تراجع خصوبة الرجال.. مخاوف طبية واستغلال تجاري

time reading iconدقائق القراءة - 8
طبيب يقوم بحقن حيوانات منوية في بويضة أثناء عملية تلقيح صناعي. وارسو. 26 أكتوبر 2010 - REUTERS
طبيب يقوم بحقن حيوانات منوية في بويضة أثناء عملية تلقيح صناعي. وارسو. 26 أكتوبر 2010 - REUTERS
دبي-الشرق

على مدار العقد الماضي تزايدت التحذيرات الطبية والأكاديمية من انخفاض مستويات الخصوبة عند الرجال، ما أدى إلى موجة من القلق والتساؤلات بشأن مستقبل البشر، لكن أطراف أخرى استغلت هذه المخاوف تجارياً.

وبحث تقرير مطول لمجلة "NewYork Magazine" في تاريخ هذا القلق من الخصوبة عند الرجال، وجانبها التجاري الذي ميزها خلال السنوات القليلة الماضية، بعدما استغلته شركات ناشئة، وكذلك الجدل السياسي لدى مجموعات عرقية ودينية مختلفة، والتي أثارت قلقها من انخفاض أعداد أفرادها.

وبعد إثارة مسألة تراجع خصوبة الرجال طبياً، أو ما يتم تعريفه بانخفاض عدد الحيوانات المنوية نتيجة عوامل متعددة، برزت شركات ناشئة ورواد أعمال ساهموا في تصاعد هذا القلق.

وأحد أبرز الشركات التي ساهمت في إضفاء الطابع التجاري على هذا "القلق" حيال مستقبل الجنس البشري، هي شركة "Legacy"، التي أسسها الأميركي من أصول فلسطينية خالد كتيلي، الذي بات يعرف كأحد رواد مجال الرعاية الصحية.

وبدأت قصة خالد كتيلي عندما سكب كوباً ساخناً من الشاي على نفسه، وهي الحادثة التي أثارت لديه مخاوف بشأن ما إذا كان بإمكانه أن يصبح أباً، وقاده اختبار الخصوبة المزعج في أحد العيادات إلى تأسيس شركة لاحقاً لإنتاج اختبارات منزلية لقياس الخصوبة عند الرجال، وتجميد السائل المنوي.

اختبارات منزلية وتجارة بحتة

ولطالما كان اختبار قياس نسبة الحيوانات المنوية لدى الرجال فحصاً مقلقاً نظراً لطبيعة إجراءه، ولكن شركات جديدة، إضافة إلى شركة خالد كتيلي، انطلقت في الولايات المتحدة وأوروبا، في تصنيع وسائل للاختبار في المنزل، كما توفر خدمات تجميد السائل المنوي في حال كونه صحياً.

وتزامناً مع انطلاق هذه الشركات، أثارت ورقة أكاديمية أعدها حجاي لافين من الجامعة العبرية وشانا سوان من كلية إيكان للطب في ماونت سايناي بنيويورك، إلى جانب علماء أوبئة مخضرمين آخرين، المخاوف من مسألة تعداد الحيوانات المنوية (الخصوبة). 

والدراسة الأكبر على الإطلاق في هذا الشأن، والتي نشرت عام 2017، حللت 185 دراسة سابقة شملت 42 ألفاً و935 رجلاً، بين 1973 إلى عام 2011. 

ووجدت الدراسة أن مستوى الحيوانات المنوية انخفض بنسبة 59%، وأن متوسط تركيز الحيوانات المنوية انخفض بمقدار النصف، من حوالي 99 مليون حيوان منوي لكل مليلتر إلى 47 مليون، في وقت يعد أي مستوى تحت 15 مليون لكل مليلتر عائقاً أمام التكاثر، ناهيك عن نسبة الصفر لكل ملليلتر، حيث يبدو أن الأمور تمضي في هذا الاتجاه.

تحذيرات مأساوية واستغلال تجاري

مع هذه الدراسة وغيرها، بدأت التحذيرات من أزمة مأساوية في الانتشار، وبدأ كتيلي في توجيه شركته نحو سيناريو "عقم جماعي"، وجذب قاعدة زبائن قلقة بشأن مستقبل خصوبتها.

وبحلول 2022 كانت شركة كتيلي قد فازت بعقود مع كبار شركات التأمين الطبي، وتدفقت عشرات الملايين على شركته من صناديق استثمار، ومشاهير كبار، بينهم جاستن بيبر، وأورلاندو بلوم، وذا ويكند.

وتفاخر كتيلي بأن شركته تختبر وتجمد عينات من السائل المنوي، أكثر من أي شركة أخرى في أميركا.

وفي الخمس سنوات اللاحقة على نشر الدراسة بشأن "أزمة السائل المنوي"، دخلت مجموعة من اختبارات السائل المنوي المنزلية إلى الأسواق، وهناك عدة أنواع بينها "Yo"، و"Path Fertility" و"Dadi"، والأخيرة هي المنافس الأبرز لشركة خالد كتيلي.

ووصلت اختبارات أوروبية أيضاً من الدنمارك وبريطانيا، وأغلب أصحابها هم ممن لاحظوا الاتجاهات الأخيرة في السوق، وسعوا لانتهاز الفرصة.

