هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".
بقلم: الدكتور جون سيكو
- مدير "بورنهام جلوبال" (Burnham Global)، وهي شركة مقرها دبي وتوفر حلولاً أمنية وتدريبية مخصصة للحكومات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العديد من الحكومات في جميع أنحاء إفريقيا. عمل لمدة 15 عاماً في الحكومة الأميركية كمحلل ودبلوماسي، وشغل مناصب في غرب وجنوب إفريقيا. كما ترأس فريق استخبارات الأعمال في إفريقيا لشركة استشارية رائدة في مجال المخاطر في لندن.
- حصل على درجة الدكتوراه في السياسة الإفريقية بجامعة جنوب إفريقيا. وهو أيضاً مؤلف كتاب (Inside South Africa’s Foreign Policy: Diplomacy in Africa from Smuts to Mbeki)، الذي صدر عام 2014. كما شارك في تأليف كتاب (African Security: An Introduction) عام 2020.
- يحاضر حالياً في جامعة ولونجونج وحرم جامعة ميدلسكس في دبي.
شهدت الأشهر القليلة الماضية عدداً من الزيارات والاجتماعات من جانب القوى الدولية، تركزت فيها الأضواء على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في خضم التنافس العالمي على النفوذ والموارد. بين يونيو وأغسطس 2022، زار القارة الإفريقية المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إذ طافوا في المجمل على 13 دولة. وفي وقت سابق من العام أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -وهو من زوار القارة المواظبين- مكالمات لثلاث عواصم إفريقية. وفوق ذلك عقد الرئيس الأميركي جو بايدن في ديسمبر قمة أميركية إفريقية هي الأولى منذ عام 2014، وحضرها أكثر من 40 من قادة الدول والحكومات.
هذا النشاط المحموم أعاد إلى الأذهان عبارة "التكالب الجديد على إفريقيا"، فاللاعبون الخارجيون -بمن فيهم القوى العظمى كالولايات المتحدة والصين، والقوى الأصغر ذات النشاط البارز كالقوة الإقليمية تركيا- يتنافسون في إفريقيا على النفوذ الجيوسياسي وعلى المكاسب الاقتصادية. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فإفريقيا جنوب الصحراء هي آخر أرض وسوق بِكر في العالم، وفيها 49 دولة تملك تقديم فرصٍ استثمارية رغم وعورة البيئة. كما أنها تمثل الكتلة التصويتية الأكبر في الأمم المتحدة، ما يمنحها مكانة عالية في الساحة السياسية الدولية.
الصين تتقدم السباق
وفي حين يتبدّل اللاعبون، ما فتئت إفريقيا مسرحاً لتنافس القوى الكبرى منذ قرون. لقد اقتطعت القوى الأوروبية لنفسها مناطق على الساحل بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، في سبيل الحصول على منافع اقتصادية -خصوصاً تصدير العبيد- ولتعزيز هيمنتها العالمية. ومع نهاية القرن التاسع عشر، رأينا بريطانيا وفرنسا والبرتغال وألمانيا وغيرها تقتسم القارة على هيئة مستعمرات، وقد عرفت هذه الفترة باسم (التكالب على إفريقيا).
وأثناء فترة الاستقلال، من أواخر خمسينيات القرن العشرين حتى أواسط السبعينيات، تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً في إفريقيا، هذا مع استمرار نشاط القوى الاستعمارية القديمة، خصوصاً فرنسا. وحديثاً، على مدى العقدين المنصرمين، دفعت الشهية المفتوحة للموارد الطبيعية الصين إلى أن تصبح أكبر اللاعبين الخارجيين، الأمر الذي أثار مخاوف غربية امتدَّت من القدرة على الوصول إلى المعادن المهمة، إلى انحسار الشفافية وغياب الحوكمة الديمقراطية في دول إفريقيا.
عندما نلقي نظرة من الأعلى على سباق النفوذ في إفريقيا، فلن يغيب عنا أن الصين هي اللاعب الخارجي المسيطر، على الأقل من ناحية اقتصادية. ومنذ بدء القرن الحادي والعشرين شهد النشاط الاقتصادي الصيني في القارة قفزات كبيرة. فمثلاً ارتفع حجم التجارة الصينية الإفريقية (بما في ذلك شمال إفريقيا) من 10 مليارات دولار تقريباً، في عام 2000، إلى 254 ملياراً في عام 2021. مثَّل هذا الرقم زيادة عن سابقه في عام كورونا 2020 بنسبة 35%. هذا يجعل الصين متقدمة على أي دولة خارجية أخرى، وهي في طريقها لكي تسبق دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بحلول نهاية العقد الحالي. وتبلغ تجارة الاتحاد الأوروبي مع إفريقيا حالياً 300 مليار دولار.
