انتخابات البرلمان الأوروبي.. اليمين المتطرف يدشن حقبة جديدة في تاريخ الاتحاد

time reading iconدقائق القراءة - 10
احتجاجات في فرنسا للتنديد بفوز اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي. 10 يونيو 2024 - AFP
احتجاجات في فرنسا للتنديد بفوز اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي. 10 يونيو 2024 - AFP
لندن -بهاء جهاد

يدشن النصر الذي حققه اليمن المتطرف في انتخابات  البرلمان الأوروبي، خاصة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، حقبة جديدة، في تاريخ الاتحاد الأوروبي، الذي يواجه تحديات عديدة جيوسياسية واقتصادية، إذ يهدد هذا النصر الذي ربما لن تظهر آثاره على المدى القريب، عدداً من قادة دول الاتحاد وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما يزيد من القلق في عموم دول الكتلة البالغ عددها 27 دولة بشأن التوجهات السياسية خلال السنوات الخمس المقبلة. 

لم يحصد اليمين المتطرف على أغلبية المقاعد في برلمان ستراسبورج، ولكن كتلته اعتباراً من اليوم ستكون وفق مراقبين ومحللين، حجر عثرة أمام أية توجهات للاتحاد الأوروبي في 3 ملفات رئيسية هي الهجرة والبيئة وكلفة المعيشة، وكل ما يرتبط بها من قضايا صغيرة النطاق، ولكنها "تراكمية التأثير ضد وحدة التكتل".

تعد نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة، مؤشراً لاستشراف مستقبل الاتحاد، حيث يمكن أن تلتئم بعد عقد من الزمن طاولتي المفوضية الأوربية والمجلس الأوروبي بصقور اليمين في دول التكتل، وحينها إما أن تبدأ العائلة الأوروبية في التفكك أو التحول إلى صيغة مختلفة تماماً عما يعرفها العالم اليوم ويتباهى بها الأوروبيون. 

وأظهرت الانتخابات الأخيرة أن اليمين المتشدد لم يعد تياراً سياسياً، وإنما "حالة فكرية" تتسع رقعتها لابد من مواجهتها بأدوات وآليات تظهر خطأ عقيدتها، وهو أمر ليس هيناً بعد أن عملت مراكز دراسات وشخصيات معروفة لسنوات طويلة في تأسيس خطاب يميني تكيف مع تبدلات كثيرة في السنوات الأخيرة، وفق مراقبين. 

ربما أخفق اليمين المتطرف في الفوز بدول صغيرة التمثيل في البرلمان الأوروبي مثل فنلندا، ولكن ما حققه أصحاب هذا التيار في فرنسا وألمانيا وإيطاليا يمس كل ساكن في التكتل، ذلك لأن كل تغيير يحدثه اليمين في أكبر دول القارة، يحفز تبدلاً مشابهاً في مكان آخر، أو يؤثر على سياسات أعضاء أخرين في الأسرة الأوروبية.

هكذا يلخص الصحافي المختص في الشأن الأوروبي إيفالد كونيج، نتائج الانتخابات الأخيرة، إذ قال إن "الأرقام التي حملتها صناديق الاقتراع في 27 دولة تشكل الاتحاد سيتم ترجمتها إلى تحولات في المشهد، تبدأ من فرنسا ثم تتمدد، حتى تجد الشعوب الأوروبية نفسها أمام خيارين يتيمين "أحلاهما مر". 

يشدد كوينج في حديثه مع "الشرق"، على أن الاتحاد الأوروبي بكل مكوناته وفعالياته سينقسم خلال السنوات الخمس المقبلة بين جبهتين، الأولى هي الخطر الداخلي المتمثل باليمين المتشدد، والثانية تتعلق بالتهديدات القادمة عبر العلاقات مع الصين وروسيا والولايات المتحدة، إذا ما عاد الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.

