إبراهيم الإعيسر .. "بوهيمي في شوارع القاهرة"

time reading iconدقائق القراءة - 9
"بوهيمي في شوارع القاهرة" للكاتب السوداني إبراهيم الإعيسر - الشرق
"بوهيمي في شوارع القاهرة" للكاتب السوداني إبراهيم الإعيسر - الشرق
القاهرة-شريف صالح

"البشر لا يقتنعون أبداً بأسبابك، وصدقك وجدية عذابك، إلا حين تموت؛ وما دمت حياً، فإن قضيتك مغمورة بالشك"، هكذا صدّر الكاتب السوداني إبراهيم الإعيسر سيرته، وكيف تقلبت به الأيام، من جحيم الحرب في السودان إلى شوارع القاهرة.

في مقدمة كتابه "بوهيمي في القاهرة" الصادر عن (دار العندليب)، يؤكد أن كل الأحداث "حقيقية"، معرّفاً "البوهيمية" بأنها تعود إلى الغجر القادمين من "بوهيميا"، وأصبحت تطلق على من يعيش وفق نمط حياتي غير مألوف.

قاموس الأكاديمية الفرنسية يعرّف البوهيمية بأنها "من يعيش حياة التشرّد وحياة غير منتظمة من دون موارد مضمونة، ومن لا يقلق حيال الغد". وقد يحمل التعريف معاني إيجابية كالتمرّد، وعدم المبالاة بالوضع الاجتماعي، انطلاقاً من فلسفة خاصة بالعيش.

في البداية سألناه عن الصدى الذي حقّقه كتابه، فقال: "نشرت في البداية فصلاً منه في صفحتي على الفيسبوك، ووجدت تفاعلاً كبيراً شجّعني على الاستمرار، ثم نشر التجربة كلها.

لا شك أن الموضوع مليء بالتفاصيل المثيرة والأحزان، ويصلح لكتابة رواية ملهمة، لكن الإعيسر فضّل أن يكون سيرة مكثّفة، تشبه اليوميات والانطباعات. وعن ذلك يقول: "الرواية تتطلب قواعد وتقاليد معيّنة، لكني رغبت في الكتابة بعفوية وحرية ولغة صحافية مباشرة، توصل رسالتي للجميع".

تبدأ قصة الإعيسر من تلك اللحظة التي حمل فيها اسم جده "إبراهيم"، ثم اسم الشهرة "تراوري" تشبّهاً باللاعب المالي المعروف.

وإن كانت شخصيته تشبه أكثر الشاعر والفنان السوداني محمد بهنس، الذي توفي عام 2013 في ظرف مأساوي متجمداً في ليلة باردة في القاهرة، وهي النهاية التي أبكت الإعيسر قبل أن يجد نفسه يسير على خطاه.

بعد سنته الأولى في الجامعة، ترك الكاتب دراسته، ثم فقد والده وشقيقه، وتخلت بعدها عنه حبيبته المصرية، ثم جاء إلى القاهرة لدوافع تعليمية وثقافية، لكن أوضاعه المادية تدهورت بشدّة مع استمرار الحرب في السودان، فأحس بنفسه كشجرة يتيمة في الشارع، مع أنه "لو تطايبت النفوس، الفراش بشيل مية" كما يقول المثل.

بعدما لفظه البعض من بيوتهم، أصبح عليه أن يبحث عن مكان في الشوارع للنوم فيه، خرابة أو ظل شجرة، وكثيراً ما تعرّض للطرد بدافع الشك في كونه مجرماً أو مصاباً بمرض معدٍ.

بدا شاذاً في كل شيء، بسمرة بشرته، ونحوله، وقبعة الكاوبوي، وألوان ملابسه البوهيمية. واعتاد أن يسير بحقيبة صغيرة فيها بعض الملابس والعطور ومعجون أسنان وبعض الكتب وشاحن موبايل.

كان الإعيسر يعدّ خطة للحياة والأكل والشرب لمدة أسبوعين، بميزانية لا تزيد عن أربعمائة جنيه (ثمانية دولارات). وتنقّل للعيش في مناطق شعبية كثيفة مثل العتبة وفيصل وميدان عبده باشا في العباسية، وأحياناً وجد نفسه في مدينة جميلة مثل "الشيخ زايد" أو حي الزمالك الأنيق.

كما تنقّل بين مهن هامشية كثيرة، مثل غسل الصحون أو عامل نظافة في محال حلاقة، برفقة سودانيين آخرين نازحين، مجرد "عمالة سودانية رخيصة قادمة من خلف الحياة"، فلن يهتم أحد بأنه كاتب، أو أن صديقه جابو شاعر وحاصل على ماجستير في الهندسة الكيميائية، ويجيد ثلاث لغات.

يلخص ذلك كله بالقول: "أن تكون سودانياً في هذا العالم، أنت لا تعني شيئاً سوى أنك نصف إنسان، خلق ليحوم بين مفوضيات اللاجئين".

ولأن الكثيرين منهم كانوا من دون أوراق، كانوا يتحاشون الأماكن ذات المظاهر العسكرية والمستشفيات ومحطات المترو في القاهرة.

مع ذلك أحسّ بأن الوضع ليس مأساوياً تماماً، يكفي أنه سكن أحياناً في غرف بها "مروحة سقف"، ولديه موبايل وشاحن، ولن يستيقظ على أصوات الرصاص والانفجارات المدوية. لذلك حين اقترح صديقه العودة إلى السودان قال له: "أنت مجنون تريدنا أن نعود إلى الجحيم مرة أخرى؟".

في إحدى الليالي تعرّف على باحثة آثار بلجيكية تدعى أوليفيا رافائيل، تعاطفت معه وسألته عندما اكتشفت مدى ثقافته: "كيف لمثقف مثلك أن يعيش مشرداً؟" لكنه للأسف لم يكن أمامه أي خيار بعدما اختبر جحيم الحياة، وبقي من دون مأوى ولا عمل، وتنكّر له حتى من استضافهم في منزله.

في يوم حظه، جاءت امرأة من الغرب تجري الإنسانية في عروقها، لتنتشله من الشارع، فسألها: "كيف تثقين برجل غريب لا تجمعك به أي صلة؟ لا يجمعك به لون أو ثقافة أو دين أو وطن أو حتى لغة أم مشتركة، ويمكن أن يكون مجرماً أو مغتصباً".

فردت عليه باقتضاب: "لا تقلق، أنا أعرفك جيداً".

الهروب من الجحيم

يخصّص الإعيسر الفصل الثاني من كتابه لرحلة الهروب من الجحيم السوداني، عبر حافلة مرّت بقريته بوجود مليشيا الجنجويد، والمعارك التي دارت بينها وبين الأهالي، فاستغلّ الفرصة ورحل، تاركاً كتبه وصوره و"الجيتار" و"الكاميرا" وهدايا الأصدقاء.

خلال تلك الرحلة الخطرة، كان يتم توقيف الحافلة، وتدور الشكوك حول انتمائه إلى جانب  قوات الجيش أو الدعم السريع.

 كان يُسأل عن مسقط رأسه وقبيلته، وبعضهم شكّك في جواز سفره وهويته، واتهمه بأنه "مرتزق من النيجر". مع ذلك نجح في الوصول إلى "بورتسودان" لكنه فشل في الحصول على تأشيرة إلى السعودية، فاختار مصر عن طريق "عطبرة".

بطبيعة الحال، لم تكن التفاصيل سهلة ونقاط التفتيش بمثابة كابوس حقيقي، وعن مشاعره يقول: "كنت دائماً أشعر في داخلي بالخوف؛ فأنا لا أريد أن أقضي جزءاً من حياتي داخل سجن سوداني، كما لا أريد أن أموت داخل سجن كذلك، ولا أريد أن أكون أسطورة أو جيفارا أو نلسون مانديلا آخر".

بعد اثنتي عشرة ساعة في "عطبرة"، اتجه إلى لقاء المهرّب في السوق الكبير واتفق - بعد إلحاح وتوسط آخرين - على دفع 150 ألف جنيه بدلاً من 250، ثم انتظر في المقهى إلى أن تجمّع العدد في "البوكس" أو السيارة التي ستقلهم إلى الحدود المصرية.

رحلة تصلح فيلماً سينمائياً عن الجوع والخوف والتعب والبرد والتيه في الصحراء والتهريب، جعلته يسأل: "لماذا أنجبتنا هذه الحياة في السودان لنعيش التمزق  والتشرد؟"

ذاكرة الحب والفن

يأتي الفصل الثالث بعنوان "ذاكرة الحب" ويخص وصوله إلى القاهرة في يناير 2024، للقاء مع حبيبته "بيلسان" ذات الأصول اللبنانية، وتسجيل نفسه رسمياً كلاجئ، بانتظار فرصة قبوله كمهاجر في أستراليا أو باريس، كما قدم في "اللوتري" الأميركي ورفض.

 وخلال الدردشة معه قال إنه ما زال ينتظر فرصة الهجرة ومواصلة تعليمه في إحدى الجامعات الكبرى، ولا يخطط للعودة إلى السودان في المنظور القريب.

أما قصته مع "بيلسان"، فهي شابة لطيفة في الخامسة والعشرين، لكنها صدمته بعدم اكتراثها بالأهوال التي عانى منها، "وخوائها الفكري وحسّها المادي". وربما ثمّة قسوة في تصويره لها، خصوصاً أنها شابة صغيرة، فقدت زوجها في حادث سير في بيروت، وهي تعيل طفلتها "لونا" التي تحتاج إلى إجراء عملية في ألمانيا.

لكنه فسّر سلوكها كاستغلال له بحكم نشاطه الثقافي، خصوصاً في أوساط المجتمع السوداني، لتأسيس مركز ثقافي تديره، وبعدما حققت ذلك، وعالجت ابنتها اعتذرت عن الارتباط به.

وازدادت القسوة بين الطرفين حين لجأ إليها، وطلب منها مبلغاً صغيراً فأعطته، لكنها منّنته، وبعد خسارة الحب وجد نفسه مشرداً بوهيمياً.

ثم يأتي الفصل الرابع بعنوان "ذاكرة الفن"، ويتناول فيه علاقته بالفنون والآداب منذ عام 2015، والتحاقه بالجامعة في الخرطوم والانتباه إلى الفوارق الطبقية الحادة بين العاصمة والريف.

وأخيرًا تكتمل الدائرة، ويستأنف نشاطه ككاتب في القاهرة، ويراجع عشرات الكتب، وينشر بعض إبداعاته إضافة إلى عمله كوكيل أدبي لدار "عندليب" للنشر، رغم أنه في طفولته كان يتمنى أن يصبح لاعب كرة قدم في الدوريات الأوروبية.

لا يرى الإعيسر حكايته بسوداوية، ولا تخلو المشاهد الصعبة من طرائف وتعليقات ساخرة، لأن ذلك بمثابة خط دفاع ضد الجنون والانهيار. وأيضاً لم تكن الصورة دائماً قاتمة، بل أضافت إليه خبرات، وفتحت نوافذ ومسارات.

يقول: "رغم المعاناة الحياتية الكبيرة التي عشتها في القاهرة، لكن يمكنني أن أقول إني كنت سعيداً بهذه التجربة التي أشبعت فيها شغفي بالحياة وبالفن"، ويكرر في ختام سيرته: "لطالما هناك نبض للحياة هناك أمل للمحاولة".

تصنيفات

قصص قد تهمك