التجارة مجرد جزء من القصة؛ فهناك الاستثمار الصيني المباشر الذي شهد زيادة حادة، إذ بلغ في المجموع 44 مليار دولار، وهو يظل أقل من استثمار القوى الاستعمارية القديمة بريطانيا وفرنسا اللتين سبقتا إلى تأسيس استثماراتهما الإفريقية منذ عدة عقود.
لعبة القروض
وبرزت الصين كأكبر مقرض حكومي للقارة، إذ منحت قروضاً بقيمة 160 مليار دولار لإفريقيا بين 2000 و2020، ذهب ثلثاها إلى تمويل مشاريع البنية التحتية. ووُجهت انتقادات متنوعة للمشاريع الصينية، من الجودة المتدنية في التنفيذ، والاستقدام المكثف للعمالة الصينية، إلى اتهامات بالفساد وقلة الشفافية.
كما أن الصين قاسية في المطالبة بسداد الدين ما يثير المخاوف بأن تستولي على المنشآت في حال عدم السداد. لكن أثر المشاريع الصينية في القارة يبقى في العموم إيجابياً عند معظم الأفارقة (خصوصاً المشاريع في المدن الإفريقية التي تتوسع بسرعة، وتعاني حاجة ماسة إلى الطرق والجسور والسكك الحديد)، فالمشاريع التي تقوم بها الصين تنجز بأسرع كثيراً من المشاريع الممولة من دول غربية. وأظهر استطلاع نشره مؤخراً "أفروباروميتر" أن السكان في 34 دولة إفريقية ينظرون بنسبة 64% إلى الصين نظرة إيجابية. وهذا يتجاوز أي دولة أجنبية أخرى، أو أي ممول متعدد الأطراف.
هذه النقطة الأخيرة المتعلقة بالنظرة الإيجابية للنشاط الصيني مهمة في سياق النقاش حول التنافس الجيوسياسي في القارة. إذا بحثنا في جوجل عن عبارة "التنافس الجديد على إفريقيا" سنجد في السنوات الخمس الماضية عشرات المقالات التي تحمل هذا العنوان أو تجعله عنواناً فرعياً؛ وكثير منها يتجاهل أهم لاعب في هذه اللعبة الكبيرة: الأفارقة أنفسهم. ففي نهاية المطاف فإن الحكومات الإفريقية مسؤولة أمام شعوبها، وقراراتها بشأن الشريك التجاري المفضل، أو المستثمر أو الحليف السياسي، تستند إلى ما يتم تحقيقه للمواطنين من نتائج.
لقد انتزعت الصين -حكومةً وشركات حكومية وشركات خاصة- موقعها في إفريقيا ببساطة لأنها حاضرة في الميدان. ورغم أن الرئيس الصيني تشي جين بينج لم يزر إفريقيا منذ بدء الجائحة، فإنه كان قد زار القارة عشر مرات بين عامي 2014 و2020، متجاوزاً أي زعيم آخر، أما وزير خارجيته السابق وانج يي فقد زار 48 دولة إفريقية. وعلى وجه التفصيل، فإن الشركات الصينية أكثر إقبالاً من الشركات الغربية على العمل في ظروف خطرة، وضمن بيئة تغلفها قلة الشفافية وارتفاع مستوى المخاطرة (ويصاحب ذلك بالطبع ارتفاع في المردود المادي). هذا يمثل نظرة الصين وشركاتها المملوكة للدولة أو الخاصة التي تأتمر بأوامر الدولة تجاه الاستثمار، وهو عنصر مهم في تعزيز النفوذ الصيني، (وللمقارنة فإن الحكومة الأميركية لا تملك أن تفرض على "إكسون موبايل" أو "جنرال موتورز" مثلاً أن تستثمر في دولة معينة، لكنها أثبتت فاعليتها رغم ذلك عندما يتعلق الأمر بتعزيز النفوذ).