ولفت كوينج إلى "التداخل والتأثير المتبادل بين الجبهتين، والذي يصب اليوم في صالح اليمين المتطرف"، ولكن "حتى الانتصار على هذا التيار بعد سنوات، يعني استهلاك وقت وجهد كبيرين، يحتاجهما الاتحاد لمعالجة المشكلات والاستعداد لمراحل لاحقة يكون فيها أكبر جغرافياً وسكانياً واقتصادياً وسياسياً". 

مغامرة ماكرون 

اختيار فرنسا كأول ساحات مواجهة اليمين المتطرف بعد استحقاق يونيو، استدعاه الانتخابات النيابية المبكرة التي دعا إليها الرئيس ماكرون، بعد خسارة حزبه "النهضة" لعشرة مقاعد في برلمان ستراسبورج، ذهبت لصالح التجمع اليميني التي تقوده مارين لوبان و"ظلها" جوردان بارديال البالغ من العمر 28 عاماً. 

ماكرون اتخذ قراراً "خطيراً وثقيلاً" بحل البرلمان ثقة بالنظام الديمقراطي ورهاناً على اختيار الفرنسين الصحيح، فأعاد رئيس الدولة، العهدة إلى الشعب للعمل بقيم الجمهورية والمحافظة على وحدة البلاد في الأزمة الصعبة، والنضال من أجل المستقبل؛ بدل الانطواء والاستسلام أمام الطروحات الديماجوجية" . 

وسربت وسائل إعلام فرنسية محلية، أن ماكرون قرر مسبقاً إجراء الانتخابات المبكرة، بعد التشاور مع دائرة ضيقة جداً حوله، لا تشمل حتى رئيس الحكومة جابريل أتال، لكن هيئة الإذاعة البريطانية BBC نقلت عن رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية يائيل براون بيفيت، أن "خيارات أخرى طُرحت على رئيس البلاد للتعامل مع خسارة الاستحقاق الأوروبي، ولكنه رفضها كلها ومضى نحو المواجهة الأخطر مع خصومه اليمينيين". 

محرر الشؤون الدولية في صحيفة "إندبندنت" البريطانية كريس ستيفنسون، قال إن ماكرون "غامر بشكل غير محسوب في قراره، ومن المرجح أن عود عليه وعلى الفرنسيين والأوروبيين بخسارة كبيرة"، وبعد جولتي الاقتراع في 30 يونيو الجاري و7 يوليو المقبل، "يمكن أن يضطر الرئيس الفرنسي إلى تكليف أشد خصومه اليمينيين بتشكيل الحكومة، ويعمل تحت ضغط في كل سياساته الداخلية والخارجية لسنوات مقبلة". 

حسابات المواجهة مع اليمين في فرنسا ليست محسومة  بنسبة 100%، ولكن خسارة ماكرون تعني أكثر من حكومة يقودها شعبوي مثل بارديلا، فقد تجلب لوبان إلى قصر الإليزيه في عام 2027، وتمد جسوراً مع جميع الراغبين بتقليص حضور المهاجرين ومحاصرة المسلمين وإحياء الهوية الوطنية في الاتحاد. 

المواجهة الطويلة في ألمانيا 

بالقرب من فرنسا وجد المستشار الألماني أولاف شولتز نفسه في موقف مشابه لماكرون، ولكنه اختار أن يحارب اليمين المتطرف المنتصر في الانتخابات الأوروبية بسياسة النفس الطويل بدلاً من الصدام المباشر، فائتلافه الحاكم هش ولن يحتمل مثل هذه المواجهة خاصة وأن خصومه يزدادون شعبية يوماً بعد يوم. 

مواجهة شولتز للشعبويين بدأت حتى قبل إعلان نتائج الانتخابات، وفق الصحفي المختص بالشأن الألماني لؤي غبرة، فعندما وافق المستشار على ترحيل اللاجئين من سوريا وأفغانستان، شرع في مسار يقوم على محاولة سحب البساط من اليمنيين المتطرفين وإفراغ خطابهم من مضمونه العنصري. 

ولفت غبرة في حديثه مع "الشرق"، إلى أن ترحيل اللاجئين يعارض أصلاً الدستور الألماني، وإعداد صيغة قانونية لتنفيذه يعني إظهار تفهم التيارات السياسية المختلفة في البلاد لمخاوف الألمان إزاء المهاجرين كي لا تتحول لمادة إعلامية وترويجية يستقطب عبرها اليمين مزيداً من المؤيدين لمبادئه المتطرفة والعنصرية.

وأوضح أن اتباع سياسة سحب البساط من الشعبويين قد تقود تيارات الوسط واليسار إلى مواقع يمينية متشددة تخالف قناعاتها وتوجهاتها، وهذا يعني هزيمتها فكرياً قبل أي شيء أخر، لافتاً إلى أن هذه السياسة "سيف ذو حدين" أحدهما تنفيذ أجندة اليمين المتطرف بشكل غير مباشر والثاني تبني سياسات مخالفة له لا تعود بالنفع المنشود على المواطنين الأوروبيين فيزدادون نقمة على أحزاب اليسار والوسط. 

تصورات ومناقشات 

سجل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا، أسوأ نتيجة له في تصويت وطني بعد الحرب العالمية الثانية، وخسر أمام "البديل لأجل ألمانيا" الذي تعرض لفضائح سياسية كبيرة قبل الانتخابات قلصت من فوزه فقط، وهذا بحد ذاته يشير إلى متانة الحضور الشعبي لليمين والحاجة الحقيقية إلى التمعن في ذلك أوروبياً.

وترى الصحافية الفرنسية من جريدة "لوموند" مارين دوبنت، أن اليمين المتشدد في أوروبا لم يعد توجهاً سياسياً بل تياراً فكرياً أرسى دعائمه مراكز دراسات وفعاليات مختصة وشخصيات  معروفة في الفلسفة والثقافة ومجالات أخرى، منوهة إلى أن إحياء "الهوية الأوروبية" ليس محط خالف في القارة العجوز اليوم بل هو مساحة مشتركة للتفكير بين تيارات اليمين المختلفة  في دول الاتحاد الأوروبي وجيرانه عموماً. 

وبحسب دوبنت، تنبهت تيارات اليمين المتطرف في الاتحاد إلى "خطورة الانفصال عن التكتل بعد تتبع معاناة بريطانيا في هذا الإطار، فتغير خطاب الشعبويين بعد عام 2019 من الدعوة إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي، إلى إعادة تشكيله والسيطرة على مؤسسات بروكسل، وهذا التحول قلص كثيراً الرفض الشعبي لليمين وخلق أرضية مشتركة بين تياراته على  امتداد دول الاتحاد الأوروبي وعموم القارة". 

وتشير الصحافية الفرنسية، إلى أن خطاب حماية "الهوية الأوروبية" من تغير ديمغرافي قادم عبر المهاجرين والمسلمين، وجد أصداءً إيجابية، وازداد قوة، بعدما تسلح بأبعاد اقتصادية مثل ارتفاع كلفة المعيشة والإنفاق على برامج بيئية غير ملحة، فتوسعت القاعدة الشعبية لتيارات اليمين، وازداد حضورها السياسي بشكل لافت. 

ثمة تصريحات رسمية بعد الانتخابات الأوروبية اختصرت التحول المرتقب أوروبياً على نحو مكثف ومعبر، حيث قال تجمع "المحافظين والإصلاحيين" الذي تقوده في البرلمان الأوروبي رئيسة حزب "إخوان إيطاليا" اليميني ورئيسة الحكومة في روما جورجيا ميلوني، إن القيم المحافظة ستؤثر على صنع سياسات الاتحاد بعد اليوم كما لم يحدث من قبل في تاريخ التكتل، أما رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، فقال إن "المشهد السياسي في أوروبا قد تحول إلى اليمين ونحو السلام، وسنبني على هذه النتائج في الشهر المقبلة لتحقيق أهدافنا، حيث تتولى المجر رئاسة الاتحاد".

تصنيفات

قصص قد تهمك