مع الشاعر الكردي طيب جبار، تستعيد القصيدة الكردية عافيتها، عبر تشكيل وصياغة هوية شعرية كردية على طريقته، هوية لا تجد فيها الإنسان الكردي ضائعاً ومأساوياً بالصيغة المفرطة التي اعتدناها، إنما هو أكثر حياة وطموحاً، فالشعر الكردي عنده شعر حياة لا حزن.
أما العالم الشعري الذي صنعه جبار طوال تجربته المكثّفة، فهو لا يشبه عالماً آخر، عالم تكتشفه فتندهش، ولعلّ التعبير الأكثر دقة لمكاشفة عالمه، هو ما قاله الشاعر الشهير شيركو بيكس له: "لماذا لم أعرفك سابقاً؟"
منذ طفولته أحب الشِعرَين العربي والكردي، عبر ما قرأه من مجلات، وما سمعه من أغانٍ، وخصوصاً أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما، لكنه لم يدخل عالم الكتابة الشعرية الجادّة إلا عام 1970.
ضاعت معظم قصائده وكتاباته التي كتبها خلال السنوات 1970-1987، بسبب الظروف السياسية الصعبة التي مرّت بها كردستان العراق، ثم توقف عن كتابة الشعر منذ منتصف الثمانينيات وحتى عام 2008، لكنه لم يتوقف عن قراءة ومتابعة الشعر والأدب والفن والهندسة.
ما يزال جبار مستمراً بصناعة عالمه الشعري، عبر القراءة والكتابة والمتابعة، ونحن هنا نحاول الاقتراب من عالمه لاكتشافه مرّة أخرى.
ولد طيب جبار في كركوك عام 1954، وأكمل هناك دراساته الأولى، ثم غادر المدينة مجبراً إلى السليمانية، وحصل فيها على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية عام 1976.
كيف فكّرت بالانتقال إلى عالم الشعر في خضم الانشغال بتصاميم الهندسة المعمارية؟
لم أنتقل من عالم الهندسة إلى عالم الشعر، بل بدأت علاقتي بالشعر قبل الدخول إلى كلية الهندسة. بدأ ميلي للشعر في نهاية ستينيات القرن الماضي، وأنا في الرابعة عشرة من عمري، فكتبت قصائد كثيرة خلال سنوات السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي، لكن أكثرها ضاعت نتيجة الظروف السياسية والعسكرية الصعبة التي مرّت بها كردستان العراق خلال تلك الفترة.
نشرت قصيدة واحدة بداية سنة 1973 في جريدة "برايتي" الكردية، أما بقية القصائد الضائعة فلم تنشر، لأنها تحمل هموماً وطنية وقومية، وفيها روح المقاومة والتحدّي ضد أنظمة الحكم في بغداد، في مرحلة كان يمرّ بها الشعب الكردي، إثر "الكفاح المسلح" وظروف الحرب العراقية الإيرانية.
توقّفت عن كتابة الشعر سنة 1987 ولمدة واحد وعشرين سنة، من دون أن أتوقف عن متابعة وقراءة الشعر باللغتين العربية والكردية. وكذلك الاستمرار في قراءة الصحف والمجلات الثقافية وكتب النقد الأدبي ونظريات الأدب والشعر، والفن والجمال.
طبعت ديواني الأول سنة 2008، وضمّ مجموعة القصائد التي كتبتها في السبعينيات والثمانينيات، وهكذا عدت إلى كتابة الشعر مجدداً وبأسلوب مختلف عن أسلوبي السابق، وعن السائد في الساحة الشعرية الكردية.
أنت شاعر شغوف بالمكتبة ولديك واحدة ضخمة، وعندما تخرج من بيتك تستقر في مكتبة أيضاً، كيف تصف علاقتك بالكتب؟
إنها علاقة قوية جداً، ومنذ صغري كنت أقرأ كل شيء، ثم بدأت بتأسيس مكتبتي البيتية سنة 1970. تعرّضت مكتبتي للحرق والنهب مرّات كثيرة.
الآن لدي مكتبة كبيرة في البيت ومكتبة صغيرة في سوق المدينة، ونتيجة لعلاقتي الطويلة والحميمة مع الكتب، صار من الصعب عليّ أن أعيش من دون كتاب، هذا ما أشعر به دائماً.
ما المشروع الذي يشغلك حالياً ضمن الشعر أو ما يجاوره؟
الشعر بالنسبة إلي إلهام وإشراقات، يأتيني من دون تحديد الزمان والمكان، فالشعر عندي ليس له تخطيط و برنامج، وهو ليس صناعة.
أما الآن فأنا مشغول بمشروعين، الأوّل مشروع عن علاقة الإنسان بالمكان من وجهة نظر هندسية بيئية، إذ أكتب مقالات عن بعض تجاربي وخبرتي كمهندس في تعامله مع المكان.
والثاني هو بعض الدراسات الأدبية والشعرية، أكتب مقالات عن الشعر وتعريفه وعناصره وعلاقته باللغة والخيال والمعنى والمجهول. وصارت إثر ذلك رؤيتي عن الشعر، تخالف السائد لدى المثقفين الكرد والعرب.
حدّثنا عن مكانة الشعر الكردي ضمن خريطة الشعر العراقي سابقاً والآن؟
الشعر الكردي في كردستان العراق، حاله حال الشعر في العراق سابقاً والآن، فيه الجيد والرديء لكن المؤسف أن ترجمة الشعر الكردي إلى اللغة العربية واللغات الأخرى قليلة، والسبب هو عدم إجادة العرب والشعوب الأخرى للغة الكردية والترجمة منها، فتقع مسؤولية الكتابة والطبع والتوزيع والترجمة على عاتق الشاعر الكردي، وهذا عمل صعب، لذا يغدو التواصل قليلاً بين الشعر الكردي والقرّاء العرب في العراق أو في بلدان أخرى.
تقيم في السليمانية لكن مدينتك الأم هي كركوك، كيف توازن بين المدينتين وعلاقتك بهما؟
أجبرتني الظروف على الانتقال إلى السليمانية، نتيجة السياسات الخاطئة للنظام السابق، بعدم تعيين الكرد في كركوك، كما أرغموني على قبول تعييني في مديرية طرق وجسور السليمانية نهاية سبعينات القرن الماضي.
في الثمانينات كنت أرجع أسبوعياً إلى كركوك، وبعد الانتفاضة (1991)، انقطعتُ عن زيارة كركوك لمدة 12 عاماً، وحتى سقوط النظام عام 2003.
منذ ذلك الحين وعلاقتي بكركوك جيدة، أزورها شهرياً مرتين أو ثلاث لبعض الشؤون الثقافية والاجتماعية، وعلاقتي بمثقفي كركوك جيدة من الكرد والعرب والتركمان والمسيحيين، ولدي تواصل دائم معهم.
أما بالنسبة للسليمانية، عاصمة الثقافة لإقليم كردستان، ومدينة الإبداع الأدبي لدى اليونسكو، فهي مكان معيشتي، ولدي فيها علاقات جيدة مع أهلها ومثقّفيها.
أنت من أكثر الشعراء الكرد الذين تمّت دراسة منجزهم من قِبل النقّاد العرب، كيف تشعر إزاء هذا الاهتمام؟
هذا صحيح وذلك محلّ فخر واعتزاز بالنسبة لي. ترجمت مجموعتان من قصائدي إلى اللغة العربية، وتمّت طباعتها في بيروت من قبل (دار الغاوون) سنة 2010 و 2012، واستقبلت بشكل جيد من قِبل الشعراء والنقّاد العرب.
قصائدي تحمل هموماً إنسانية لا هموماً كردية فحسب، ولعلّ ذلك هو الذي جعل قصائدي تلقى قبولاً لدى العرب.
كيف ترى مستقبل الشعر الكردي في ظلّ المتغيرات التي طرأت على العراق؟
سمّى المفكر الكندي ألان دونو عصرنا هذا بعصر التفاهة، وهذا صحيح، أرى أننا نعيش في عصر تافه يسيطر فيه التافهون على كل مناحي الحياة، بما فيها الحياة الثقافية، ومع ذلك فإن الأدب الأصيل لن يتوقف عن الولادة والديمومة والاستمرار.
مستقبل الشعر الكردي مثل مستقبل الشعر لدى بقية شعوب العالم، هناك حذر من تأثير الظروف على تسطيح الشعر وتشويهه، لكن هناك إيمان بقوة الشعر وقدرته على ضخّ الدم بنفسه من جديد، وتاريخ الشعر يثبت ذلك.