قلق متصاعد

وتشكل هذه الشركات الجانب التجاري البحت من قلق ينخر في نفسية الأميركيين، وباتت نتائجه غير متوقعة، وفقاً لـ"NewYork Magazine".

وأذكت كتابات الباحثة شانا سوان المتفرقة من هذا الخوف، إذ نشرت كتاباً يوسع دراستها الأولى في 2021، بعنوان "العد التنازلي"، وعنوانه الفرعي "كيف يهدد عالمنا الحديث تعداد الحيوانات المنوية، التغيرات في تطور التكاثر لدى الذكور والإناث، وتهديد مستقبل البشر".

وعزت في الكتاب انخفاض أعداد الحيوانات المنوية إلى المبيدات والبلاستيك الذي يؤدي إلى تغيرات هرمونية.

وفي نهاية 2022، نشرت مع حجاي لافين، دراسة أخرى أكثر إثارة للخوف بشأن القضية، ووجدت أن الحيوانات المنوية لا تنخفض فقط في أوروبا وشمال إفريقيا، ولكن على المستوى العام وبمعدل متسارع منذ 2000.

إثارة الذعر

ولكن هذه الدراسات لم تمر من دون انتقاد، بخلاف الجدال الأكاديمي المعتاد، إذ اتهم عدد من أطباء المسالك واختصاصي الخصوبة لافين وسوان بإثارة الذعر، والسعي وراء الشهرة، فيما انتقد آخرون منهجيتهما.

وهاجمت مجموعة من الأساتذة في هارفارد ومعهد MIT وغيرها البحث من زوايا أخرى، إذ قالوا إن أبحاثهما (لافين وسوان) تعزز موقف جماعات حقوق الرجال، والقوميين البيض عبر تعزيز الخوف من انخفاض السكان، والإحلال الإثني، وهو ما ردت عليه سوان بالقول إنهم "علماء اجتماع وليسوا علماء، ربما لا يفهمون علم الأوبئة التناسلية".

وبشكل غير مقصود وجد نقاد سوان أنفسهم مع أمثال ستيفن ميلوي، وهو منكر لتغير المناخ ومدافع عن صناعة التبغ، ومجلس الكيمياء الأميركي، وهو جماعة الضغط الهائلة في الصناعات الكيميائية.

وقال ميلوي إن سوان "تخوض حملة لتخويف الناس"، واتهمها المجلس بتأجيج "رهاب الكيمياء".

الخصوبة.. جدال سياسي

ورأت المجلة أن الاستقبال السطحي لأبحاث الحيوانات المنوية أمر منطقي عندما تضعه في سياق الاستقطاب، بشأن معدل المواليد.

وتحدثت المجلة عن ما أسمته "نقاشاً سياسياً" أثاره كتيلي، الفلسطيني الأصل، والذي أشار إلى أن "معظم اليهود الأرثوذكس، الذين يعيشون في القدس على وجه الخصوص، ينظرون حرفياً إلى إنجاب المزيد من الأطفال على أنه التزام أخلاقي"، وأن "جزءاً من أسباب قيامهم بذلك، هو موازنة أعداد الفلسطينيين".

ولفت إلى أنه "إذا حافظ الإسرائيليون الأرثوذكس المتطرفون على معدل المواليد الحالي البالغ 6.7 طفل لكل امرأة، فسيشكلون ربع سكان البلاد في عام 2050، مما يضاعف قوتهم التصويتية تقريباً اليوم".

أما في معظم أنحاء العالم المتقدم، انخفض معدل المواليد إلى ما دون مستوى 2.1 طفل لكل امرأة.

وقال كتيلي، الذي بات يحفظ تلك الإحصائيات: "المعدل في ألمانيا هو  1.6، كوريا الجنوبية  0.8، أميركا  1.7".

وتابع: "الناس لا يفهمون ما يعنيه ذلك، وهو أنه في غضون 50 عاماً، بالكاد ستكون كوريا الجنوبية موجودة". (وتشير التقديرات إلى أن كوريا الجنوبية لديها نحو 700 عام قبل الاختفاء). 

وأضاف: "لكن ربما يفهم الناس ما يعنيه الأمر. قبل نصف قرن من الزمان، أدت أطروحة عالم الأحياء بول إيرليش سيئة السمعة (القنبلة السكانية)، إلى إكسابه سمعة باعتباره مهووساً ومتشائماً. والآن، في أواخر عصر الوقود الأحفوري، أصبح التشاؤم المناخي سائداً إلى حد ما، وفي الدوائر الليبرالية، من غير الملحوظ التعبير عن الازدواجية البيئية حول إنجاب الأطفال".

ويتشابك الجدل المشحون سياسياً، حول ما إذا كان يجب أن يستمر الجنس البشري في الوجود بشكل طبيعي، مع موضوع تدهور الحيوانات المنوية، وفق المجلة.

ومع ذلك، لا يمكن التنبؤ بمعالم النقاش بشأن عدد الحيوانات المنوية، لأن النظرية السائدة بأن الأزمة ناجمة عن ملوثات كيميائية، تجعل من الصعب شطبها باعتبارها ذعراً يمينياً بحتاً.

وتشير المجلة إلى أن القلق العالمي بشأن جودة الحيوانات المنوية في النهاية ليس حصراً على الشركات الانتهازية، والجماعات اليمينية فقط.

اقرأ أيضاً: