تجربته مع الكتابة تزيد عن ثلاثين عاماً، أخلص للقصّة القصيرة، وأصبح من كُتّابها المعروفين في سلطنة عُمان والعالم العربي. أسلوبه "ما قلّ ودل"، فهو مولع بالإيجاز والتكثيف إلى حد أنه كتب رواية أقل من ستين صفحة كأنها "شذرات".
يصبر الرحبي لسنوات على النص، ويراقب التفاصيل التي تستعيد غالباً قرى وجبال عُمان، وحكايات الناس قبل الحداثة وتحت تأثير صدمتها.
اسم الكاتب العُماني محمود الرحبي ليس بعيداً عن التكريم والاحتفاء، لكن روايته الجديدة "طبول الوادي" فرضت نفسها على القائمة القصيرة لجائزة "كتارا"، فماذا عن الجائزة والرواية والتجربة؟
مع وصول روايتك "طبول الوادي" إلى القائمة القصيرة لجائزة "كتارا"، وهي ليست المرّة الأولى لك في الترشّح أو الفوز بجوائز، فهل تكتب وعينك على الجائزة أم على القارئ؟
في الحقيقة تكون عيني على النصّ بقصد تجويده ومراجعته، وليس على أي جائزة. وعادة أبالغ في المراجعة، وتستمر عندي النصوص سنوات طويلة. "طبول الوادي" مثلاً كنت أكتبها بصورة متقطّعة منذ أكثر من عشر سنوات. أذهب إلى رواية أو قصّة غيرها، ولكن أعود إليها لأعاود قراءتها، ثم أطيل فيها.
بالنسبة للجوائز، فهي تأتي لاحقاً، والجوائز عندي تدخل في جو القراءة. هي نوع من القراءة، ولكنها قراءة متوّجة بجائزة وإعلام.
على ذكر الجوائز، يلاحظ وصول أكثر من كاتب عُماني إلى منصّات التتويج أخيراً، بما تفسّر ذلك؟
ربما لأنه في عُمان لا يوجد جيل آباء كما هو الحال في مصر والمغرب على سبيل المثال. لذلك ربما كان التنافس بين الكُتّاب في احتلال دور للمستقبل وخاصة في ما يتعلق بالرواية هو أحد الأسباب.
الكُتّاب العُمانيون للرواية هم تقريباً من جيل متقارب جداً، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة تنافس. أما بالنسبة لنوع أدبي عريق مثل الشعر، فثمّة أجيال تعود إلى القرن التاسع عشر، وتطوّر الشعر العماني من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر، وكانت له أصواته المتميزة في كل مرحلة.
ثمّة سبب مهم أيضاً – في ظني - وهو أن الرواية صار يزاولها الكثيرون، فلا تمرّ فترة بسيطة إلا وتبرز رواية إلى الوجود، وفي ذلك مساحة مهمّة للتنافس فيما بينها محلياً أولاً، ثم على المستوى العربي.
ونتيجة لذلك لا بد أن يبرز عمل روائي هنا أو هناك في مسابقة عربية تحت إطار تنافسي حرّ. حتى خارج المسابقات، يمكنك أن تقرأ رواية عُمانية مقنعة، ليس على سبيل الحصر أعمال سليمان المعمري ومحمد العجمي وعلي المعمري ومبارك العامري.
عما يبحث "سالم" بطل "طبول الوادي" وماذا يعني لك هذا العنوان؟
في "طبول الوادي" ثمّة كم من الأغاني والأناشيد موزّعة على رقعة الرواية، هذا من حيث الظاهر، ويمكن أيضاً أن نقرأ العمل من ناحية رمزية، فثمة واديان يلجأ إليهما بطل الرواية، الأوّل بعيد وناء "وادي السحتن"، تخرج الأغاني الممنوعة فيه من قلب بئر، والثاني واد مفتوح ومتنوّع "وادي عدي"، من أجل أن يصل إليه بطل الرواية حراً، عليه أن ينصت إلى طبول الجوع. وهو ما يمكن أن تنبئ عنه تفاصيل الرواية.
سالم يبحث عن الحرية وهو ضحّى بالجاه، وربما بمستقبل الوجاهة من أجل ذلك؟
نعم اختار بطل الرواية الهروب من قبضة والده الذي يرمز إلى التقاليد الصارمة، وترك كل شيء وراءه. حتى إنه كان حافي القدمين حاسر الرأس وجيبه مثقوب، حين خرج من وادي السحتن، وأدخل إصبعه في الجيب، ورفع به دشداشته، وفي ذلك دلالة مقصودة على أنه سيبدأ حياة جديدة في خريطة المجهول.
لم يسافر إلى خارج البلاد كما سيتوقع القارئ، إنما مكث في طرف قصي من عُمان، بعيداً عن قريته، وهي حلة وادي عدي في العاصمة مسقط.
من خلال ذلك، تمكّن السارد من التعريف بعالمين، أحدها تقليدي ثابت، والآخر في طريقه إلى التشكّل مدنياً، ويتميّز بالتمازج وتشابك الأصوات أو الطبول والتنوّع البشري.
مثلا في القرية - بحسب الرواية - لا يوجد أي عامل غير عُماني، وإذا جاء إلى القرية، فإنه لا ينام فيها، بل على أطرافها. أما في المدينة، فسكن سالم مع عامل من الهند، وفي بيت للعمال. هذا ما قصدته بوصف عالمين مختلفين.