اللاعبون القدامى
فماذا عن الدول الأخرى التي تسعى نحو النفوذ والموارد في إفريقيا؟ هناك اللاعبون التقليديون ومن ضمنهم القوى المستعمرة السابقة بريطانيا وفرنسا والبرتغال، ثم عدد من الدول الأخرى كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وهؤلاء جميعاً لاعبون رئيسيون في التجارة والاستثمار (مع ميل للتركيز على الدول الإفريقية المتطورة اقتصادياً كجنوب إفريقيا). وهذه الدول تنشط بشكل خاص في المجال الأمني، وتشارك في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتنفق أكثر من الصين على المساعدات الإنمائية التقليدية.
ورغم ما يتحقق من أمور إيجابية فهناك مجموعة من المشكلات. فرغم أن المستعمرين السابقين يوثقون الصلات مع الدول الإفريقية عبر اللغة والثقافة، فإن تركة الاستعمار، من إهمال تطوير البلاد وعدم إرساء المؤسسات ونهب التراث الثقافي، تبقى حية في أذهان الكثيرين. ويصدُق هذا على فرنسا بشكل خاص، إذ تشهد مستعمراتها السابقة امتعاضاً من النفوذ الفرنسي الباقي والمتجدد، ومن وجود الشركات الفرنسية التي ما زالت تسيطر بشكل كبير على إفريقيا الفرانكوفونية منذ الاستقلال.
حديث الديمقراطية ومواعظ تغير المناخ
ومن العوامل التي تعطل نشاط القوى الاستعمارية التقليدية، ذات البنية الليبرالية الديمقراطية، تشدُّدها بشأن مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية في إفريقيا، وهذا أمر لا تلتفت إليه الصين. لقد ساندت الحكومات الغربية التحولات الديمقراطية في إفريقيا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وهي تؤيد المجتمع المدني، وتؤمن بالشفافية، والحوكمة الديمقراطية، وتعتبر هذا كله النظام الأمثل لكل دولة. على أن هذا التوجه يتضارب مع ميول عدد من الحكومات الإفريقية التي اتجهت بشكل متزايد نحو الحكم الاستبدادي. الأمر هنا يتعلق بالسياسة الواقعية. للدول الغربية أن تتمسك بما تريد من مبادئ، لكن عليها أن تُدرك أنها ستدفع ثمن تلك المبادئ أيضاً.
ومن جهتها فإن الحكومات الإفريقية لا تتوانى في فضح نفاق اللاعبين الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة. أحد الأمثلة على ذلك مسألة الطاقة النظيفة، فالغرب الصناعي يلقي المواعظ على الدول النامية، خصوصاً في إفريقيا، كي تحد من إطلاق الكربون في الجو، هذا رغم أن هذه الدول لا تسهم إلا بالقدر القليل في الاحترار العالمي. والتدقيق في محاسبة هذه الدول يحد من انتفاعها باكتشافات النفط والغاز، ويحكم عليها بالاستمرار تحت وطأة الفقر.
وكان مجلس النواب الأميركي أقر مطلع 2022 بأغلبية كبيرة مرسوماً بالتصدي للنشاطات الروسية "الضارة" في إفريقيا، وهي خطوة جاءت بغير استشارة فيما يبدو، وبغير تفكير في الدول الإفريقية نفسها. وباختصار، فبينما تثمن الدول الإفريقية عالياً المساعدات الغربية، فإنها تشعر باستياء متزايد من المطالب الغربية بالالتزام بسلوكيات ومبادئ لا توافق الدول الإفريقية عليها.
الدول الصاعدة
ثمة نهج آخر تتبعه دول أخرى صاعدة من بينها تركيا والهند والسعودية والإمارات. فهذه الدول لم تنخرط بقوة في إفريقيا جنوب الصحراء إلا في العقد الماضي، غير أنها حققت مكاسب دبلوماسية واقتصادية مهمة في القارة. وقد وضع الرئيس التركي أردوغان القارة، خصوصاً القرن الإفريقي، نصب عينيه، وجعلها في قلب السياسة الخارجية التركية، وأصبحت الشركات التركية الكبيرة والصغيرة حاضرة بقوة في طول القارة وعرضها.
وانتهجت الإمارات هذا النهج، فعززت الروابط الدبلوماسية، وأطلقت عدة شركات كبرى مثل موانئ أبوظبي، وموانئ دبي العالمية، وطيران الإمارات، وشركة دبي للألومنيوم المحدودة- دوبال، استثمارات هامة في القارة الإفريقية. ومن اللافت طريقة تعامل هذه القوى الصاعدة مع الحكومات الإفريقية. فرغم أن غرضها تحقيق مصالحها، مثلها في ذلك مثل اللاعبين التقليديين، إلا أنها تشابه الصين في تجنب محاولة تغيير قيم وسلوك الدول الإفريقية.
