وافق البرلمان الألماني على تشريع يهدف إلى تسهيل إجراءات ترحيل المهاجرين الذين رُفضت طلبات لجوئهم، في الوقت الذي يسعى المستشار أولاف شولتز إلى نزع فتيل الهجرة باعتبارها "مشكلة سياسية"، فيما يواصل اليمين المتطرّف تقدّمه السّريع على جدول استطلاعات الرّأي، مقدّماً نفسه بديلاً محتملاً خلال الفترة المقبلة، وهو ما تخشاه القوى التقليدية في البلاد.
وينص التشريع الجديد، على منح الشرطة صلاحيات جديدة للبحث عن الأشخاص الذين صدر قرار بترحيلهم والتعرف على هوية المهاجرين، بالإضافة إلى ذلك، سيكون الحد الأقصى لفترة الاحتجاز قبل الترحيل 28 يوماً بدلاً من 10 أيام، لمنح السلطات مزيداً من الوقت لتنظيم هذه العمليات.
كما يسمح التشريع بتفتيش المنازل بحثاً عن مستندات تتيح للمسؤولين التأكد من هوية الشخص، وفي بعض الحالات، يُلغي شرط التزام السلطات بتقديم إخطار مسبق بالترحيل.
ومن المقرر أن يحال القانون الجديد على البوندسرات (المجلس الاتحادي) الغرفة الأعلى من البرلمان، الذي لا يحق له أن يجري أيّ تعديلات عليه، وفقاً للدستور الألماني، وبعد الاطلاع عليه، يُحال مرة أخرى إلى المستشار الاتحادي والوزير المختص للمصادقة عليه بتوقيعهما، ويعملا على نشره في الجريدة الرسمية.
ويأتي هذا القانون في وقت تشهد البلاد موجة من الاحتجاجات الرّافضة لخطة جرى تداولها على نطاق واسع بشأن طرد جماعي للأجانب والمهاجرين الحاملين للجواز الألماني.
ونُظمت مسيرة حاشدة في ضواحي برلين شارك فيها المستشار أولاف شولتز، ووزيرة الخارجية المنتمية لحزب الخضر أنالينا بيربوك، على خلفية تقارير تفيد بأن حزب "البديل من أجل ألمانيا"، بحث خلال لقاء مع متطرفين نمساويين، خطة طرد جماعي لأجانب.
وجاء تنظيم المسيرات الاحتجاجية بعدما أورد موقع "كوريكتيف" الاستقصائي، أن مسؤولين في حزب "البديل من أجل ألمانيا"، شاركوا في اجتماع مع مارتن سيلنر، وهو قيادي في حركة الهوية النمساوية اليمينية المتطرفة.
وتتّبع "حركة الهوية" نظرية "الاستبدال العظيم"، وهي نظرية مؤامرة تعتبر أن هناك مخططاً لمهاجرين من غير البيض ليكونوا بديلاً للشعوب الأوروبية الأصلية.
وقوبلت الأفكار التي نوقشت في "الاجتماع السري" برد فعل عنيف من جميع الأطراف بما في ذلك الأحزاب المحافظة. وانتقد المستشار شولتز حزب "البديل من أجل ألمانيا" قائلاً: "لا نسمح لأي شخص بالتمييز في بلدنا".
وأضاف: "نحن نحمي الجميع بغض النظر عن الأصل أو لون البشرة"، وحث الديمقراطيين على الوقوف ضد المتعصبين اليمينيين المتطرفين. وأدان زعيم حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، فريدريش مير، خطة "الاستبدال العظيم" قائلاً: "ألمانيا بلد هجرة منذ عقود".
تعهدات ألمانية
قدمت ألمانيا أعلى التعهدات بين جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بإعادة توطين اللاجئين في عامي 2024 و 2025. وعلى الرغم من الحملات والمظاهرات الحاشدة، أقر البوندستاغ مشروع قانون من شأنه التعجيل بترحيل المهاجرين الذين رُفضت طلبات لجوئهم.
ويرى الخبير في الشأن الألماني، منصف السليمي في تصريحات لـ"الشرق" أنه "منذ الكشف عن خطة ترحيل آلاف اللاجئين والمهاجرين من ألمانيا، تصاعدت ردود الفعل في البلاد عبر تعبئة واسعة في الأحزاب ضد حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي الممثل في البرلمان، وفي مجالس وبرلمانات الولايات، كما طالبت أطراف أخرى داخل المجتمع بحله".
وقال السليمي إن التعديلات التي طرحتها الحكومة الألمانية في سياسة اللجوء تأتي بعد مصادقة الاتحاد الأوروبي على ميثاق الهجرة الذي يوصف بـ"المتشدد"، خصوصاً في ما يتعلق بطرد اللاجئين والمهاجرين.
واعتبر أن مشاركة المستشار الألماني ووزيرة الخارجية في الاحتجاجات الرافضة لسياسات اليمين المتطرف، تمثل إشارة على أن هناك اتجاهاً كبيراً داخل المجتمع ضد سياسات اليمين المتطرف، تحديداً بشأن ما يتعلق بسياسة الهجرة واللجوء.
وعلى الرغم من تصاعد الحركة المناهضة للعنصرية في ألمانيا، فإن حزب "الاشتراكي الديمقراطي" الحاكم يشعر بالقلق إزاء تزايد شعبية حزب "البديل من أجل ألمانيا" داخل المجتمع. وكـ"إجراء وقائي"، حثت الحكومة الفيدرالية على العمل مع الولايات لتشديد سياسة اللجوء، خوفاً من أن يتولى اليمين المتطرف هذه القضية.
دوافع انتخابية
ويرجّح السليمي أن تكون دوافع انتخابية ظرفية وراء مشاركة شولتز وبيربوك في هذه الاحتجاجات، خصوصاً وأن ألمانيا تعيش على وقع عام انتخابي بامتياز سواء محلياً أو أوروبياً، وقبله تظهر استطلاعات الرأي أن حزب "البديل" يحظى بشعبية كبيرة داخل ألمانيا تصل إلى حتى ثلث نوايا التصويت، في حين تراجع الحزب الاشتراكي الديمقراطي (حزب شولتز) إلى مستويات مقلقة بحسب استطلاعات الرأي.
وقال إن المظاهرات تهدف إلى تحريك الأغلبية الصامتة في المجتمع وتنبهيها إلى أن اليمين المتطرف لا يهدد فقط المهاجرين، وإنما الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات برمتها.
وتابع السليمي: "بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة بسبب تداعيات كورونا، يشكل تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين الوافدين على ألمانيا، حيث بلغت طلبات اللجوء في العام الماضي زيادة بـ 50%، أحد الملفات التي يركز عليها اليمينيون، ويعلقون عليه مشاكل البلاد الاقتصادية".
ويشير الخبير في الشأن الألماني، منصف السليمي، إلى أن وصول نخب من أصول مهاجرة إلى مراكز السلطة سواء في الحكومة، أو في البرلمان، جعل أصوات المهاجرين مسموعة أكثر من السابق، وتلقى تجاوباً من قبل الأوساط السياسية، وهو ما أصبح يزعج اليمين المتطرف.
ويرى مارسيل فراتشر، رئيس المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية، أن هناك حالياً إجماعاً سياسياً مذهلاً في ألمانيا، إذ ترى جميع الأحزاب أن قبول اللاجئين يمثل "مشكلة كبرى". ومع ذلك، فإن هذا التركيز على الهجرة لن يحل أياً من المشاكل الملحة التي تواجهها البلاد، بل سيزيدها بدلاً من ذلك. ومن المرجح أن تؤدي محاولة تقليد مواقف حزب "البديل من أجل ألمانيا" إلى نتائج عكسية وتضييع وقت مهم.
وأضاف فراتشر في مقال رأي نشرته مجلة "زييت" الألمانية، أن الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه القضية تخدم مصلحة حزب "البديل من أجل ألمانيا"، مشيراً إلى أن دعوات الأحزاب بشأن طرد اللاجئين تظلّ مجرد "شعبوية".
واعتبر أن تآكل الديمقراطية وخرق الدستور يزيدان عزلة الكثير من الناس عن الأحزاب، مضيفاً أن التلميحات الموجهة إلى اللاجئين والأجانب، على سبيل المثال في شكل الادعاء بأن هؤلاء الأشخاص مهتمون فقط بالحصول على المزايا الاجتماعية، ستؤدي إلى استقطاب المجتمع بشكل أكبر، وتعطي زخماً للقوى المناهضة للديمقراطية، ومن المرجح أن يؤدي هذا إلى تعزيز حزب البديل من أجل ألمانيا، وليس إضعافه، في الانتخابات الفيدرالية والولائية المقبلة.
فراغ وانعدام الثقة
وتعرض حزب "البديل من أجل ألمانيا" لضغوط بعد أن تبين أن سياسيين من الحزب التقوا مع متطرفين يمينيين في نوفمبر الماضي، لمناقشة خطط ترحيل ملايين الأشخاص من أصول مهاجرة من ألمانيا، بما في ذلك أولئك الذين يحملون الجنسية الألمانية.
ويحظى "البديل من أجل ألمانيا" بنسب تأييد تتخطى 30% في بعض أنحاء ألمانيا الشرقية السابقة، حيث من المقرر أن تُجرى انتخابات إقليمية في وقت لاحق من العام الجاري.
ومنذ نهاية العام الماضي، تزايدت أعداد المتعاطفين مع الحزب بشكل مطرد، وارتفع حزب "البديل من أجل ألمانيا" في استطلاعات الرأي. وهذا لا يحدث فقط في ألمانيا الشرقية، المعقل التقليدي للمتطرفين، ولكن أيضاً في الغرب، في شمال الراين وستفاليا، حيث تضاعفت الأعداد 3 مرات، وفق مجلة "زييت".
وفي ديسمبر الماضي، فاز الحزب للمرة الأولى برئاسة بلدية مدينة، بعد فوز تيم لوخنر في جولة الإعادة لانتخابات بلدية مدينة بيرنا التي يبلغ عدد سكانها نحو 40 ألف نسمة، وتقع في ولاية ساكسونيا الشرقية.
وبعد 16 عاماً من الحكم، يلوم الناخبون حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المعارض) على جزء من مشاكلهم، ويشككون في قدرته على حلها. ولا يعتقد كثيرون أن أداء القيادة الحالية لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي سيكون أفضل مما كان عليه الحال في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، حسب تقرير نشرته مؤسسة جان جوريس الأوروبية.
ويعاني حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، مثله كمثل الأحزاب الثلاثة في الحكومة، من انعدام الثقة العام في السياسة.
ويضاف إلى ذلك فقدان القوة الشرائية، بسبب ارتفاع معدلات التضخم، فضلاً عن الخوف من الانحدار الاجتماعي. وما دام حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" لا يقدم حلوله الموثوقة لكل هذه الصعوبات، فلن يتمكن من أن يصبح منافساً جدياً على منصب المستشارية مرة أخرى، وفق المؤسسة البحثية الأوروبية.
وقال الخبير في الشأن الألماني، منصف السليمي، إن سياسة الهجرة واللجوء الألمانية تختلف عن نظيرتها في فرنسا وإيطاليا والدول الأخرى التي تحكمها الأحزاب اليمينية، مضيفاً أن ألمانيا تفتح باب الهجرة القانونية بشكل واسع سواء أمام الكفاءات أو اليد العاملة، إذ أن السوق الألمانية في حاجة إلى نصف مليون عامل سنوياً، ومثل هذه الأرضية غير متوفرة في فرنسا التي تشهد احتجاجات اجتماعية رافضة للهجرة، وصعوداً مضطرباً لليمين المتطرف.