لماذا هذا الولع لديك ولدى كُتّاب آخرين في عُمان باستعادة الزمن المفقود وتقاليد القرى الجبلية؟
ربما لأن تلك الفترة المغرية لم تغطّي سردياً ولا حتى تاريخياً إلا في حدود رسمية. لذلك الرواية الحديثة تحاول أن تستفيد من ذلك الثراء الأنثروبولوجي المطمور، وتنتشله عبر التخييل. لكن العبرة تكمن في كيفية التعامل معه فنياً، أي في الاستفادة منه وبعثه، ولكن ضمن شروط الفن، سواء كان هذا الفن قصة أم لوحة فنية كما عليه مثلاً لوحات الفنان أنور سونيا، والفنان الجميل الراحل موسى عمر وغيرهما.
هل تشعر ككاتب بالاغتراب حيال معطيات التكنولوجيا والحداثة أم أن المسألة ترتبط بالبحث عن الهوية والجذور؟
الحداثة حتمية لا مفرّ منها، لذلك صرنا نعيشها حتى في السفر، فمثلا القاهرة الآن ليست قاهرة التسعينيات، ولا أي بلد عربي آخر هو كما كان من قبل، لكن الفرق أن التغيير يتم ببطء، ومن دون ألم في تلك البلدان العريقة، كالقاهرة وبغداد والرباط وبيروت وتونس.
لكن بالنسبة لبلدان الخليج، فإن الأمر يتمّ بسرعة كبيرة، والآن مثلا بدأت تصير القرى بسحرها وتقسيمها على هامش الحياة، حيث بنيت على تخوم القرى مدناً وبيوتاً إسمنتية، تحاكي تلك التي في العاصمة. هذا الأمر لا مفرّ منه وحتمي، لكن الفن يمكنه أن يستعيد ما فات جمالياً.
ثمّة انطباع ما بأن شخصياتك غالباً على مفترق طرق، في رحلة ما، ماذا يعني لك السفر والابتعاد عن مسقط الرأس؟
ربما هذا التحرك ناتج عن القلق الذي يعتري الحياة، أو ربما لأن اختياري يقع على شخصيات قلقة. هذه الشخصيات هي ما تجد جاذبيتها لدي.
أنا كذلك بطبعي متنقل في السكن، حتى داخل عُمان بحثاً عن جديد ومختلف، وإن كان في إطاره المحلي. أنا مستعد مثلاً أن أسكن في مكان هادئ، ودائماً مع العائلة طبعاً، لأن الوحدة جلابة للوحشة خاصة في بلداننا الصامتة.
نستطيع القول إن حضورك في الساحة الأدبية ارتبط في الأساس بالقصّة القصيرة فهل هجرتها؟
بالعكس أن أعود دائماً إلى القصّة القصيرة، مثلاً منذ أيام بعثت بمجموعة قصصية إلى دار المتوسط، على أن تظهر في معرض مسقط المقبل. القصّة كتابتها تستدعي التمهل والنقش والحذف والتكثيف، لذلك لابد من مراجعات مستمرة، حتى أصل إلى الاقتناع بها.
ربما يفسّر البعض انتظامك في كتابة الرواية في الآونة الأخيرة محاولة لمجاراة "الموضة" والرواج التجاري؟
طبيعة الموضوعات وحدود الفكرة هي من يذهب بي إلى كتابة قصّة أو رواية أو نوفيلا. لدي أيضاً مقال أسبوعي في "العربي الجديد"، إلى جانب كتابات شبه شهرية في ملحق جريدة عُمان الثقافي، ومجلات ثقافية عربية متفرّقة.
مثل هذه الأنشطة تدرّب الذهن على التفكير والبحث عن زوايا مختلفة لقول الحياة. ولكن يظل السرد بمعناه التخييلي هو الأكثر جاذبية.
صنّفت نصك "المموّه" بأنه رواية علماً أنه لا يتجاوز 60 صفحة، فهل ثمّة جماليات معينة تحكم تصورك عن الرواية؟
لم أكن أمانع لو وجدت من يقرأها على أنها قصّة طويلة أو رواية قصيرة، لدي رواية طويلة نسبياً، وهي "فراشات الرواحاني". تعدّد الأصوات هو ما يحكم إن كان المقروء رواية أم نوفيلا.
في ظنّي لا يكفي صوت واحد لأن تكتب رواية، حتى وإن طالت صفحاتها. لذلك كان باختين ذكياً وعبقرياً، حين نحت مصطلح "البوليفونية" على روايات دوستويفسكي.
تعتقد أن تمرّسك الطويل في كتابة القصّة القصيرة انعكس سلباً أم إيجاباً على كتابتك للرواية؟
ربما إيجاباً من خلال التمرين على التكثيف والبحث عن العبارات المركّزة. أعتقد أن السرد هو نوع أدبي ولا بد أن يكتنف بالبلاغة، والتكثيف عنصر بلاغي يقابل الحشو والإطناب.
درست وعشت لسنوات في المغرب فكيف تلاقت في داخلك الثقافة المغربية مع ثقافتك العُمانية والخليجية؟
ربما الحياة في المغرب أقرب إلى الحياة الفطرية التي بدت تنزاح إلى الوراء في مجتمعاتنا الاستهلاكية. تعجبني بساطة الناس ولطف المثقفين والأسواق المغربية المفتوحة والمكتظّة بالباعة الجالسين والمتجوّلين.
في فاس مثلا كنت أقضي وقتاً طويلا في السوق، رغم أن المدن المغربية تجمع بين الحداثة والأصالة وخاصة العاصمة الرباط.
أكثر من ربع قرن منذ نشرت مجموعتك "اللون البني"، ماذا تقول لنفسك حين تنظر إلى الوراء؟
أقول إن الماضي كان الماضي رغم تعقيداته واحتقاناته، كان أخف وأجمل وزاخراً بالدهشة التي نفتقدها.