هي من صنف الروايات حين يطوي القارئ غلافها، يتمنى لو تعرّف على بطلتها فيوليت، أو كانت ضمن قائمة الذين يلتقيهم فعلاً، على الرغم من أنها ليست من الأشخاص الذين يحتلون مركز الاهتمام.
فهي امرأة "مجهولة" في الأصل، من دون اسم ولا عائلة، ومرّت بظروف حياتية قاسية. عملت حارسة في محطة للسكك الحديدية، ثم استقرّ بها الحال كحارسة لمقبرة في الريف الفرنسي، بعد أن قرأت إعلاناً كُتب عليه: "حارس مقبرة، مهنة المستقبل".
الرواية إلى السينما
أسلوب الكاتبة فاليري بيران، المولودة سنة 1967، جعل روايتها الصادرة عن (دار ألبان ميشيل) في باريس (2019)، الثانية بعد رواية "منسيّو يوم الأحد" (2015)، تلقى نجاحاً باهراً بمبيعات مليونية، وتترجم إلى نحو 33 لغة في بلدان كثيرة منها إيطاليا، حيث تصدرت قائمة مبيعات الكتب.
كما حازت الرواية جوائز عدّة، وها هي الآن بصدد الاقتباس إلى المسرح والسينما.
تعلّق القرّاء بشخصيات الكاتبة، خصوصاً أن الرواية تُقرأ بيسر، وأسلوب غير معقّد، ونزوع الكاتبة نحو توظيف المنحى الشعري، والوصف الخارجي لطبائع الشخصيات والأماكن حيث تدور الأحداث.
تضع الكاتبة عند بداية كل فصل اقتباساً أو قولاً مأثوراً، مأخوذاً من أغان وقصائد وكتب وأفلام، على غرار: "الحديث عنك يجعلك موجوداً"، "عدم قول أي شيء يخصّك يعني أنك منسي"، "هناك شيء أقوى من الموت، هو ذكرى الغائب في ذاكرة الأحياء".
كاتبة قادمة من البلاتو
المثير للاهتمام هو قصّة الكاتبة نفسها، التي لم تكن معروفة من قبل، في المحيط الأدبي الفرنسي، ثم الأوروبي. سبق لفاليري بيران أن اشتغلت مصوّرة في بلاتوهات التصوير السينمائي، بعد لقائها بزوجها المخرج كلود لولوش، الذي كتبت برفقته سيناريوهات أفلام.
لم تكن تفكر أن تمارس الكتابة التخييلية. لكن عندما قرأ زوجها ما كتبته، اكتشف موهبتها الروائية، فاستيقظت في ذاتها ما كانت تود فعله دائماً، وهو كتابة الروايات.
تقول الكاتبة: "قبل ذلك، كان لدي حياة أخرى، الشغل وتربية أطفالي، فاكتساب العيش من الكتابة أمرٌ صعب للغاية. عشت الكثير من الحيوات قبل هذه الحياة". كما باحت في حوارات عدّة بعد أن حقّقت شهرة واسعة.
سيرة صعبة
أنجبت فيوليت طفلة من زوجها فيليب توسان الخامل، الذي يلقي مسؤوليات وأعباء الأسرة على عاتقها، ويكتفي بملاحقة النساء، والتجوال فوق دراجته النارية، وهي تتحمل حقد والديه وكراهيتهم لها.
تُعوّض فيوليت ماضيها المأساوي وحاضرها العائلي البائس، بمصاحبة أشخاص طيبين أثناء عملها كحارسة للمقبرة، مثل حفّاري القبور، الذين يتميزون بطابع المرح، ومخالطة القس الشاب، والرجال الذين يتكفلون بمراسم دفن الموتى.
فيوليت مُحاطة بأشخاص لهم علاقة مباشرة مع الموت، وليسوا ممن يتمنى الإنسان مجاراتهم في أيامه. تُصادقهم فيوليت الطيبة في ممرات المقبرة حيث تعمل، وأثناء مراسم الدفن، وفي أوقات الاستراحة، وتستقبل عائلاتهم، وتصغي لهم ولحكاياتهم المليئة بالحزن والحداد.
لكن الأهم أنها لا تخلف مواعيد تغيير ماء الزهور، كي تبقيها يانعة، وكي لا يتسلل الذبول والحزن إلى سكان القبور.
دار الصحافة الفرنسية منحت الكاتبة جائزتها للرواية الموجّهة للجمهور العريض، قائلة: "إنها رواية ذات حساسية بالغة، كتاب ينقلك من الضحك إلى البكاء عبر شخصيات مسلية ومحببة".
وكتبت صحيفة "ليبراسيون" في يونيو 2019: "بكاء وضحك في ظلال القبور التي تروي قصص قاطنيها، من خلال الصور الموجودة على شواهدها، التي التُقطت في وقتٍ لم يكن الموتى يتخيّلون أبداً أنها ستُلصَق هناك، ومن خلال القطط التي تجوب الممرات كزهور المقابر، والعشّاق الذين يجدون هنا فرصة للاختلاء، ما يفيد بأن الناس الذين يأتون إلى هنا هم الأشباح الحقيقيون [..].
جرس الباب
حين حلّ عميد الشرطة، ودقّ جرس منزلها في المقبرة، حيث تقطن فيوليت توسان، شرع يطرح الكثير من الأسئلة كي يعرف لماذا أوصت أمه التي توفيت، أن يتم حرق جثتها، ونثر رمادها على قبر رجل، لم يسبق له أن التقى به ولا رآه.
لدى فيوليت عادة مهمّة تخصّها وحدها، هي الاحتفاظ بمذكرات تكتب فيها، وتسجّل الجنازات التي شهدت وقائعها: تواريخها، أسماء المتوفين، عدد الحاضرين عند الدفن، الخطب المُلقاة حول مناقب الراحلين، الأناشيد والموسيقى.
من جهة ثانية، تستعرض الروائية اللقاءات بكل شخصية على حدة، فتتقاطع مصائرها، في إطار تشويق سلس، لا يجعل القارئ ينفر من أجواء الرواية، التي يسود في طياتها طابع السواد والكآبة، فتُوازن الأمور، حين تسرد حياة بطلتها فيوليت في رحاب منزلها، حيث تطغى الألوان الزاهية والأطباق الشهية والأحاديث الحميمة، بين أزهار ونباتات وخضروات حديقتها، التي تتعهدها بالعناية والتشذيب والسقي.
إنها رواية تفاصيل وروتين أيام، تخترقها وقائع فاصلة تغيّر مجرياتها. حياة تحضر فيها فيوليت بقوة، كأنما انتقمت لها الروائية فاليري بيران، بمنحها الدور الأكبر على مستوى الخيال، بعد أن افتقدته في الواقع الذي لم يعطها سوى الخيبات والمآسي والأوهام.
التقاط النجوم
هنا تتبدّى قدرة الإبداع عندما تمزج الكاتبة أسلوب التحرّي وعناصر الرواية الشعبية المتمركزة على قصص حب وخيانة وموت، في أجواء عائلية على طريقة الكاتب مارسيل بانيول، الذي تعشق الكاتبة رواياته، وأخيراً الاستلهام من الأدب العالمي.
هذه الأجواء مكّنتها من كتابة جمل مضيئة مثل: "علمتني جدتي في وقت مبكر جداً كيفية التقاط النجوم: حين يحل الليل، أضع حوض ماء في وسط فناء المنزل، عندها تتجمّع النجوم في قعره".
تقول الكاتبة: "أنا أقرأ كثيراً، وهو فعل يجعلني أشعر بأني قريبة جداً من المدوِّنين الذين يبحثون عن النادر من القول، ذلك الذي يخلق الإثارة، ويدفعك للإسراع في العودة مساءً للإمساك بالكتاب الذي لم تُكمّل قراءته بعد".