حوار لا إملاءات
فما العبر التي تستخلصها الدول الساعية إلى الانغماس بشكل أعمق في إفريقيا؟ العبرة الأولى أنه لنجاح التواصل مع الدول الإفريقية لا بد أن يجري عبر الحوار، لا عن طريق الإملاء كما تفعل دول الغرب في معظم الأحيان. ونجاح الصين يستند إلى أنها تصغي إلى حاجات ورغبات الحكومات الإفريقية، وتنفذ طلباتها بما يعود بالنفع على الجانبين. وبالطبع فإن من حق أي دولة أن ترفض التعامل مع الدول الإفريقية التي لا تتفق معها في القيم وأنماط السلوك ونظام الحكم، ولكن النتيجة أن هذه الدولة لن تحقق النجاح الذي تحققه الدول التي تغض الطرف.
ويجب على الدول الأجنبية أن تفكر بشكل استراتيجي في أساليبها، وخاصة فيما يتعلق بالتوجهات الصاعدة في القارة التي من شأنها التأثير على الأولويات الإفريقية. وسواء فيما يتعلق بالدول الغربية أم القوى الصاعدة فالتجارة بينها وبين دول إفريقيا تتبع نمطاً واحداً هو أن الدول الإفريقية تصدر الخامات رخيصةً، وتستورد المصنوعات الغالية. وهذا يخلف مرارة في نفوس الأفارقة الذين يريدون لدولهم أن تتقدم صناعياً كي تضيف قيمة إلى ما تصدره. والقوى الصاعدة التي تستطيع أن تطور الصناعة في إفريقيا ستجد شركاء بسهولة. ومن أولويات الدول الإفريقية أيضاً إنتاج الطاقة لتعويض النقص الحالي، وسيُقابل المستثمرون بالترحاب إذا كانوا قادرين على بناء قدرات إنتاج الطاقة النظيفة من الرياح ومساقط المياه والشمس.
من المجالات المتاحة الأخرى الأمن. فالقارة الإفريقية مشتعلة بالنزاعات من حزام الساحل وسط القارة إلى شمال نيجيريا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى موزمبيق. ولهذه النزعات أسباب شتى، ولكن ثمة حاجة متزايدة للتعامل معها، بتوفير السلاح والتدريب. وقد قامت روسيا، رغم أنها لاعب ذو دور صغير في إفريقيا، بتوفير الدعم في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى عبر المرتزقة من ميليشيا فاجنر شبه الحكومية، ونالت مقابل ذلك بعض المكاسب. ولأن قدرات مرتزقة فاجنر تظل محدودة ما يقلل فاعليتها، فإن روسيا تتدخل بطرق أخرى لا يرتضيها الغرب، ما أكسبها بعض النفوذ. ولا بد أن القوى الصاعدة ستأخذ الجانب الأمني بعين الاعتبار كمدخل لكسب النفوذ.
مكاسب مشتركة
إن ما تملكه إفريقيا من آفاق اقتصادية فحسب يضمن أن يستمر التنافس عليها بين القوى العالمية -التقليدية منها والصاعدة- على طول القرن الحادي والعشرين. المسألة ما زالت مفتوحة، فرغم أن الصين هي اللاعب الرئيسي، فهناك فرص كثيرة متاحة في كل قطاع اقتصادي تقريباً. ومع أن التعامل مع الصين يبقى الخيار المفضل للدول الإفريقية، فإن الأفارقة يبحثون عن بدائل، متخوفين من الاقتضاء الصيني الصعب للديون، ومن انصراف الصين عن المشاريع الإنشائية الكبرى، ومن النوعية المتدنية للإنشاءات والبضائع الصينية (توفر الشركات التركية منتجات عالية الجودة وبأثمان معقولة، ما يعد مثالاً لكيفية التنافس مع الشركات الصينية). بالإصغاء للشركاء الأفارقة وتفهم التحديات التي يواجهونها، يمكن للاعبين القدامى والجدد تحقيق المزيد من المكاسب لأنفسهم وللبلدان الإفريقية على حد سواء.
لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة: