما يساعد على تفسير الكثير من قوة الحركة المناهضة للإجهاض، فعلى الرغم من السنوات الخمسين التي دعمت حق الإجهاض، استمر اليقين الأخلاقي لدى النشطاء المناهضين للإجهاض بشأن هذه القضية قوي جداً.
ويعتقد هؤلاء أن القواعد والمبادئ القانونية، ليست مطلقة، بينما اليقين الديني بشأن خطأ الإجهاض يوفر إجابة يفتقر إليها القانون، ولهذا سيظل الصراع محتدماً بين طرفين لا يلتقيان لسنوات وعقود أخرى قادمة.
اقرأ أيضاً: